ملخص
تاريخ الدراما المصرية حافل بنماذج لمسلسلات غيرت مجرى نهايتها مثل "أرابيسك" منتصف تسعينيات القرن الماضي حفاظاً على التوجه العالم للجمهور.
منذ سنوات طويلة لجأ كتاب سيناريوهات المسلسلات الرمضانية أو غيرها إلى تغيير مسارات النهاية لأعمالهم الدرامية نزولاً على ميول المشاهدين التي تفرض نفسها على مدى أيام شهر الصوم أو حتى خارجه لكن من دون الإخلال بالسياق الرئيس للأحداث، لكن أخيراً بدت حالة من التخبط وعدم الاحترافية في هذا الأمر أمام "سيل الترند" الذي تفرضه "السوشيال ميديا" على بعض المسلسلات.
بالطبع الفن للجماهير، لكن أن يسير صناع الدراما المصرية على وجه الخصوص وراء رغبات المشاهدين التي قد تتناقض بدورها، أمر يحتاج إلى وقفة، فبين تيار يريد الانتقام والثأر وآخر يفضل العقاب القانوني، ثم ثالث ينتظر المسامحة، فإلى أي فريق يختار المبدع الانحياز أم أن سطوة "الترند" هي التي تتحكم؟
انقلاب درامي
ربما يكون المسلسل المصري "العتاولة" واحداً من أبرز النماذج التي تردد في شأنها جدل كبير يتعلق بإضافة مشاهد وحذف أخرى في اللحظات الأخيرة، مع إجراء تعديلات وتبديلات وتغييرات في مصائر الشخصيات، بعد النجاح اللافت والشعبية الكبيرة التي حظي بهما العمل خلال عرضه في الموسم الرمضاني الماضي.
المسلسل من تأليف هشام هلال وإخراج أحمد خالد موسى وبطولة أحمد السقا وباسم سمرة وطارق لطفي ومي كساب وفريدة سيف النصر، وجاءت الحلقات الأخيرة متسارعة الأحداث، بشكل بدا مبالغاً فيه إلى حد ما، بل هناك بعض الخطوط الدرامية التي ظهرت وكأنها بترت فجأة، في حين تم التمديد لشخصيات كان من المتوقع أن يكون مصيرها الهلاك وفقاً لما تم التمهيد له.
بدا الأمر واضحاً على سبيل المثال في دور "سترة العترة أم العتاولة" التي اختفت من دون مقدمات، وقيل إنها فارقت الحياة من دون أن تظهر الشخصية مريضة وعاجزة ومصابة بمشكلات عقلية مثلما كان مخططاً له، كما تم التمديد لشخصيتي "السبتي والبني" على رغم أن كل المؤشرات كان تدل على أنه من المقرر أن يتم الانتقام منهما وفق أكثر من دليل درامي، ولكن العكس هو ما حدث.
وعلى ما يبدو أن تحقيق العمل لشعبية ملاحظة خلال الموسم الرمضاني الماضي جعل الفريق يفكر سريعاً في تقديم جزء ثان لدرجة أن بعض الأدوار لم يعرف مصيرها على وجه التحديد، وجاءت الحلقات الأخيرة من دون إجابة عما حدث لها.
أسهم التفاعل مع المسلسل أيضاً في ظهور بعض الأبطال مثل باسم سمرة وطارق لطفي وهما يتحدثان إلى الجمهور ويتحدى أحدهما الآخر، في لقطة كسر فيها الجدار الرابع والحاجز الوهمي بين المشاهدين ونجوم العمل، وهي إضافة خطفت "الترند" ولكنها سببت ارتباكاً كبيراً، وكل تلك التفاصيل كانت متأثرة بحجم وطريقة التفاعل معه خلال عرضه الأول.
هنا بدت التغييرات وليدة تلك المتابعة ومتوائمة معها، فهل بدا الأمر معقولاً ومقبولاً بالنسبة إلى مؤلف المسلسل هشام هلال؟ على رغم كل هذا الجدل فإن كاتب العمل فضل عدم التعليق على هذا الأمر في الوقت الحالي، مشيراً إلى أنه يرى أن لكل حادثة حديثاً وأن الظرف المناسب للكلام في هذه النقطة قد يأتي لاحقاً.
إحجام هلال عن التعليق جاء وسط تأكيدات من الشركة المنتجة بأنه من المقرر تقديم موسم ثان من المسلسل ولكن حتى الآن لم يتم الكشف عن التفاصيل.
غموض وتشويق بلا سقف
الملاحظ أن تورط الجمهور مع أي حلقات درامية مسلسلة وانغماسهم في متابعتها يعطي صناعها أفكاراً ويمكن أن يسهم في توجيه طريقة الدعاية وحتى في بعض تفاصيل الأحداث، فوفقاً لتصريحات بعض نجوم المسلسل المصري "صوت وصورة" الذي عرض على مدى 30 حلقة انتهت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، فإن المخرج محمود عبدالتواب تعمد إرباك الجمهور ولعب معه بنشر صورة عبر "السوشيال ميديا" ليس لها علاقة بالأحداث الحقيقية للمسلسل، والتي أسهمت في توجيه أنظار المتفرجين ناحية شخصية سعاد التي جسدت دورها فدوى عابد باعتبارها قاتلة الدكتور عصام الصياد الذي أدى شخصيته مراد مكرم، ولكن تبين في ما بعد أن الهدف كان تشتيت المشاهدين وضمان متابعة العمل لحصد مزيد من التفاعل باعتباره من أبرز مظاهر النجاح.
وقالت الفنانة ناردين فرج التي جسدت شخصية المحامية ماجدة علوان إن المسلسل الذي شارك في بطولته كل من حنان مطاوع ووليد فواز وصدقي صقر، أثارت حلقته الأخيرة الحيرة بخاصة أن قطاعات من الجمهور لم تقتنع كثيراً بأن القاتل هو وليد عبود شقيق المحامي لطفي عبود الذي أدى دوره الفنان أحمد ماجد، موضحة أن هوية القاتل لم تحسم حتى كتابة الحلقة الـ15 من العمل، فالكتابة ظلت مستمرة حتى أثناء التصوير والعرض، ومع اهتمام الجمهور المتزايد بالعمل المشوق اختيرت شخصية كانت بعيدة تماماً من خيال الجمهور ولم يتوقعها بالمرة لتكون هي القاتلة إمعاناً في الغموض والإثارة!
تجارب عالمية
في المسلسل الشهير "فريندز" أو "الأصدقاء" الذي عرض على مدى 10 مواسم من 1994 إلى 2004 كانت هناك خطوط درامية من المفترض ألا تستمر طويلاً وبينها على سبيل المثال العلاقة العاطفية بين تشاندلر بينغ "ماثيو بيري" ومونيكا غيلر "كورتني كوكس"، ولكن نظراً إلى الحماسة الواضحة التي استقبل بها المتابعون هذا التحول في علاقة الصديقين، قرر فريق الإنتاج التركيز على هذا الثنائي وتغيير مسار الأحداث لاستغلال الإقبال الكبير على المتابعة.
ومنذ سنوات طويلة تتعالى الآراء التي تشيد بطريقة سير العملية الإنتاجية في الدراما التركية، فيتم الاستناد دوماً إلى ما يسمى "الرايتنج" أو معدل المشاهدة، وفق إحصاءات دقيقة تهتم بقياس نسبة متابعة المسلسلات التلفزيونية من قبل الجمهور، ووفقاً للآراء يتم الإبقاء على شخصيات محددة أو إنهاء غيرها، أو حتى يتوقف المسلسل بأكمله عند عدد حلقات قليل للغاية وعدم استكمال موسمه الأول إذا ما تدنت نسبة متابعته، فمصير العمل نفسه مرهون بتقييمات الجمهور في الشخصيات وفي الحبكة، وإذا سقطت في اختبار الشعبية تتوقف الشاشات عن عرضها بصورة تلقائية.
ولكن قبل القرار النهائي يكون هناك محاولات وفرص، فيتم دراسة السلبيات والإيجابيات أملاً في تحسين الجودة وذلك بالاشتراك مع فريق الكتابة والإخراج للوصول إلى توليفة ترضي الجمهور وهذا يحدث في معظم الأعمال، وبالعكس بالطبع يتم استكمال المسلسلات التي تنال حظاً وافراً من التفاعل لتمتد عبر مواسم متعددة، باعتبار أن الدراما صناعة تحقق مكاسبها الأساسية من الإقبال والمتابعة ومن ثم الإعلانات فترتفع أسهم صناعها ونجومها، فهل محاولة وضع آراء المشاهد العربي في الاعتبار، أفسدت المسلسلات الدرامية في المنطقة العربية أم على العكس منحت عملية المتابعة والإنتاج زخماً وارتفعت بالمستوى الدرامي والتشويقي؟!
تعديلات بالمصادفة!
يقول الناقد أندرو محسن إن هذا التوجه ليس بجديد بل معمول به منذ عقود، ولكن الفكرة في كيفية تعامل الصناع مع آراء الجماهير من دون أن يحدث انقلاب على الرؤية الأساسية للقصة، على ألا يظهر العمل بصورة ممسوخة وكأنهم ينفذون كل رأي يقوله المتابعون، لافتاً إلى أنه لا يمكن تقييم هذا الأمر سلباً أو إيجاباً بصورة قاطعة.
وأضاف، "لكن في بعض الأوقات يتم اللجوء لتلك الطريقة في مصر نتيجة قصور في التزام الجدول الزمني للحلقات سواء في ما يتعلق بمرحلة الكتابة أو التصوير أو التنفيذ ومن ثم العرض، فنجد أن الحلقات تصنع من الأصل على الهواء، ومن ثم تحدث التعديلات بناءً على ردود الفعل لأن هناك تأخيراً في التسليم وبالمصادفة حدث تفاعل معين من قبل الجمهور يتم السير وراءه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في رمضان 2023 أيضاً أثار المسلسل المصري "جعفر العمدة" بطولة محمد رمضان وسيناريو وإخراج محمد سامي لغطاً كبيراً، وظهرت الفنانة هالة صدقي التي جسدت شخصية الحاجة وصيفة في العمل في فيديو قبيل عرض الحلقة الأخيرة، لتؤكد أنها اضطرت إلى العودة للبلاتوهات لتصوير لقطات إضافية وذلك بعد أن كانت انتهت بالفعل من مشاهدها.
ولفتت إلى أن السبب في ذلك يعود إلى حرق الأحداث لأن توقعات الجماهير لمصير الشخصيات دعت فريق العمل إلى إدخال تغييرات جديدة بعد التفاعل غير العادي مع المسلسل، وهو الفيديو الذي سبب أزمة فقامت بحذفه واعتذرت في ما بعد، وعلى رغم أن مخرج المسلسل محمد سامي عاد وقال إنه لم يكن هناك تغيير بالمعنى المفهوم وإنما إعادة بعض اللقطات بسبب مشكلة في زوايا التصوير، فإن الفنان طارق النهري صاحب شخصية حمادة فتح الله أوضح أن شعبية المسلسل وطريقة تجاوب الجمهور مع شخصياته في الشارع كانت عاملاً رئيساً في اتخاذ قرار بتغيير النهاية.
وأكد النهري أنه اتفق على الحفاظ على نجاح المسلسل بين المتلقين في البيوت وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، مشيراً إلى أن النهاية الأساسية كانت تحمل عنفاً شديداً ولكن المخرج قرر تعديلها بعد أيام من انتصاف الحلقات لكي يخرج العمل بختام يرضي محبيه، وثأر البطل لشقيقه وانتقم من أعدائه ولكن من دون الإفراط في مشاهد القتال.
الجمهور والرقابة... يد واحدة
الأمر كان قد تكرر مع محمد سامي ومحمد رمضان في عمل من تأليف محمد عبدالمعطي عام 2016 حمل عنوان "الأسطورة"، حين فوجئ صناعه أنفسهم بالنجاح الجماهيري الضخم غير المتوقع، وتحدث عدد منهم أن النهاية الأساسية كانت تتمثل في أن يستيقظ رفاعي الدسوقي من نومه، ويكتشف أن كل تلك الأحداث كانت مجرد حلم، ويذهب ليبارك لشقيقه ناصر الدسوقي بالزفاف.
في هذا المسلسل كانت تقوم الحبكة على البطل الذي يحترف الخروج على القانون بعد أن يتعرض للظلم في حياته، ولكن بعد الاهتمام الواسع بالعمل وارتفاع نسبة مشاهدته شعر صناعه أن تلك النهاية قد يعتبرها الجمهور استخفافاً بعقله، فجرى استبدالها بأن يتم القبض على البطل ناصر الدسوقي ويعترف بجرائمه وتحال أوراقه إلى المفتي تمهيداً لإعدامه، كما نسب تصريح لمحمد رمضان يشير إلى أن فريق "الأسطورة" تعرض لضغوط كبيرة لتغيير النهاية كي ينال المجرم عقابه لتكون هناك رسالة أخلاقية، وهو ما حدث بالفعل.
لكن في عام 2022 شهدت الحلقات الأولى من مسلسل "دنيا تانية" بطولة ليلى علوي ومجدي كامل وفراس سعيد مشاهد وصفت بالخادشة وتحمل إيحاءات واضحة تتعلق بزنى المحارم بحسب الآراء المعترضة، وأثار العمل ضجة في هذا الشأن، ليتدخل المجلس الأعلى للإعلام ويطالب بإيقافه ويحذر القنوات العارضة له بسبب تلك المحاذير الرقابية.
وبالفعل سارع صناع العمل إلى إجراء تعديلات سواء بإعادة مونتاج الحلقات التي كانت جاهزة بالفعل وبعضها عرض، أو على باقي الخطوط الدرامية للشخصيات وبينها شخصية البطلة الرئيسة، لتفادي الاعتراضات التي جاءت من أكثر من جهة رسمية بناءً على تعليقات المشاهدين، وأدخل كثير من التغييرات على سير الأحداث تجنباً لإيقافه بالكامل.
وعلى رغم أن وضع آراء الجماهير في الاعتبار وتغيير مسار الأحداث بناءً على موقفهم من العمل بدا ملحوظاً للغاية في الدراما المصرية خلال السنوات الأخيرة، ولكن يعود الناقد أندرو محسن ليشير إلى أن عالم صناعة المسلسلات بصورة عامة قائم على أنه فن يعرض للمتلقي الذي يتفاعل تدريجاً مع الحلقات، لذا فمن الطبيعي أن يتم قياس مدى رضاه عن المادة المقدمة.
ونبه أندرو إلى أنه عالمياً تتحكم ردود فعل الجماهير في تغيير مصير بعض الشخصيات ولا سيما في الأعمال ذات المواسم المتعددة، سواء باستمرارها أو بإيقاف أدوارها، فهناك شخصيات كانت من المفترض أن تكون ظهوراً ثانوياً، ولكن بعد الاستقبال الجماهيري الحار تم استبقاؤها لفترة أطول.
ومن المتداول أيضاً أنه حتى مسلسل مصري شهير مثل "أرابيسك" الذي كتبه الراحل أسامة أنور عكاشة في منتصف تسعينيات القرن الماضي كان من المفترض أن تكون نهايته هي زواج البطل حسن النعماني "صلاح السعدني" بـ"توحيدة" التي أدت دورها هالة صدقي، ولكن تغير توجه الحلقة الأخيرة وذلك بناءً على ردود فعل محددة.
ويختم الناقد المصري حديثه بقوله إن المحدد الأساس يتعلق بالتقييم الكامل للمسلسل ككل، فاتخاذ الفريق قراراً بالاهتمام بنقطة معينة ستزيد من الإقبال الجماهيري أمر مقبول ما دام لن يضر بالرؤية الدرامية من البداية.