Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الراقصون في عرض "خدر" لا تلامس أقدامهم الأرض

حصرت المخرجة السورية رهف جابر حركة الأداء فوق كتلة معلّقة من الخشب والمعدن

مشهد من عرض "خدر" بين الرقص والمسرح (خدمة الفرقة)

ملخص

يتميز عرض "خدر" السوري، الذي يدمج بين الرقص والتمثيل، في كونه يدور فوق كتلة معلقة في فضاء المسرح، مما يجعل المؤدين يمارسون اللعبة المسرحية بطريقة تعبيرية خاصة.

مزجت الفنانة رهف الجابر التمثيل بالرقص في عرضها "خدر"، والذي يندرج ضمن مسرح الجسد، ويتبع منهجاً تجريبياً حاولت الكريوغراف والمخرجة السورية استنباط أنماط حركية مرتبطة بذاكرة الجسد الشاهد على الحرب، وعبر مستويين واقعي ورمزي. يناقش العرض الذي قُدِّم على مسرح دار الأوبرا في دمشق فكرة انعدام الثبات النفسي الذي ينقلب خدراً  يسيطر على تفاعل الشباب السوري مع محيطهم الخارجي، وكيف يترتب على هؤلاء الشباب حماية أنفسهم من تأثيراته ومتغيّراته، وصولاً إلى حالة من "الخدر" تجعل منهم راضين وقانعين بأسوأ الظروف، لمجرّد شعورهم بالتهديد من اختبار ظروف أشد سوءاً.

وجاء العرض الذي أنتجه كل من "الصندوق العربي للثقافة والفنون- آفاق" و"المورد الثقافي" فرصة لدمج مهارات الرقص مع التمثيل عبر شراكة جمعت أربع راقصات هن: تيما الغفير، ورهف الجابر، وعليا السعدي، وكارمن علي، مع ثلاثة ممثلين هم بشار أبو عاصي وعلي خزامي وعلي فطوم. حاول المؤدون السبعة تقديم ساعة من الزمن لمجموعة من الجُمل الحركية المتتالية ضمن ظرف صعب للغاية، إذ انحصرت حركة هؤلاء طوال العرض فوق كتلة معلّقة من الخشب والمعدن (سينوغرافيا كنان جود) ومن دون أن تلامس أقدامهم أرض المسرح ولو لمرةٍ واحدة.

هذا الشرط الفني لم يكن اعتباطياً من مخرجة العرض ومصممته، فقد توزع الأداء على ثلاثة مستويات تبعاً للخوف الذي حاصر هؤلاء. فعلى المستوى الأعلى من هذه الكتلة يزداد الاعتياد على مشاهد الموت اليومية، وفي المستوى المتوسط يخفت ويقل، ليندحر "الخدر" في المستوى الأقرب إلى الأرض، لكن من دون أن يختفي هذا الإحساس الجماعي من الاعتياد على مناظر الدم والقتل والاغتصاب. نعثر هنا على قصص لكل مؤدٍ ومؤدية تعود إلى الطفولة. فهناك الفتاة التي قصّت شعرها عندما كانت لا تزال طفلة نزولاً عند رغبة والدتها، فأمست مثالاً للتصنع والكذب والهرب من أنوثتها. وثمة شخص أضاع  والدته عندما كان صغيراً، ثم التقى بها شاباً، ففقد أية صلة بالأمومة، واستحال عدواً لها.

حالات عديدة يطرحها عرض "خدر" عن الجوع والبرد والفقدان والهجر، وحالات أُخرى تقود الراقصات والممثلين إلى نوبات من الهلع والخوف من الرطوبة والعفونة التي أصابت أجسادهم وجعلتهم يرتجفون عراة أمام وجودهم. بدا العرض في هذه التنويعات النفسية عن الإحباط والريبة، أقرب إلى سفينة أو قارب محاط بالعتمة، فالمؤدون ظهروا كأنهم معلقون بين السماء والأرض، ولا رجاء لهم سوى استعادة فيلم رعب مخزون في ذاكرتهم منذ سنوات الطفولة.

الشيخ إمام والتكنو

حاولت رهف الجابر تقطيع الحركة عبر موسيقى (علي سليمان) التي استندت هي الأخرى إلى دمج أغنيات الشيخ إمام مع مقطوعات من موسيقى التكنو، من مثل أغنية "يا ولدي" التي جاءت في سياق نداء بعيد ويائس بين الآباء والأبناء، وما فعلته سنوات الحرب بهم. هذا الحصار النفسي جسدته الجابر بتصميم جسدي محكم، وحاولت الانطلاق دائماً من الحركة السابقة لخطوات على حبال وممرات سرية بين مستويات الكتلة الثلاث وحوافها، مما جعل المهمات المترتبة على المؤدين صعبة لناحية التوازن والانفلات من جاذبية الأرض نحو آفاق اللعب مع الجسد، وإغناء حضوره المتأرجح بين الخوف من العذاب أو الوقوع فيه.  

فكرة العرض الأساسية (دراماتورجيا كمال بشير) جاءت من حادثة تفجير حافلة في شوارع دمشق عام 2021 وموت جميع ركابها، وكيف لاحظت الجابر عند ذهابها إلى التدريب في المعهد العالي للفنون المسرحية في صباح الحادثة، استمرار الحياة العادية، واعتياد الناس على مشاهد الموت اليومية. وعليه بنى العرض توجهه من مقولة للأديب ممدوح عدوان (1941-2004)، وهي: "نحن لا نتعوّد يا أبي إلا إذا مات فينا شيء، وتصوَّر حجم ما مات فينا حتى تعوّدنا على كل ما حولنا".

من هنا بدأت رحلة التمارين على عرض "خدر" لمدة عام تقريباً، وتمكنت رهف الجابر من إيجاد معادل فني لحالة الحياد المزمنة التي أصابت الشارع السوري بعد سنوات الحرب الطويلة. ولعل المسرح الجسدي هو أبرز تلك الفنون التي تتيح هذا النوع الحر من التعبير، فمسرح الأداء الحركي لا يخضع عادةً للمعايير الرقابية التي تخضع لها عروض المسرح التقليدية، وهذا ما جعل "خدر" يجترح مساحات جديدة أكثر تحرراً في صياغة خطاب صامت في ظاهره، لكنه يزدحم بضجيج الجسد وارتطاماته. فذهبت مخرجة العرض إلى نوع من تأليب الذاكرة الانفعالية للمؤدين، وخرجت عن سياق دراما الحوار المنطوق إلى حوار الجسد الراقص مع التمثيل الصامت (البانتوميم).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المعالجة الفنية لفكرة "الخدر" بدت في هذا المستوى جريئة على أكثر من مستوى، وساندتها في ذلك الإضاءة (محمد نور درّا) لخلق فراغ حول الكتلة المتعددة الاستعمالات، والخروج نهائياً من أبعاد الخشبة الإيطالية إلى تركيز بؤرة الفرجة نحو أفعال - وردود أفعال- المؤدين في لقطة أقرب إلى قطعة ديكور مقتبسة من عالم السيرك. فشخصيات عرض "خدر" مسجونة في شكل هندسي بيضوي ينوس بين حباله وأخشابه وعوارضه المعدنية، وهي شخصيات أقرب إلى "عميان" البلجيكي موريس ماترلنك (1862-1949) ونزوعهم الصوفي نحو فكرة المخلّص.

وبالنظر إلى التكنيك المعتمد في العرض يمكن ملاحظة تركيز الأداء على صيغ فردية متجاورة، وأُخرى انضوت في إطار ثنائيات حركية، مالت في نهاية كل مقطع إلى صيغة جماعية، من دون الانسحاب إلى شكل الجوقة الحركية. فلكل مؤدٍ ومؤدية فقرته التعبيرية، والتي حرصت مصممة العرض على إيجاد صلة حركية فيما بينها. وهذا ما ظهر في كثافة العوالم الداخلية للمؤدين، وعدم الركون إلى الحركات الفائضة عن الحاجة، بل بالعكس كان هناك محاولة لتوظيف اللحظة الدرامية لصالح حضور الجسد بلا  تكلف، ولا انقطاع بين جملة حركية وأُخرى، مما ساهم في ضبط إيقاع العرض ككل، وإطلاق الطاقة إلى أقصى مدياتها.

اللافت في "خدر" أيضاً هو التركيز على الحركة المتدفقة عبر لغة رمزية، ودفع جسد المؤدي إلى إيجاد وقفاته بنفسه، والانطلاق من مراكز ثقل متنوعة في الحركة. فالجسد في العرض استحال إلى نبضات بسرعات مختلفة، وأصبح جسم الراقص بأكمله آلة مفصلية فذة تعمل بتوافق مختلف المراحل العاطفية، مما جعل الجسد في العرض السوري أشبه بأوركسترا موسيقية لعزف القدمين والكتفين والردفين والوجه واليدين. كل عناصر هذه السيمفونية التحمت في وحدة أسلوبية لا يمكن تحقيقها إلا بأعلى درجات التكنيك، والامتثال لموجة من البث الداخلي تنبع من أنا المؤدي ورغبته في التعبير عن عالمه الشعوري العميق.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة