Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القرني: القصيبي حذرني من ظن نفسي "خميني" السعودية! (2 ـ 2)

إذا كان "البودكاست" على خطى زمن الصحوة و"الكاسيت" فإليكم أخطاءنا لا تكرروها... و"الخلافة" قد تكون نكبة وليست حلاً

الداعية السعودي عايض القرني (موقع بلقرن الرسمي)

ملخص

يقول الداعية السعودي عائض القرني إنه لم يتراجع عن اعتذاره وإنه ما زال يقول إن الصحوة أخطأت ولا سيما في مواجهة الدولة وإخفاء بعض الأجندة السرية التي لا يعلم المريدون عنها شيئاً، وكذلك تهميشها العلماء الربانيين الراسخين في علمهم ونصحهم وتجربتهم، وانسياقهم خلف الوهم بأنهم أعلم بأمور الحل والعقد من أولي الأمر.

مرت فترة طويلة على آخر حوار أجريته مع الداعية السعودي المثير دائماً للجدل عائض القرني، إلا أنه ظل الشيخ نفسه في بساطته وكوميديته النادرة، للدرجة التي جعلت بائع فول في مراكش يستكثر عليه أن يكون مؤلف كتاب "لا تحزن" الذي زاحم الحديث عن "الإخوان المسلمين" أفكاره الإيجابية هذه الأيام، وهو الذي يملك مهارة فائقة في مجاراة التحولات، من أحد صقور "الصحوة" الأشداء على المخالفين إلى مناصح للمتطرفين، قبل أن يصبح نجماً تلفزيونياً وكاتباً ينثر دواء الحزن على المكتئبين حول العالم، يوم ترجم كتابه إلى عشرات اللغات، وهكذا وفق معادلته التي لا تخلو من طرفة "يجرح ويداوي".

سألته ألسنا في مرحلة أكثر اتساقاً مع محتوى "لا تحزن" وأحاديثه الشيقة والإيجابية، عوضاً عن أشباح "الإخوان" والقتل والصراع؟ فقال ساخراً "ما تركونا في حالنا، كي يذهب عنا الحزن لا بد من مواجهة أفكارهم، فهي التي جلبت كثيراً من المتاعب، والتنبيه على الأخطاء يزيل الأحزان".

ليس كل متأثر بـ"الصحوة" إخوانياً

وماذا عن الصحوة؟ "إنني عندما ذكرت أخطاء الإخوان الـ10 الرئيسة، فإنني أعني الصحوة كذلك، فهي إنما قامت على تيارين هما ’السرورية والإخوان‘، وحتى المبادئ والأفكار التي كنا ننادي بها، هي نفسها التي لا يزال التنظيم يدندن حولها، وكثير من شباب الصحوة قرأ كتب الإخوان ولا يزال بعضهم متأثراً بها".

لكن لفت إلى أن هذا لا يعني أن كل متأثر بالصحوة إخواني، فهي "ظاهرة تيارات مشتركة أنا أعرفها تماماً، من يتكلم أحياناً عن الصحوة لم يخبرها من الداخل، أما أنا فكنت صاحب تجربة". بل أنت أحد صقورها الأربعة، أم أنك ترى الآن خلاف ذلك؟ "لست أنكر ذلك، حتى المذيع عبدالله المديفر في حواره معي قال لي إنك من أعمدتها، الشاهد أن الصحوة قام بها ناس من الإخوان والسرورين وناس مستقلون، وشارك فيها الناس، وكل نشاطها كان مكشوفاً للدولة، وكان العلماء الكبار يحضرون بعض مجالسها، وكانوا يشاركون، أنا حضرت خمسة مخيمات في الرياض، حضر بعضها الشيخ بن باز على سبيل المثال وغيره من العلماء كذلك، فهي تيارات، لكن من أكثر من أثر في الصحوة الإخوان".

لهذا اعتذرت وما زلت أعتذر

وهل لسبب ذلك اعتذرت عنها، أم أنك تراجعت عن الاعتذار أيضاً؟ "لا، لم أندم على اعتذاري، وما زلت أقول إن الصحوة أخطأت ولا سيما في مواجهة الدولة وإخفاء بعض الأجندة السرية التي لا يعلم المريدون عنها شيئاً، وكذلك تهميشها العلماء الربانيين الراسخين في علمهم ونصحهم وتجربتهم، وانسياقهم خلف الوهم بأنهم أعلم بأمور الحل والعقد من أولي الأمر".

لماذا لا تصارح الناس ببعض تلك الأجندة التي تقول إنها سرية، لربما هم لا يعرفونها؟ عن ذلك يضيف "ربما قصدهم أيضاً إصلاح الناس ولنكن منصفين، إنما على منهج الإخوان، يهيئون الناس لتقبل الخلافة، التي هي مشروعهم الأكبر".

وتابع "أنا لا أكتمك سراً، لما اعتذرت عن الصحوة وأخطائها قال كثيرون ماذا يعنيني في الصحوة، لأعتذر عن نفسي، وهذا غير دقيق فأنا لم أكن مهندساً أو مزارعاً، كنت داخل الصحوة ومن المؤثرين فيها، فمن باب المسؤولية علي الإيضاح والكشف عن الأخطاء، لكن الغالبية رأوا صواب الخطوة التي أقدمت عليها، كما أنني سمعت من قال إنني قلت ما قلت ليس اقتناعاً وإنما مجاملة للرأي العام".

وهل أنت فعلاً لم تكن مقتنعاً وقتها، أو متردداً في الأقل "بالله عليك، هل واحد عنده ذرة عقل يشوف الأخطاء بعد هذا العمر ويسافر إلى 200 مدينة في العالم ويقرأ ليل نهار، ثم لا يدرك كم كنا مخطئين في مصادمة الدولة وتهميش العلماء، وأخذ الناس بالشك والغلظة والفظاظة بخطاب متجهم مليء بالمزايدة؟ كل هذا معروف ويشهد به الناس، فلماذا رأوا الاعتذار عنه غير وجيه أو أنه يخالف قناعاتي الجديدة، هل دخلوا في نيتي"؟

الخطاب المعتدل غلب ولا أرى "خلايا نائمة"

وعند الاستدراك حول ما إن كان يعتقد أن التشكيك الذي أعقب اعتذاره مع الزميل المديفر في حوار على "روتانا خليجية" 2019، يعود لما كتب عنه كثير من الكتاب والمثقفين في السعودية والخليج، من أن أفكار "الصحوة" لا تزال متحكمة في أذهان عديد من الجمهور أم لا؟ إلى حد رأى بعضهم أن للتيار "خلايا نائمة" لا تنتظر سوى الفرصة المواتية لتظهر، عندها قال "أنا لم أجر استقراء للناس فلا أدري، ولكن الآن الحمد لله الخطاب المعتدل الوسطي غلب، إذ أتت أجيال بعد أجيال وولد ناس كثير بعد الصحوة، وطبيعة الجمهور أنه يقتنع بالخطاب الموزون والمسند بالحجج والبراهين، ما يستطيع إنسان أن يقول ثمة خلايا نائمة، لكن عموماً عندما تأتي الحجة والبرهان والدرس والإعلام والتعليم سينتهي هذا كله".

هم يقولون إن الجهد الأمني والتنموي الذي تشهده السعودية ودول في الخليج لا يوازيه آخر فكري بمستواه يدحض الأفكار القديمة، بمثل المراجعات التي قمت أنت بها؟ أنت ماذا ترى؟ يجيب عن ذلك الداعية السعودي قائلاً "الجهد الفكري مطلوب، والإجابة عن الشبه تحتاج إلى عمل متواصل لا ينقطع".

ومن بين أبرز الكتاب الداعين حركة الصحوة إلى مواجهة أفكارها القديمة ونقضها بشجاعة حماد السالمي، الذي تساءل في سلسلة مقالات نشرتها صحيفة "الجزيرة" السعودية عما يمنع "رموز الصحوة الذين كانوا يعتلون المنابر ويسودون المحابر، ويعلمنون ويلبررون ويفسقون ويكفرون ويحرضون وينفرون شبابنا لجهاد مزعوم هنا وهناك، مدعين أنهم سدنة الدين والدنيا. لماذا الآن.. الآن.. لا نسمع لهم صوتاً، ولا نرى لهم فعلاً! لماذا لا يظهرون اليوم في شجاعة الشجعان ونباهة اليقظان، ليكشفوا عن معدنهم وأصالتهم وحميتهم الوطنية، فيقولوا - إن صدقوا - بأنهم كانوا مضللين ومعصوبي الأعين، يوم أن تقدموا للخطابة والكتابة والترويج للمشروع الإخواني الانقلابي الخطر، الذي كان يستهدف الدين والدولة والمجتمع"؟

"الخلافة" صارت مثل ادعاء النبوة

في هذا السياق جاء التساؤل عن فكرة "الخلافة" التي ظلت حلماً منشوداً يحن إليه الإسلاميون من تيارات عدة حتى جاءت "داعش" وزعمت أنها "دولة الخلافة" المنتظرة، ولفت إلى أن "الخلافة صارت مثل ادعاء النبوة، كل ما قتل مدع لها جاء آخر، وهي ليست ركناً من أركان الإسلام، ولا شرطاً لصحة قيام شعائر الدين، وإنما الذي جاء في السنة بأن خلافة في آخر الزمان تقوم على هدي النبوة، فهي في علم الغيب، ولا يمكن الجزم بالمكان والزمان والشخص المعني بذلك، لكنهم أرادوا تعليق الناس بذلك الوهم لحشدهم وضمان ولائهم، مثلما تنتظر الطوائف الأخرى من الشيعة الإمام الغائب، وأقاموا عوضاً عنه ولاية الفقيه ليتحدثوا باسم الدين في ما لم يأذن به الله".

 

 

وأضاف "أنا درست هذا الفكر، الإخوان يرون أنهم ورثة الخلافة التركية التي انتهت منذ نحو 100 عام، ويرون أن الضربات ضدهم تقويهم، ويقولون إنها رصيد لهم للوصول إلى الخلافة التي أسقطوها على أنفسهم، ولذلك ركزوا على مسلكين هما "توحيد الحاكمية لتكفير الحكام، وجاهلية القرن الـ20 لتكفير المجتمع، ليبقى الإخوان المنقذ والحل، هكذا يتصورون".

وعند مناقشته فكرة "الخلافة" التي تتردد في خطب كل تيارات الإسلام السياسي من "الإخوان" إلى "داعش"، يعتبر أن "هذه الخلافة التي أزعجونا بها قد تكون ’نكبة‘، والله لا يعيدها من خلافة رأى آباؤنا بأم أعينهم كيف كانت وبالاً عليهم في عهد العثمانيين، لولا أن الملك عبدالعزيز ألهمه الله وسدده ونصره في بلادنا لكنا في نفق مظلم مع الدول العثمانية التي ذهبت بالأخضر واليابس من بلادنا، والله ما تركت جامعة ولا تعليماً ولا صحة ولا زراعة، وتركت السعودية أرضاً خراباً، فهدمت نجداً بعد سقوط الدرعية (الدولة السعودية الأولى)، وهدمت الجنوب وكل بلد في الجزيرة العربية وجدت فيه، لكن الملك عبدالعزيز كان موفقاً حين أعلن بلاده دولة إسلامية ولم ينتظر وهم الخلافة، فحصل بدولته الخير الكثير، فلو جلس مثل أماني الإخوان حتى تأتي الخلافة ويمنينا بها لما كنا كما نحن اليوم، حتى صارت المملكة قبلة للدين والدنيا، والله أعطاه على نيته الطيبة".

ويعتبر الداعية القرني أن أكثر تمجيد التيار الإخواني تركيا أردوغان هو على سبيل تسويق ما سماه "وهم الخلافة" على حكام أنقرة المتأثرين بالأيدولوجيا العثمانية وفلسفة حسن البنا في العقود الأخيرة، "ولذلك يركزون على شيطنة السعودية بوصفها المحورية التي يرونها عقبة في وصولهم إلى الخلافة، وكل ذلك أفكار يدغدغون بها مشاعر السذج ويضحكون بها على البلهاء، والأتراك أرادوا ذلك ذريعة لاستعادة نفوذهم، فوجدوا في الإخوان حلفاء يتفقون معهم على هذا الهدف بعيد المنال".

جهد نقض "شبهة الخلافة" لا يزال ضعيفاً

ولدى مناقشة القرني في الذي يمنع الفقهاء المعتدلين من نقض شبهات التيارات المتطرفة في حشد المجاميع وتجييش الشبان باسم "الخلافة"، رد بأن "الخلافة ظلت شبهة كبيرة تحتاج إلى عمل فقهي كبير لرد شبه الداعين إليها، فعلى مر التاريخ قتل أناس في سبيل طلبها، وفي العصر الحالي كان حسن البنا مؤسس تنظيم الإخوان مأسوراً بحلم الخلافة، ويقول إنها ستكون من طنجة إلى السند دولة واحدة، فاستعدوا، وهكذا جروا على أنفسهم وعلى الأمة المشكلات، حتى إنهم تركوا الكتاب والسنة وانشغلوا بالانتخابات والأفكار التي لم تكن من صميم دعوة الإسلام، وعلى مثلهم يصدق قول ابن تيمية عن الخوارج لا حقاً نصروا ولا عدواً كسروا ولا بملك ظفروا".

 

 

ورأى أن هيئة كبار العلماء في بلاده قد ترى من المناسب أن تنهض بهذه المهمة هي والمجامع الفقهية ذات الصبغة المؤسسية لدحض "نظرية الخلافة" التي ظلت مثل "السنارة" تصطاد بها التيارات المتطرفة من يطربون لذكراها غير المدركين لمغزى تلك التيارات، خلف التباكي عليها والدعاية لها، "وليس هناك أكثر مما فعلت داعش باسم إعادة الخلافة، لنعرف كم هي فكرة خطرة وقابلة للاستغلال"، مشيراً مع ذلك إلى أنه حتى في عهود مضت كانت فيها الخلافة قائمة أيام العثمانيين وبعض الأمويين والعباسيين، حدثت أمور غير محمودة "فلم تكن حلاً سحرياً ولا خالية من العيوب، كما يوهم الإخوان الناس".

هذه حكايتي مع القصيبي

وفي السياق يروي القرني كيف أن "الصحوة" التي كان أحد أركانها، تبنت هذا الطرح الذي لا يزال رائجاً بين جماعات الإسلام السياسي، الذي يحلم بعودة "الخلافة" والوصول إلى الحكم عبر الثورة، مما قاد إلى سجال بينه وبين السياسي والأديب السعودي الراحل غازي القصيبي، الذي حذره من خداع النفس بظن نفسه "خميني السعودية"، عبر تثوير المجتمع، ولا سيما فئات الشباب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكان لذلك قصة قال إنها سببت جفوة عريضة بين القصيبي ورموز الصحوة يومئذ عامة، وهم سلمان العودة وسفر الحوالي وناصر العمر وعايض القرني، إذ كان مدافعاً صلباً عن التنوير والاستقرار في السعودية والخليج على النقيض تماماً من خطاب الصحوة الرائج حينئذ.

وقال "في تلك الفترة حدثت مناوشات بيننا وبين القصيبي، فكان يرد علينا ونرد عليه، وذات مرة قال في الرد على أحد أشرطتي ’لا يضحكون عليك، وتظن نفسك خميني السعودية‘، وكنت يومها شاباً متحمساً، وجاء ذلك في مقالة صحافية، جمعها وأخريات في هذا الموضوع في كتيب له منشور، سماه ’حتى لا تكون فتنة‘، ثم انتهت الصحوة وبعدها حرب الخليج وصار ما صار، إلا أنه بعد سنوات من الجفوة، ألفت كتاباً عن ’المتنبي‘ أرسلت له نسخة منها عندما كان سفيراً للمملكة لدى لندن".

هكذا أصلح بيننا "المتنبي"

وعن الذي دفعه إلى تلك المبادرة، يضيف الداعية السعودي "قلت في نفسي أقوم بمبادرة، ماذا أخسر إن لم يجب، وإن أجاب بقسوة فسأتحمل ما يأتيني، كانت مرحلة وانتهت وكلانا سعودي ومنشغل بالثقافة، ومن غير اللائق أن تستمر القطيعة إلى ما لا نهاية، لكنه بكرمه المعهود ونبله الفائق، فاجأني برد كتبه بخط يده تعبيراً عن احترام لم أتوقعه، فقد كتب إلي يقول ما معناه، ولا زلت أحتفظ بالخطاب: يقول عليه الصلاة والسلام ’... وخيرهما الذي يبدأ بالسلام‘، ووصفني بكثير من الأوصاف التي أسعدتني وأخجل من ذكرها، ثم أعرب عن سروره بالكتاب".

وأشار إلى أن الأديب القصيبي أثار إعجابه أكثر عندما نبهه في رده على إهداء الكتاب إلى شيء دقيق في بيت شعر للمتنبي، قال فيه "يترشفن من فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد"، "فلفتني إلى أن الشاعر لم يقصد ’التوحيد‘ في معناه الشرعي الشائع وهو إفراد الله بالعبادة، وإنما قصد به تمراً في العراق، يسمى ’التوحيد‘ طيب المذاق، فأكبرت ذلك فيه".

"تمر التوحيد" في التفاصيل

وكان الأديب المصري الراحل شوقي ضيف صاحب السلاسل الأدبية الشهيرة، عندما جاء إلى أصل تسمية أبي حيان بـ"التوحيدي"، ذكر بيت المتنبي الذي أشار إليه القرني، وقال "ذكر كثير من مترجمي أبي حيان أن أباه كان يبيع نوعاً من التمر ببغداد يعرف باسم التوحيد، وعليه حمل شراح المتنبي قوله ’يترشفن من فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد‘، وكأنه هو وأباه نسبا إلى هذا التمر".

ورأى ضيف أن "بن حجر أخطأ هو وغيره ممن ترجموا للتوحيدي حين ظنوا أن نسبته إلى التوحيد تعني أنه من أهل العدل والتوحيد أي من المعتزلة، إذ القدماء لا ينسبون إليهم هذه النسبة، وإنما يقولون هذا معتزلي وذاك غير معتزلي، وسنرى عما قليل أبا حيان من ألد خصومهم وخصوم المتكلمين عامة، فليس بصحيح أنه منهم ولا أنه منسوب إليهم، إنما هو ابن بائع متجول ببغداد كان يبيع تمر التوحيد. وفي هذا ما يشير بوضوح إلى أنه كان بغدادياً ومن أسرة متواضعة".

 

لكن قصة القرني والقصيبي لم تنته عند هذا الحد، إذ أوضح أنه لما جاوبه غازي على إهدائه كتاب المتنبي اكتفى بذلك وسكت، إلا أن حدثاً آخر جاء على حين غرة هز السعوديين كثيراً، إذ توفي الملك فهد عام 2005، يقول "فذهبت لأداء واجب العزاء فيه نحو إمارة الرياض، إذ كان حاكمها الملك سلمان يومئذ، فلما دخلت أبصرني القصيبي، فأقبل علي بتواضع جم واحتضنني يتمثل ببيت شعر آخر لما عرف من حبي للأدب مثله يقول ’وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنان كل الظن ألا تلاقيا‘، وضمني لصدره وضممته لصدري وجلسنا نحكي، وقال أنا مشتاق لنبدأ صفحة جديدة ومن هذا الكلام".

 في ما بعد أجرى القرني مقابلة مع "إضاءات" الزميل تركي الدخيل في العربية، "فلما انتهيت إذا بالجوال يتصل، وقال معاك أخوك المحب غازي القصيبي، استمر إلى الأمام ولا تلتفت للخلف ولا تنظر للذين يعملون في الظلام ونحو هذا، ثم سارت هكذا علاقتنا ولم تنقطع حتى مات، وحينها كتبت عنه يرحمه الله مقالة في ’الشرق الأوسط‘ أرثيه فيها، وأذكر له وده وصداقته بعد حين من الجفاء والقطيعة".

ولدى سؤاله عما إذا كان يعتقد مثل كثيرين أن من بين أكثر أخطاء "الصحوة" استعداءها قامات مثل القصيبي وشيطنته على المنابر، قال "بصراحة لما جالسته اكتشفت أن الرجل على غير ما نفهم عنه، صدقني كان عكس ما اعتقدنا تماماً، فقد كتب مثلاً في كتبه أنه عنده المصحف وجامع الأصول، ومن كتبه ’ثورة في السنة النبوية‘ والناس تعرفه، وكان يتحدث عن النبي عليه الصلاة والسلام قائلاً ’بأبي هو وأمي‘، وأعجبني هذا الكلام كثيراً، وما كنا نظن أنه قريباً من هذا، فلما عرفته وجدته طيب النفس، ولكني حين تكلمت عليه كنت دون 30 سنة، ولما توفي حزنت عليه كثيراً".

"تركي الحمد" على خطى القصيبي

وماذا عن تركي الحمد؟ "لم يحدث بيننا حوار"، ولما سألته عن حادثة الشماتة به حين أشيعت وفاته قبل أشهر، من جانب بعض من قيل إنهم متأثرون بنقده الصحوة، قال القرني "أنا لم أقل شيئاً ولم أسمع، وإذا مات الإنسان قدم على ربه سبحانه وتعالى، هو من يحاسبه، أما نحن فلا يعنينا إلا أفكار الإنسان التي كتبها وتركها، فلو ترك أي إنسان كتاب فيه إيمان أثنينا عليه، أو ترك كتاباً أو رسالة فيها إلحاد رددنا عليه وسلمنا أمره إلى الله سبحانه وتعالى، أما الشماتة بالموتى فهذا ليس من خلق المسلمين، وكلنا صائرون إلى تلك اللحظة".

وفي سياق القصيبي وجدنا أنفسنا في طور نقاش قصة "ثورة الكاسيت" التي كانت زمن الصحوة إعلام تيار القرني، ولم تتراجع إلا بعد ثورة "الإنترنت" حين طغت المواقع والمنتديات الإلكترونية في بداية الألفية، والقنوات الفضائية والتواصل الاجتماعي و"البودكاست" اليوم.

وعن ذلك يقول القرني "أنا مصدوم إلى الآن من سرعة انتشار ’البودكاست‘، حلقة أجريتها مع منصة ’ثمانية‘، كانت سواليف بدأت بتلقائية من دون تحضير، فلم أكن أعرف أن تسجيل الحلقة انطلق، فصرت أتكلم بعفوية وبعد حين أخبرني أبو مالح أننا على الهواء، فصار عليها إقبال يساوي كل محاضراتي منذ بدأت النشاط الدعوي قبل 50 عاماً، فأدركت أن عدم التكلف هو الإبداع والسر في الانتشار، ولهذا من شبه ’البودكاست‘ بثورة ’الكاسيت‘ لم يجانب الصواب، بل الثورة الجديدة أسرع وأقوى حتى من القنوات الفضائية في أوج قوتها".

الصحوة كانت "مدرسة صراخ"

وعند العودة لحكاية الكاسيت يقول ساخراً إن "أهل التسجيلات في ذلك الوقت يظنون أنفسهم ’بي بي سي‘، لكثرة ما وجدوا من الإقبال مثل السيل العرم. ينتظر الناس متى يخرج الشريط، وإذا خرج تلقفوه وطار مثل النار في الهشيم".

وأما الانتقاد الذي يوجه إلى مرحلة الشريط فيعتبره ليس على إطلاقه، مؤكداً "إيجابيات الكاسيت أنا أعرفها ويعرفها العلماء، فليس من العدل القول إن تجربته كلها كانت سيئة، فهو إعلام مرحلتنا يسهل من خلاله الوصول إلى الناس، لكن العبرة بالمضمون، وهو الذي كان محل نقد كثيرين من مثل ما ذكرنا عن حديث القصيبي".

واعتبر أن الصحوة كانت "مدرسة صراخ وتضخيم المسائل الصغيرة، وجعلها مسائل كبرى وزيادة كم الحرام على الحلال، ليس هناك حلال كل شيء كان حراماً، حتى النشيد حرام، والعرضة حرام، وأي شيء حرام حتى قبل التفكير فيه بروية، النزوع للتحريم كان ظاهرة لا تنكر، ومن الأخطاء كذلك استهداف المخالف بأغلظ الأحكام، فقد يكون التكفير والتبديع والتفسيق أسهل وصفة يمكن أن تصدرها، بينما نهج النبي والقرآن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والدفع بالتي هي أحسن، وهي أخطاء أتمنى أن يستفيد منها جيل ’البودكاست‘ والتواصل الاجتماعي، ليس من الدعاة وحسب، ولكن من الناس كافة".

 

 

وكان "الكاسيت" ضجت به المنطقة الخليجية أول الأمر عندما وظفه روح الله الخميني 1979 في الثورة على نظام شاه إيران، فكان بين الأوصاف التي تطلق على الانقلاب الذي قاده "ثورة الكاسيت"، مما جعل أتباع التيارات الإخوانية في مصر والخليج يستنسخون تجربته في الوسيلة الكاسيت، والغاية التي هي الوصول إلى الحكم، كما حاول جهيمان أن يحاكي ذلك في هجومه الدموي على الحرم في العام نفسه، وهذا ما استدعى تحذير القصيبي مواطنه القرني بعد ذلك بفترة.

ماذا عن السينما والفنون؟

انتقادات القرني لمرحلة "الصحوة" وتشديدها في التحريم، شجعتني على سؤاله عما إذا كان يعتقد أيضاً أنهم كانوا مخطئين في رفض السياحة والفنون ولا سيما السينما والترفيه، التي تبين أن كل المخاوف التي برروا بها محاربتها كانت وهمية، فقال "سيبقى الحلال حلالاً والحرام حراماً من عهد محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، نحن لا نحرم حلالاً ولا نحلل حراماً، هذا ما يمكن قوله عن ثوابت الدين، أما مسائل الفروع فهي قصة معروفة عند الفقهاء، والاختلاف فيها بابه واسع".

وتابع "أنا أضرب لك مثلاً بمسألة قيادة المرأة للسيارة أنا قبل 15 سنة أفتيت بأنها فعل جائز، ورد علي بعض المشايخ وجاءتني حملة شعواء، ولكن في ما بعد تبين أن هذا هو الحل، فانظر إلى المرأة كيف تخلصت من الخلوة مع الأجنبي، وتخلصنا من زيادة العبء المالي لهذا السائق والعبء السكني إذ يسكن معك، والعبء الأخلاقي، فهو يأتي بأخلاق وعادات من بلاد أخرى وعقائد مخالفة أحياناً، وهكذا ساقت المرأة في سلاسة وسلام، وبناتنا يقدن السيارات بكل حشمة واحترام، والشباب الأصل فيهم أنهم محل الثقة ومن نزغه الشيطان بالتحرش أو نحوه فإن القانون له بالمرصاد، و’تم القبض‘ صارت إشارة يعرفها الخارجون عن القانون، ويضربون لها ألف حساب".

ولا تزال أطراف من التيارات المتأثرة بالإخوان والصحوة يزايدون على السعودية في فتحها أبواب البلاد للسياحة، وإقبال شبانها على الفعاليات الترفيهية والسياحية، ونشروا في سبيل تشويه التجربة مقاطع فيديو لحالات شاذة، بعضها خارج السعودية!

يأتي ذلك في وقت شكل فيه القطاع غير النفطي للمرة الأولى في المملكة نمواً لافتاً، فشكل أكثر من 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي السعودي، بفضل انتهاج سياسات تنموية عدة، بين أبرزها الدفع بنمو القطاع السياحي الذي يشهد إقبالاً كبيراً، بما جعل البلاد تحتفل ببلوغها رقماً قياسياً هو 100 مليون سائح العام الماضي، بعد أن كانت خطتها تستهدف هذا الرقم بحول 2030، فيما تراجعت أرقام البطالة إلى نحو سبعة في المئة، وهو رقم لم تنزل إليه منذ عقود، نظير ما يوفره القطاع من فرص شغل متزايدة.

اقرأ المزيد

المزيد من حوارات