ملخص
تقول نازحة "الجميع ينام في الشوارع أنا فضلت الموت هنا على تكرار النزوح" والبعض يشبه البقاء في رفح بـ"الانتحار"
على قارعة الطريق، كان معتصم يلوح بيديه لجميع السيارات التي تمر أمامه، لكن لم يعره أي سائق اهتماماً، وبعد أربع ساعات من محاولات الأب الفاشلة في إيقاف عربة نقل، عاد إلى خيمته في محافظة رفح أقصى جنوب قطاع غزة.
"فشلت في العثور على وسيلة نقل" أبلغ الأب معتصم، زوجته التي كانت قد جهزت جميع أغراض أسرتها استعداداً لرحلة النزوح، لكنها عندما سمعت حديث زوجها صعقت ولطمت خديها، إذ أصبح مصير أطفالها في خطر، خصوصاً بعد توسيع الجيش الإسرائيلي عملياته العسكرية في رفح.
أوامر إخلاء من دون وسائل نقل
بصعوبة شرح معتصم لأطفاله أنه لن يستطيع إجلاءهم من رفح إلى أي منطقة آمنة، لا سيما مع غياب دور المنظمات الدولية في هذه المرحلة، وأنه سيخاطر ويبقى لأيام إضافية في محافظة رفح على رغم أنها تشهد عمليات عسكرية واسعة وعنيفة وتتوغل فيها الآليات والمدرعات والدبابات.
ويقول معتصم "وصلتني أوامر الإخلاء التي وزعتها إسرائيل على السكان والنازحين في رفح، واستجبت لهذه التعليمات العسكرية بمجرد ما تسلمتها، وطلبت من أهل بيتي تجهيز أغراض النزوح، وبعد أن خرجت لتأمين وسيلة مواصلات وجدت أن جميع عربات النقل مشغولة".
بطبيعة الحال، رحلة النزوح تبدو صعبة وشاقة لمن يملك سيارات ووسائل تسهل نقل الأغراض والأمتعة إلى المناطق الإنسانية، فكيف يكون حال أولئك الذين يفتقدون لعربات؟
340 دولاراً ثمن الإجلاء
يضيف معتصم "معظم وسائل النقل وعلى اختلاف أنواعها لم تكن متوفرة، وهذا عقد على أسرتي عملية النزوح، وعندما وجدت سيارة نقل تفاجأت بالمبلغ الذي طلبه السائق، إذ حدد مبلغ 340 دولاراً لقاء توصيل عائلتي ونقل بعض الأغراض إلى محافظة دير البلح وسط القطاع".
معتصم فقير ولا يقوى على دفع 340 دولاراً مقابل إخلاء أسرته من رفح إلى منطقة المواصي الجديدة، ولذلك فضل البقاء في المنطقة التي تشهد عمليات عسكرية واسعة وعنيفة، وهو مجبر على اتخاذ هذا القرار الذي يصفه بـ"الانتحار".
يعيش معتصم في منطقة غرب رفح، هذه المنطقة كانت مكتظة بالنازحين الذين يعيشون في معسكرات خيام، لكن بمجرد ما وزعت إسرائيل أوامر الإخلاء أصبحت المنطقة شبه فارغة، وبات يجاوره عدد محدود جداً من النازحين الذين عجزوا عن النزوح مجدداً.
نصف النازحين لم ينزحوا
في رفح كان يتكدس نحو 1.6 مليون نازح غالبيتهم من شمال غزة وخان يونس، وكانوا قد وصلوا إلى المدينة القريبة من مصر استجابة لأوامر الجيش الإسرائيلي الذي وجههم إلى هناك باعتبار أن المحافظة آمنة.
وما إن بدأ الجيش الإسرائيلي في شن هجوم بري على رفح في السادس من مايو (أيار) الجاري، تمكن نحو 800 ألف شخص فقط من النزوح مرة أخرى، ويقول المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" فيليب لازاريني، إن هذا العدد هو نصف النازحين الذين كانوا يقيمون في رفح.
وفعلياً لم يتمكن 800 ألف شخص من النزوح لأسباب مختلفة، وذلك وفقاً لتقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"، وبحسب تقديرات اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
المنظمات الدولية لم تسهم في عملية الإخلاء
ومن بين هذه الأسباب التي حالت دون نزوح نصف النازحين ما حدث مع معتصم من عدم توفر وسائل نقل، وبحسب الأب فإنه كان يعلق آماله على المنظمات الدولية في مساعدة الفارين إلى رفح، والعمل على نقلهم للمناطق الإنسانية الموسعة التي خصصها الجيش الإسرائيلي لاستيعاب النازحين.
وفي الحقيقة، ليس من ضمن اختصاص غالب المنظمات الدولية إجلاء المدنيين، وإنما هذه مسؤولية "أونروا" و"الصليب الأحمر"، لكن المنظمتين رفضتا مساعدة النازحين في عملية نقلهم من رفح.
يقول المستشار الإعلامي لـ"أونروا" عدنان أبوحسنة "الأمم المتحدة لن تشارك في الإجلاء القسري للسكان في رفح أو في أي مكان آخر بقطاع غزة، الحياة في رفح محفوفة بالأخطار والظروف المعيشية رهيبة بالفعل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف "إخلاء مدينة رفح عملية خطرة للغاية، لأننا نتحدث عن مليون و400 ألف فلسطيني يوجدون في هذه المنطقة الصغيرة ذات الكثافة السكانية العالية، ولا نرى إمكانية للقيام بإجلاء المدنيين بسرعة بسبب عدم وجود وسائل نقل وخيام وغير ذلك من التجهيزات".
أما مدير اللجنة الدولية للصليب الأحمر فابريزيو كاربوني، فإنه يؤكد أن إجلاء أكثر من مليون مدني من رفح غير ممكن، ويقول "الفلسطينيون الذين طلب منهم النزوح متعبون من الحرب، كما أنهم يواجهون صعوبات في الحصول على الغذاء والعلاج المناسبين".
أسباب أخرى
انعدام وسائل نقل ليس السبب الوحيد في بقاء نحو 800 ألف شخص في محافظة رفح، وتقول آمال صيام "إلى أين سأذهب؟ بحسب التعليمات العسكرية يطلب منا التوجه إلى المنطقة الإنسانية الموسعة، ولكن تلك المنطقة تفتقر للخدمات، فقد سبق أن ذهبت إلى هناك وعاينت المكان، لا خدمات صحية ولا مياه ولا مراحيض، حتى إنه لا توجد معسكرات خيام، الجميع ينام في الشوارع، أنا فضلت الموت في رفح على تكرار النزوح".
ومن جانب آخر، يوضح النازح سامر السويركي أنه رفض النزوح من رفح لأن مناطق استيعاب النازحين تفتقر إلى الماء والغذاء، وتواجه ازدحاماً سكانياً شديداً واكتظاظاً لا يصدق.
ويقول "أقرب عيادة صحية تبعد نحو خمسة كيلومترات، المرجح أن تكون أماكن الإخلاء مرتعاً للأمراض المعدية، لهذا فضلت البقاء في رفح حيث تنعدم الحياة".
بقاء النازحين يعني مزيداً من الجرائم
تقول المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في غزة أولغا شيريفكو "بقاء نصف النازحين في رفح موضوع مهم جداً ويجب تسليط الضوء عليه، لأن وجودهم يعني ارتكاب جرائم وحشية في رفح وهذا أمر خطر".
وتضيف "الوضع الإنساني في غزة لا يزال كارثياً ويزداد سوءاً يوماً بعد يوم، العالقون في رفح يتنقلون من دون توفر ممر آمن أو حماية، من يفكر منهم بالرحيل يغادر سيراً على الأقدام، ويترك وراءه متعلقاته البسيطة مثل الفرشات والخيام وأدوات الطبخ والإمدادات الأساسية التي لا يستطيعون حملها أو نقلها، وفي كل مرة يضطر النازحون إلى البدء من الصفر".