Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عبقرية البشر والحجر... أسرار نهضة اليابان

هل كان عصر "الميجي" هو نقطة التحول الرئيسة؟ وما الخلطة العجيبة المدعوة "كايزن" في حياة اليابانيين؟

العلم الياباني يرفرف فوق مبنى المقر الرئيس لبنك اليابان (الأسفل) في طوكيو (أ ف ب/ غيتي)

ملخص

هل أسرار النهضة اليابانية تعود إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي فحسب؟ أم أن لها جذوراً ضاربة في القدم جعل من ذلك البلد الفقير بموارده الطبيعية والغني بعنصره البشري قصة يسعى كثر لمحاكاتها يوماً تلو آخر؟ وما العناصر الرئيسة والفاعلة في تلك القصة التي تعد معيناً مشتركاً للأمم الناهضة والبازغة في سلم القطبية الدولية؟

تبدو قصة اليابان واليابانيين من القصص الأكثر تشويقاً في حكايات الأمم وأحاجي الشعوب، لا سيما أنها تبدأ من بعيد من قرون عدة خلت، وتمضي في مسيرتها الإنسانية الناجحة على رغم الظروف كافة التي مرت وتمر بها.

يتساءل كثر عن سر نجاح اليابان، على رغم الكبوة الخطرة التي حلت بها في نهاية الحرب العالمية الثانية، فبعد أن كانت إمبراطورية كبيرة وخطرة في الوقت ذاته، تراجع وزنها النسبي، عسكرياً في الأقل، ومع ذلك لم تكن مضت ثلاثة عقود على تلك الانتكاسة إلا وكانت اليابان تمثل الضلع الثالث من أضلاع مثلث الرأسمالية العالمية مع أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، محققة ثورة اقتصادية وعلمية هائلة.

 

هل أسرار النهضة اليابانية تعود إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي فحسب؟ أم أن لها جذوراً ضاربة في القدم جعل من ذلك البلد الفقير بموارده الطبيعية والغني بعنصره البشري قصة يسعى كثر لمحاكاتها يوماً تلو آخر؟ وما العناصر الرئيسة والفاعلة في تلك القصة التي تعد معيناً مشتركاً للأمم الناهضة والبازغة في سلم القطبية الدولية؟

المثير جداً في الحديث عن اليابان أن نجاحاتها تمثل خليطاً من التوجهات والمذاهب الروحية والفكرية والنفسية من جانب، والتعاطي المادي الخلاق مع تجارب الدول الأخرى الفائقة النجاح من زاوية أخرى، وكأن اليابان استطاعت أن تحصل على السبيكة العجيبة، سحر الشرق الروحاني، وتميز الغرب وتفوقه المادي.

في هذه السطور التي لا يمكن أن تفي التجربة اليابانية حقها، نحاول الاقتراب قدر الإمكان، من قصة شعب وأمة عرف طريق الصعود عبر العمل وعلى رغم الألم الذي حل به طوال فترات زمنية بعينها، شعب هو الوحيد في العالم الذي تعرض للكلف الجنونية للحرب النووية، وها هو ذا اليوم يشق عنان السماء بنتاج إجمالي يتجاوز 4 تريليونات دولار.

عن عصر "الميجي" وبدايات النهضة

تعني كلمة "الميجي" في اللغة اليابانية، المستنير، ومن ثم يكون "عصر الميجي" هو عصر الاستنارة الذي بدأ في النصف الثاني من القرن الـ19، أي في فترة حكم الإمبراطور الياباني موتسوهيتو الذي بدأ حكمه في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1852، وقد كان شاباً ذكياً منفتحاً.

كان جوهر عصر "الميجي" هو التعلم الجيد المنفتح، وغير المنغلق، إذ تقول الفقرة الخامسة من "العهد الميجي"، الذي يعد الأساس لإرساء قواعد نهضة اليابان الحديثة "سوف يجري العمل على جمع المعارف من شتى أنحاء العالم، وعلى هذا الأساس ستترسخ الإمبراطورية على أسس متينة".

وجاء العصر "الميجي" بعد ثلاثة قرون تقريباً من العزلة الكاملة عن العالم الخارجي خلال ما يسمى عصر "إيدو"، وقد عرف هذا الأخير بحكم عشيرة "توكوغاوا" التي قادت البلاد كأمراء حرب مهيمنين، بينما كانت العائلة الإمبراطورية تتمتع بسلطة رمزية وطقوسية.

 

وقبل عصر "الميجي" كانت اليابان قد دخلت في فترة تضاءلت فيها أهميتها ووزنها النسبي، في المحيطين الجغرافي والديموغرافي، لصالح أمراء الحرب المحليين الأقوياء الذين يطلق عليهم اسم "الدايمبوس". وقد حارب الآخرون بلا رحمة من أجل السلطة فسيطروا على مختلف "الشوغونات"، أي عشائر أمراء الحرب الحاكمة. وأطلقت حكومة "الميجي" الإصلاحات في طول البلاد وعرضها، تلك التي من شأنها تحويل اليابان إلى إمبراطورية حديثة.

وبحلول عام 1889 اتخذت السلطات الإمبراطورية دستوراً يعتمد على النموذج البروسي، وأنشأت حكومة قريبة من حكومة الدول الأوروبية، وهكذا تم حكم اليابان بصورة مشتركة من قبل الإمبراطور كرئيس للدولة ورئيس الوزراء كرئيس للحكومة. وإضافة إلى ذلك أطلقت الحكومة اليابانية برنامج التصنيع السريع الذي من شأنه تحديث البلاد وإنشاء بعض الشركات الأكثر رمزية التي لا تزال موجودة حتى اليوم. وكان الجيش والبحرية المستفيدين الرئيسين من الإصلاحات الصناعية والاقتصادية، وبحلول تسعينيات القرن الـ19 أغلقت اليابان الفجوة العسكرية مع الغرب، وقد تبنت الإمبراطورية تدريجاً سياسة توسعية سعياً إلى إقامة تأثير دائم في كوريا. على أنه يمكن للمرء التساؤل "هل من نقطة انطلاق بعينها كفلت نجاح عهد "الميجي"؟

"السامواري" والبحث عن التعلم

أدرك القائمون على عهد "الميجي" أنه لا انطلاق في أفق العالم المتقدم إلا من طريق التعلم، ولهذا قررت إرسال بعثة من "الساموراي" إلى مصر، ضمن رحلاتها إلى بلاد كثيرة للوقوف على أسباب نهضتها وتقدمها، لتستفيد اليابان من مختلف التجارب وتحقق نهضتها الخاصة، ومرت البعثة ضمن برنامجها بمصر.

لكن لماذا مصر بالتحديد؟

المؤكد أن هناك أمرين لم يكونا ليغيبا عن أعين اليابانيين، الأول تاريخ مصر القديم المملوء بالحكمة والمعرفة الروحية، ثم الاختراعات والصناعات التي لا يزال العالم حائراً دائراً سائراً في بحثه عن أسرارها من دون جدوى. والأمر الثاني هو أن مصر، في ذلك الوقت، كانت تعيش تجربة تقدمية ليبرالية غير مسبوقة في العالم القديم، إنها تجربة الوالي محمد علي باشا الكبير، الذي تملكته قناعة مؤداها أن التجربة العلمية الغربية تستحق عن جدارة أن تستلهم، ولهذا اختار من أبناء الفلاحين من رأى فيهم الذكاء والنجابة، وأرسلهم إلى مدارس فرنسا تحديداً الطب الهندسة والجيش، وبذلك أرسى دعائم مصر الحديثة. وحط الوفد الياباني رحاله في ميناء السويس ومن هناك استقل القطار إلى العاصمة القاهرة.

 

وأصيب الوفد بالدهشة من امتلاك مصر قطاراً وسكة الحديد في وقت لم تكن اليابان قد عرفت القطارات بعد، بل سجل إعجابه الشديد بالسرعة التي كان يسير بها قطار السويس - القاهرة، ومما أثار إعجابهم أيضاً النظافة المنقطعة النظير للحمامات العامة في القاهرة حيث أشاروا إلى أنها أنظف من الحمامات العامة في اليابان، وإن كانوا قد أبدوا دهشتهم من أن حمامات القاهرة أغلى من حمامات طوكيو، الأمر الذي اعتبروه مؤشراً إلى الرخاء الاقتصادي. ومنذ تلك الرحلة بدأت اليابان في عهد "الميجي" تنظر إلى التجربة المصرية بوصفها نموذجاً لنجاح التعليم في دولة نامية تنطلق في أفق النجاحات، لا سيما من خلال التثاقف مع العالم الغربي الأوروبي.

ودرس اليابانيون بتمحيص فائق التجربة المصرية في الصناعة والزراعة، واستلهموا روح "الابتعاث" إلى أوروبا، ولهذا حين كان الوفد الياباني يستقل القطار من القاهرة إلى الإسكندرية متوجهاً إلى أوروبا، كان الهدف الرئيس هو الإغراق من العلم الوضعي الأوروبي الذي منح القارة القديمة تلك المقدرة على النمو والترقي على صعيد البشر والحجر دفعة واحدة، ومن غير أن يعني ذلك التخلي عن التراث الروحي البطريركي لليابان واليابانيين.

في تكوين وتنشئة الشخصية اليابانية

ولعله من أسباب النجاحات الرئيسة لليابان أنها ومنذ عصر "الميجي" عرفت كيف تربي النشء على مجموعة من الثوابت الوطنية والقومية من غير تعصب أو تمذهب، ومن دون محاصصة عرقية أو طائفية، وبالقدر نفسه هيأت أجيالها القادمة لتضحى قادرة على استيعاب التعاطي مع الآخر حول العالم من دون خجل أو وجل، ومن دون شعور بالنقص أو صغر الذات.

وينمي الشعب الياباني الانتماء والولاء في أطفاله، فلا بد أن ينتمي الطفل إلى جمعية أو رابطة منذ الحضانة حتى يبدأ منذ نعومة أظفاره منتمياً ومتعاوناً مع جماعة صغيرة، وهكذا يصل إلى مرحلة العمل في مؤسسة، فيقال له في أول يوم "إنك اليوم تدخل عائلة ثانية وستكون عضواً منتمياً وموظفاً في خدمتها مدى الحياة". ويمكن النظر كذلك إلى العلاقة بين الحاكم والمحكوم التي تعد من أسس النجاح الكبير الذي أدركته اليابان، ويحتوي ميثاق الحلف ذو البنود الخمسة على ما يشبه شرف العهد بين الشعب والسلطة، وهو كذلك بمثابة ميثاق شرف يلتزمه الحاكم والمحكوم، أو دستور شعبي يسير الجميع على هداه ويتكون من خمسة بنود:

كل شؤون الدولة يرجع فيها إلى الرأي العام من خلال مؤتمرات عامة.

تعمل الحكومة والشعب في توافق وبصورة نشطة في تنفيذ الأمور الإدارية.

أي مواطن سواء كان مدنياً أو عسكرياً لا يحال بينه وبين السعي وراء تحقيق تطلعاته.

تترك الممارسات والأعراف والتقاليد القديمة ليسود العدل الشامل.

يعزز أساس نظام الحكم الإمبراطوري من طريق اكتساب المعرفة من جميع أنحاء العالم.

على أن بناء الشخصية الوطنية اليابانية لم يكن أن يجري بعيداً من سياقات العملية التعليمية في إطار وطني، الأمر الذي كفل لليابان تحقيق مستوى متقدم للغاية في هذا الإطار.

وفي عام 1970 أي بعد عقدين ونصف العقد فقط من إلقاء القنابل النووية على هيروشيما ونغازاكي، أجري اختبار في العلوم للأطفال البالغين 10 سنوات، والأطفال البالغين 14 سنة في 19 دولة، وفي هذه الاختبارات أظهر الأطفال اليابانيون تفوقاً ملحوظاً على أقرانهم في الدول الأخرى.

 

وهذه الإنجازات الباهرة وراءها بالطبع عوامل وأسباب، فجميع المدارس الإعدادية والثانوية في اليابان مجهزة بمعامل ومختبرات على درجة عالية جداً من الكفاءة، فضلاً عن أن 93 في المئة من مدرسي العلوم في هاتين المرحلتين تلقوا تعليمهم في الجامعات التخصصية، وهذا رقم قياسي لا يوجد في أي دولة أخرى في جميع أنحاء العالم، ولعله من اللافت للنظر وقتها أن الأطفال الأميركيين جاءوا في المرتبة الـ15 بين أطفال 19 دولة أجريت لهم هذه الاختبارات. ومن العوامل التي ساعدت على ارتفاع مستوى التعليم في اليابان أن نسبة الأمية منعدمة تماماً، بينما توجد الآن في الولايات المتحدة نسبة أمية، وتضطر القوات المسلحة الأميركية إلى رفض تجنيد بعض الشباب لعدم مقدرتهم على القراءة والكتابة.

فهل من مبدأ نفسي وأخلاقي يجعل اليابانيين مختلفين عن سائر شعوب الأرض؟

"كايزن" أو السعي الدائم إلى التحسين

حكماً يبقى مبدأ كايزن" الياباني هو أحد منطلقات تميز ونجاحات تلك الأمة، وما يدفعها إلى تجاوز أي كبوات، فماذا عن هذا؟

يقول "كايزن" إن الكمال غير موجود على الأرض، وإنه لو كان الكمال موجوداً لما كان "كايزن" موجوداً، وإنه إذا كان الكمال أمراً ممكناً فلن تكون هناك أي حاجة إلى جهود إضافية للتحسين بعد "الكمال"، وستكون هذه الجهود في الواقع عديمة الجدوى. فما الفائدة من ذلك؟ لكن إمكانية حدوث تحسن بنسبة لا تذكر لا تزال تمثل تحسناً، لذا تستحق التركيز والطاقة لمتابعتها، إذ إنها ستدور إلى الأبد، وسيكون التأثير المركب كبيراً من جهة التحسين الشامل.

إن مبدأ "كايزن" يعني التغيير نحو الأفضل، إنه يعلمنا قوة التحسن التدرجي، وطبق "كايزن" في البداية في مجال الأعمال، ويمكنه تحويل العادات والعقليات الشخصية، ومن خلال التركيز على التغييرات الصغيرة المستمرة بدلاً من التحول بين عشية وضحاها، يمكننا تحقيق نجاحات كبيرة على المدى الطويل.

فهل يمكن تبني مبدأ "كايزن" في الروتين اليومي لأي إنسان؟

مؤكد أن ذلك يمكن أن يحدث سواء على صعيد العمل أو الصعيد الشخصي، ففي العمل، أي عمل يقوم به الفرد الياباني فإنه يحرص يومياً أن يكون منتجه أكثر جودة ولو بنسبة أو هامش غير مدرك أو مرئي، وربما هذا هو أحد أسباب تفوق أي منتج ياباني. أما على الصعيد الشخصي فإن عقلية "كايزن" في أي بناء مؤسساتي تعني الاهتمام بالصحة النفسية المتسامحة والمتصالحة مع الذات ومع الآخرين.

إن روح التنافس الموجودة في المجتمع الياباني تنطلق في واقع الأمر من هذا المبدأ، إذ يعمل الجميع على تحسين أوضاعهم يوماً تلو الآخر.

ولعل البداية التي يقدمها مبدأ "كايزن" لكل شخص ياباني هي التي تدفعه إلى المشي قدر استطاعته يومياً، والاستيقاظ مبكراً، واستكشاف الحي الذي يعيش فيه، والاستمتاع بشروق الشمس وغروبها، وقضاء وقت ممتع مع زوجته أثناء المشي، والاستماع إلى الكتب الصوتية للتثقيف بصورة أكبر.

فهل "كايزن" فقط هو المبدأ الذي يجعل من اليابانيين شعباً مختلفاً؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"آي كيجاي" و"وابي ساس"... "جامان" و"كينتسوجي"

تبدو الشخصية اليابانية مغايرة عن كثير من شخصيات الشعوب المجاورة، لا سيما بسبب توافر معين كبير، بل ومخزون هائل من الحكمة القديمة لدى هذا الشعب، وهي ليست فلسفات بل ممارسات متأصلة في النفس اليابانية، تخلق فارقاً كبيراً بينها وبين ما سواها من الشخصيات الشرقية والغربية، فهل من أمثلة؟

"آي كيجاي": هذا المبدأ يعزى إليه سر الحياة الطويلة والسعيدة في اليابان، ذلك أنه يشجع الأفراد على العثور على سبب وجودهم، إنه التقاطع بين ما تحبه وما تجيده، وما يحتاج إليه العالم وما يمكن تعويضك عنه. ويساعد مبدأ الـI Kigai الشخص الياباني على فهم شغفه ورسالته الوظيفية ومهنته، مما يؤدي إلى حياة مرضية ومتوازنة، واعتناق هذا المبدأ هو أمر أكثر من مجرد النجاح الوظيفي، ذلك أنه يتعلق بتحقيق الإنجاز الشخصي والمساهمة بصورة إيجابية في المجتمع .

"وابي سابي": يمثل "وابي سابي" جمالية عميقة تجد الجمال في عدم الكمال والعابر، ويشجعنا هذا المفهوم على تقدير الجمال في الجوانب غير المكتملة، وغير الكاملة للحياة، ومن خلال احتضان "وابي سابي" نتعلم قبول عيوبنا والدورة الطبيعية للنمو والاضمحلال، ويمكن أن يؤدي هذا القبول إلى حياة أكثر هدوءاً ورضاء خالية من السعي الدؤوب إلى تحقيق الكمال.

"شوهاري": يلخص "شوهاري" مراحل التعلم نحو الإتقان والطاعة والتباعد والتجاوز، ويعلمنا هذا المفهوم احترام الأساسات وإتقانها، ثم التحدي والابتكار، وأخيراً التجاوز وإنشاء طريقنا الخاص في مجال التطوير الشخصي والمهني، ويذكرنا "شوهاري" بضرورة التعلم مدى الحياة وتطور فهمنا ومهاراتنا.

"جامان": فضيلة تعني قوة التحمل والصبر والتسامح، إنه يعلمنا قوة تحمل ما لا يطاق بكرامة ونعمة، في مواجهة الشدائد، وتساعد ممارسة "الجامان" الأفراد على البقاء صامدين ومرنين ومركزين على أهدافهم، وهذا المبدأ ضروري للتغلب على تحديات الحياة التي لا مفر منها والعمل بثبات نحو النجاح.

"كينتسوجي": أو التجارة الذهبية، وهو فن إصلاح الفخار المكسور بالذهب، ومن ثم احتضان العيوب وإنشاء قطعة أقوى وأكثر جمالاً، تعلمنا "كينتسوجي" الاعتراف بندباتنا والتعلم من أخطائنا والاعتراف بأن عيوبنا تسهم في جمالنا وقوتنا الفريدة، إنه احتفال بالمرونة وتذكير بوجود فن في الشفاء والنمو.

والشاهد أن هذه المبادئ تعد قدس أقداس الشخصية اليابانية، وهي تقدم ما هو أكثر من مجرد مسارات للإنجازات المهنية، إنها توفر إطاراً لحياة متوازنة ومرضية، ومن خلال دمج هذه المبادئ في حياتنا اليومية، يمكننا تنمية إحساس أعمق بالهدف والنمو المستمر والقبول والتعلم والمرونة والشفاء، على أن قائل يقول "هل يمكن لمثل هذه المبادئ أن تكون الأرضية التي أسهمت في تلك الانطلاقة الاقتصادية الهائلة لليابان؟ والمؤكد أن الجواب لا يمكن بحال من الأحوال أن يغيب عن دائرة رباعي الأسرار اليابانية الفائق الإبداع.

"الكاتاجيري" الياباني وسر التفوق

على رغم بعض الكبوات والتحديات التي واجهتها اليابان في العقدين الأولين من القرن الـ21، فإن ذلك لا يعني بالمرة أن تجربتها طوال نصف القرن الـ20 وريادتها الاقتصادية لا يمكن أن تمضي من جديد أو تستنهض من بين ركام الأزمات الأخيرة. هنا يبدو من الواضح جداً أن نقاط قوة اليابان وأحياناً ضعفها تكمن في ثقافتها التاريخية وقيمها المؤسساتية.

ويمارس اليابانيون قدراً لا بأس به من مبدأ "كاتاجيري"، وهي ممارسة قبول التحدي والفخر بعمل الفرد والتواضع، ولقد لعبت هذه العقلية دوراً كبيراً في النجاح الاقتصادي للبلاد، والثابت أن "الكاتاجيري" يترجم عبر منطلقات عدة من أهمها:

عباد التميز: من الملاحظ أن الشعب الياباني يعشق التميز، بل يصل الأمر إلى حد الهوس بالتميز، وبغض النظر عن الوضع الحالي لأي منتج أو فكرة، فإن الياباني يعشق إضافة لمسات من التميز، صباح مساء كل يوم.

ويمكن ملاحظة ذلك في مجالات الشركات والسكن، ويفخر اليابانيون كثيراً بالمنتجات التي ينتجونها، وهذا أحد الأسباب التي تجعلهم يجيدون صناعة السيارات والإلكترونيات، إنهم يركزون بصورة كبيرة على الجودة في حين أن صنع منتج رخيص قد يكون كافياً لتحقيق الربح، فإن هذا ليس هو الحال في اليابان حيث الجودة هي الملك، وينعكس هذا الهوس كذلك على المؤسسات التعليمية اليابانية، ولهذا، عادة ما يكون الطالب الياباني أفضل في المدرسة من الطالب الأميركي بغض النظر عن خلفيته الاجتماعية والاقتصادية.

أساليب التوظيف: تعد مسألة التوظيف في اليابان من أسرار النجاح والتقدم الهائلة، فالنسق الوظيفي والرواتب تحددها الأقدمية أولاً، مما يعطي إحساساً بالأمان لدى الموظف، الأمر الذي يدفعه إلى الإتقان يوماً تلو الآخر، من غير خوف أن يجد نفسه ذات صباح خارج إطار مؤسسته التي تعد بيته الثاني.

واليابانيون شعب يرى أن التصدير أساس لنجاح وتقدم البلاد، لذلك فإنه يفرق بين التجارة وإدارة الأعمال، فالتجارة هدفها الربح السريع، ولكن إدارة الأعمال هدفها الاستمرار في العمل وتحقيق المشروع الناجح، وبذلك يستمر الربح مدة طويلة.

وعطفاً على ذلك، فإن مؤسسات اليابان هدفها الاستمرار والجودة، ولذلك لا توزع كل الأرباح على المؤسسين أو العمال، بل تحول جزءاً كبيراً منها إلى الاحتياط، بعكس المؤسسات الأميركية التي هدفها الربح السريع وتوزيعه على المؤسسين. والشعب الياباني حينما يجد شركة تتعثر فإن حكومته لا تسارع إلى إعلان إفلاسها، بل تطالب البنوك الممولة لها أن تبحث حالتها، وتقدم لها العون المالي والإداري، وقد تعين البنوك مجلس إدارة جديداً بإشرافها، وتقدم الحكومة العون لهذه الشركة.

اليابان في القرن الـ21

هل أسرار تقدم اليابان هو ما يزخم حضورها على الساحة الدولية في حاضرات أيامنا؟

المؤكد أن ذلك كذلك، وهو أمر يمضي في اتجاهين، المالي الاقتصادي من ناحية، والسياسي الدولي من جهة ثانية، فعلى صعيد التوجهات المالية، استطاعت اليابان أن توجد لها دوراً فاعلاً على صعيد العمليات التنموية المستدامة شرقاً وغرباً، وعرفت كيف تفعل حضورها المالي في سياق دعم المشروعات الإنمائية لا سيما في دول العالم الثالث، الأمر الذي جعل حضورها مرحباً به، لا سيما أنها لا تربط منحها وعطاياها بالمنظومة الحقوقية والإنسانية كما تفعل الولايات المتحدة الأميركية.

وعلى الصعيد السياسي والدبلوماسية العالمية نجدها من الدول الساعية وبقوة في سبيل تعزيز إصلاح الأمم المتحدة، وتؤكد دوماً على الحاجة إلى استراتيجية دولية للتنمية ومبادرات في مجال نزع السلاح من طريق تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يدعو إلى الوقف الفوري للتجارب النووية، كما تقوم اليابان بدور واعد في التعاون مع دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ مع عرض مبادرات دائمة لتحسين أوضاع المنطقة.

وفي الخلاصة، تبقى تجربة اليابان الإنسانية والوجدانية برصيدها التراثي والثقافي مادة ملهمة للدول والجماعات الساعية في طريق تحقيق نجاحات على الصعد والمستويات كافة.

المزيد من تقارير