ملخص
على رغم قبول سوريا باستقبال المقاتلين الفلسطينيين، فضّل رئيس "منظمة التحرير الفلسطينية" ياسر عرفات التوجه إلى تونس عوض النزول في دمشق، بعدما نجحت المساعي الأميركية والإسرائيلية بمشاركة لبنانية في التوصل إلى اتفاق لإخراج الفلسطينيين من لبنان.
في يونيو (حزيران) 1982 وصل الجيش الإسرائيلي إلى مشارف بيروت وحاصرها مطالباً بخروج رئيس "منظمة التحرير الفلسطينية" ياسر عرفات (أبو عمار) ومقاتليه منها، فضلاً عن القوات السورية التي كانت منتشرة في لبنان تحت لواء "قوات الردع العربية" منذ عام 1976 وذلك تحت طائلة التهديد بالاجتياح العسكري. وفي سلسلة مقالات استندت إلى وثائق وزير الخارجية السوري حينها عبدالحليم خدام روت مجلة "المجلة" تفاصيل المفاوضات التي دارت بين مختلف الأطراف المعنية وصولاً إلى مغادرة عرفات من بيروت.
في ضوء الرفض السوري للانسحاب من العاصمة اللبنانية توجه الرئيس إلياس سركيس برسالة إلى نظيره السوري حافظ الأسد يبلغه فيها قراره إعطاء الأوامر للجيش اللبناني بدخول بيروت وانسحاب جميع القوى الأخرى منها بما فيها القوات السورية سعياً إلى تجنب الاجتياح الإسرائيلي وتدمير العاصمة.
رفض حافظ الأسد خطة سركيس معتبراً أنها بمثابة استسلام أمام الإسرائيليين، وأوضح ذلك في رسالة الرد التي كتبها خدام وأرسلها إلى بيروت، بحسب صحيفة "المجلة". وتراجع إثر ذلك الرئيس اللبناني عن قراره وشكل "لجنة الإنقاذ الوطني" برئاسته وضمت فريقين، الأول يمثل وجهة النظر المؤيدة للفلسطينيين ويشمل رئيس الوزراء شفيق الوزان ونبيه بري ووليد جنبلاط، والثاني يمثل وجهة نظر السلطة الرسمية ويشمل الوزير فؤاد بطرس والنائب نصري المعلوف وبشير الجميل. وبدأ طرفا اللجنة مساعيهما إلى التفاوض مع الأميركيين والإسرائيليين في شأن الوجود الفلسطيني في لبنان.
وفي ضوء الضغوط التي تعرضت لها الفصائل الفلسطينية أبلغت ردها لـ"لجنة الإنقاذ الوطني" وأعربت فيه عن قبولها بـ"الانكفاء إلى المخيمات الفلسطينية مقابل انكفاء إسرائيلي مماثل" وأن "يتولى الجيش اللبناني عملية الفصل والتمركز في المواقع التي سيتم إخلاؤها" على أن يبقى "الوجود الفلسطيني سياسياً وإعلامياً وعسكرياً" في لبنان وفق ما نقلت "المجلة" عن وثائق خدام.
نقلت "لجنة الإنقاذ" الرد الفلسطيني إلى المبعوث الأميركي فيليب حبيب لينقله إلى حكومته والإسرائيليين فجاء رد واشنطن وتل أبيب قاطعاً برفض الوجود العسكري للمقاومة الفلسطينية في لبنان، وخضوع الفلسطينيين للسلطة اللبنانية حتى داخل المخيمات من دون أي وضع مميز لهم "لا في بيروت ولا في سواها" طالبين "تحديد تصور المنظمة ’التحرير الفلسطينية‘ لوجودها في لبنان" وإذا كان قادتها سيبقون فيه.
حملات عرفات ضد سوريا
يروي خدام في وثائقه حسب "المجلة" أنه مع بدء القتال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين والقوات السورية في لبنان شن عرفات حملة تتهم دمشق بالتخلي عن الفلسطينيين والتعاون مع الإسرائيليين في بيروت. ولم تتوان دمشق عن التعبير للفلسطينيين عن استيائها من هذه الحملات مطالبة بوقفها ومؤكدة وقوفها إلى جانب "المقاومة الفلسطينية".
ووفق وثيقة من جهاز الأمن السوري في بيروت في الـ26 من يونيو 1982 نجحت ضغوط فيليب حبيب في جعل الوجود الفلسطيني مدخلاً لجدول أعمال "هيئة الإنقاذ الوطني". وإثر ذلك استدعى عرفات كلاً من الوزان وبري وجنبلاط وطرح عليهم التصور الفلسطيني ويشمل وقف إطلاق النار وانسحاب الإسرائيليين بضعة كيلومترات والفلسطينيين إلى المخيمات ويدخل الجيش اللبناني إلى بيروت الغربية ويفصل بين الطرفين بمساعدة قوة دولية ضامنة، و"فتح مفاوضات حرة بين السلطة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية لتحديد مستقبل الوجود الفلسطيني سياسياً وعسكرياً وشعبياً" في لبنان. وبحسب الوثيقة التي أوردتها "المجلة"، "الجواب اللبناني الرسمي الكتائبي المدعوم من فيليب حبيب والذي تقف وراءه إسرائيل جاء يرفض هذا التصور ويطرح استسلاماً فلسطينياً كاملاً تسلم بموجبه المقاومة كل سلاحها وتفقد منظمة التحرير أي وضعية خاصة ولا يتمتع الفلسطينيون بأية حصانة مدنية، وكل ذلك في مقابل تأمين السلامة الشخصية لقيادة المقاومة لدى خروجها من لبنان".
في ضوء ذلك "أعلن وليد جنبلاط انسحابه من هيئة الإنقاذ وجمد نبيه بري عضويته فيها وطلب ستة وزراء من الوزان الاستقالة، وعندما وجد الوزان نفسه أمام طلب التوقيع على الاستسلام الفلسطيني الكامل في كل الابتزاز أعلن وضع استقالته بتصرف رئيس الجمهورية"، فيما اشتد القصف الإسرائيلي على بيروت الغربية.
وحسب وثيقة أخرى للاستخبارات السورية في بيروت في الـ30 من يونيو عرض فيليب حبيب قواعد لحل سياسي في مدينة بيروت تشمل إخلاء بيروت الغربية من الأسلحة وانسحاب الفلسطينيين و"قوات الردع العربية" منها ودخول الجيش اللبناني، فضلاً عن "بحث مستقبل الوجود الفلسطيني في لبنان سياسياً وعسكرياً مع السلطة اللبنانية".
القبول بالانسحاب
في الأول من يوليو (تموز) أرسل قائد "قوات الردع العربية" العميد سامي الخطيب رسالة إلى خدام يطلعه فيها على التطورات في لبنان وأبلغه بأن المقاومة الفلسطينية "بدأت تلوح بقبول مبدأ ترك بيروت ولبنان قبل قيادتها" لقطع الطريق "على عملية اجتياح بيروت أو تدميرها"، وعدد سلسلة من العقد التي مازال البحث يدور حولها بما فيها "الوجود العسكري الرمزي للقيادة الفلسطينية في لبنان" الذي يرفضه الأميركيون والإسرائيليون، وجمع السلاح من غرب بيروت وانسحاب "قوات الردع العربية من العاصمة.
وبعد إطلاع الأسد على فحوى الرسالة قرر الرئيس السوري إصدار تصريح "نعلن فيه عدم استعدادنا لاستقبال المقاتلين لأن ذلك يشكل ورقة ضاغطة في يد المفاوض الفلسطيني"، وهكذا كان حسب وثائق "المجلة".
وبالتوازي مع المفاوضات كانت الجهود سارية لتأمين انتخاب بشير الجميل رئيساً للبنان. وفي هذا الإطار بعث بشير رسالة طمأنة إلى دمشق عبر العميد سامي الخطيب في الـ12 من يوليو، يطلب فيها تحديد مكان وزمان لإرسال وفد إلى دمشق "لبحث المستجدات على الساحة اللبنانية وساحة المنطقة برمتها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سوريا ترحب بالفلسطينيين
يروي خدام أنه في السابع من أغسطس (آب) تلقى الأسد أول رسالة من عرفات منذ اندلاع الأحداث جاء فيها "جرت بيننا والحكومة اللبنانية محادثات مكثفة حول خروج القوات الفلسطينية الموجودة في بيروت، وقد أبلغنا خلال هذه المحادثات وكذلك بعد لقاء إخواني في القيادة الفلسطينية مع سيادتكم أن سوريا وافقت على استقبال 1200 مقاتل إضافة إلى القيادات ومكاتبهم"، وطالباً تعاون سوريا في هذا المجال.
ورداً على الرسالة سلم خدام ممثلي فصائل المقاومة الفلسطينية في دمشق جواب الأسد، الذي تضمن نفياً لموافقة سوريا على استقبال 1200 مقاتل، ودعا الفلسطينيين إلى الدعوة لاجتماع "طارئ وفوري" لوزراء خارجية جامعة الدول العربية لبحث تنظيم خروج المسلحين الفلسطينيين من لبنان. ولكن في اليوم التالي دعا الأسد ممثلي المنظمات الفلسطينية وأبلغهم أن دمشق وافقت على استقبال المقاتلين الفلسطينيين "أياً كان العدد" لكنه أوضح أنه في ما يتعلق في الأمن والانضباط فـ"أكد عدم إمكانية التساهل في هذه المسائل، وقال يجب أن يكون واضحاً لعرفات أنا لست الرئيس سركيس ولا الملك حسين" في إشارة إلى أحداث "أيلول الأسود" في الأردن التي أدت إلى خروج عرفات ومقاتليه إلى لبنان عام 1970.
وفي الـ12 من أغسطس 1982 استقبل خدام العميد سامي الخطيب موفداً من إلياس سركيس لإطلاعه على نتائج المحادثات مع المبعوث الأميركي وتفاصيل اتفاق إخراج عرفات والمسلحين الفلسطينيين من لبنان، وشملت إرسال قوة دولية متعددة الجنسيات لمساندة الجيش اللبناني في إتمام عمليات الإجلاء إلى سوريا في مهلة 15 يوماً، أما "قوات الردع" فموضوعها "منفصل عن قصة الفلسطينيين ويبحث بين حكومتي دمشق وبيروت على حدة"، ويمكن لسركيس أن يطلب بعد التنسيق مع دمشق "استعادة نشر قوات الردع العربية الموجودة في بيروت الآن في أماكن أخرى في لبنان".
أما في ما يتعلق بالانسحاب الإسرائيلي فنقل خدام في وثائقه عن الخطيب قوله ألا ضمانات في شأن ذلك لكن "نحن نعتقد أن كل ما نعمل له سوف يساعدنا على سحب الإسرائيليين من بيروت، ثم من لبنان".
عرفات يغادر إلى تونس
وبعد مفاوضات على وقف إطلاق النار في بيروت ومفاوضات دبلوماسية في عواصم عربية وفي نيويورك تبلورت الخطة الأميركية لـ"رحيل قيادة ومكاتب ومقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية" من بيروت، وشملت حسب ما أورد خدام في أوراقه وقفاً تاماً لإطلاق النار وتنفيذ عمليات الإجلاء في غضون أسبوعين من تاريخ بدئها وانسحاب المقاتلين الفلسطينيين بأسلحتهم الفردية إلى بلدان أخرى محددة مسبقاً وتسليم الأسلحة الثقيلة للجيش اللبناني واشتراك قوة متعددة الجنسيات في مساندة الجيش والإشراف على العمليات على أن تغادر في موعد أقصاه 30 يوماً بعد وصولها، أما القوات السورية فتعيد انتشارها خارج العاصمة خلال فترة الرحيل بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية على أن "تنسحب من لبنان جميع عناصر جيش التحرير الفلسطيني سواء كانت مرتبطة الآن أو في السابق بقوات الردع العربية".
وفي المواعيد المحددة تم تنفيذ اتفاق انسحاب المقاتلين الفلسطينيين من لبنان والذي "فرضه الإسرائيليون والمبعوث الأميركي فيليب حبيب وبشير الجميل"، حسب ورقة بخط خدام. وخرج ياسر عرفات بحراً إلى تونس رافضاً الخروج عبر دمشق.
وعقب الانسحاب "استمرت أميركا بالعمل على ترتيب أوضاع لبنان ضمن ترتيب أوضاع الشرق الأوسط بما يخدم مصالحها"، حسب وثائق خدام. وزار عدد من المسؤولين الأميركيين دمشق في هذا الصدد.
وحسب "المجلة" الخطوة الأبرز كانت "الزيارة السرية" التي قام بها مستشار الأمن القومي الأميركي روبرت ماكفرلين إلى دمشق للقاء الأسد في الـ17 من يوليو 1983 لعقد صفقة تخص عملية السلام ووضع الشرق الأوسط والوجود السوري في لبنان. وحسب المحضر السري للقاء الأسد – ماكفرلين سمع الأخير من الرئيس السوري "إننا نوافق على الانسحاب من لبنان إذا انسحبت إسرائيل بلا قيد أو شرط وبلا أية مكاسب".
وعاد ماكفرلين لاحقاً إلى دمشق في زيارة علنية بعد تعيينه مبعوثاً خاصاً للرئيس رونالد ريغان في الشرق الأوسط وفي لبنان بصورة خاصة. وبذلك مهدت الاتصالات بين الولايات المتحدة وسوريا إلى عودة القوات السورية إلى بيروت والتي عززت وجودها فيها بعد اتفاق الطائف في 1989، ولم تنسحب القوات السورية من لبنان سوى في أبريل (نيسان) 2005 بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في فبراير (شباط) من العام ذاته.