ملخص
على رغم استمرار المناوشات والقصف وانتهاكات وقف إطلاق النار على الجبهتين المصرية والسورية على مدى أشهر فإن الجهود الدبلوماسية كانت تتسارع من أجل الحيلولة دون عودة الحرب بين إسرائيل والعرب
بحلول الـ31 من مايو (أيار) الجاري يكون مضى نصف قرن على توقيع اتفاق فض الاشتباك بين القوات الإسرائيلية والسورية الذي تم في مثل هذا اليوم من عام 1974، لتنتهي بذلك رسمياً المعارك القتالية والمناوشات بين الجانبين التي اندلعت بصورة مفاجئة في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1973 على الجبهتين السورية والمصرية ضد إسرائيل، واستمرت بصورة متقطعة على مدى نحو ثمانية أشهر.
في الحلقات الأربع الأولى من هذه السلسلة كشفت "اندبندنت عربية" عن وثيقة فض الاشتباك النهائية والنص الذي يعد في آخر بنوده أن هذا ليس اتفاق سلام، ولكن خطوة نحو سلام عادل ودائم على أساس قرار مجلس الأمن رقم 338. كما كشفنا عن مجموعة من الوثائق الأخرى التي عكست الأجواء السابقة على هذا الاتفاق من استعدادات عسكرية، ثم حرب ومفاوضات.
وفي هذه الحلقة الخامسة والأخيرة نستكمل أجواء ما بعد الحرب ورهانات كل طرف من المفاوضات وكيف أخذ وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر على عاتقه مهمة إنجاح مفاوضات فك الاشتباك بين إسرائيل وسوريا، والتي كانت أكثر تعقيداً وصعوبة من المفاوضات بين مصر وإسرائيل، وما أهداف واستراتيجية الأميركيين؟
نقطة البداية
على رغم استمرار المناوشات والقصف وانتهاكات وقف إطلاق النار على الجبهتين المصرية والسورية على مدى أشهر، فإن الجهود الدبلوماسية كانت تتسارع من أجل الحيلولة دون عودة الحرب بين إسرائيل والعرب، وبعدما وقعت مصر وإسرائيل على الاتفاق الأول لفض الاشتباك في الـ18 من يناير (كانون الثاني) 1974، كان رهان وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأميركي كيسنجر على سوريا، إذ التقى الرئيس حافظ الأسد في دمشق يوم الـ20 من يناير 1974 في زيارة هي الثانية من نوعها خلال نحو شهر. فقد بدا لكيسنجر أن الرئيس الأسد أصبح مستعداً الآن بطريقة حذرة للغاية لمحاولة التوصل إلى اتفاق فض اشتباك خاصة به.
وبعدما أصر الأسد في اللقاء الأول مع كيسنجر في الـ15 من ديسمبر (كانون الأول) على ضرورة إلغاء اتفاق فض الاشتباك السوري - الإسرائيلي بالكامل قبل أن يكون على استعداد للالتزام بمؤتمر جنيف الذي رفض مبدئياً مشاركة سوريا في افتتاحه، خفف الأسد في الاجتماع الثاني من موقفه وقدم بعض المؤشرات الملموسة حول نوع اتفاق فك الاشتباك التي سيقبلها.
عرض الرئيس السوري على كيسنجر ثلاثة خيارات: أولها انسحاب إسرائيلي من مرتفعات الجولان مع إنشاء منطقة منزوعة السلاح، ثانياً انسحاب إسرائيلي من شأنه أن يترك للإسرائيليين منطقة سيطرة تبلغ خمسة كيلومترات في المرتفعات، وثالثاً، انسحاب إسرائيلي في منتصف المسافة تقريباً بين خط السادس من أكتوبر 1973 وخط الخامس من يونيو (حزيران) 1967 الأصلي.
وعلى رغم أن هذه لم تكن بالنسبة إلى كيسنجر أكثر من نقطة بداية، فقد أوضح للرئيس الأسد أن الانسحاب الكبير الذي يقصده سيرفضه الإسرائيليون بالتأكيد، معتبراً أن الأسد يعلم أنه سيتعين عليه تقديم اقتراح آخر إذا رفض الإسرائيليون هذا الاقتراح.
نجاح وعراقيل
لكن بعد تسعة أيام أرسل كيسنجر رسالة إلى الرئيس الأسد وفقاً لوثيقة من الأرشيف الوطني الأميركي بتاريخ الـ29 من يناير 1974، أبلغ فيها الرئيس السوري أنه نجح في إقناع الإسرائيليين، على رغم المقاومة الأولية من جانبهم، بالموافقة من حيث المبدأ على الدخول في محادثات فض الاشتباك (فك الارتباط) مع سوريا في إطار مجموعة العمل العسكرية المصرية الإسرائيلية التي سينضم إليها ممثلون سوريون، لكن كيسنجر أوضح أن الإسرائيليين يعلقون أهمية كبيرة على قضية أسرى الحرب، وأنه من خلال اتباع النمط الذي تم تطويره في متابعة فض الاشتباك المصري الإسرائيلي، يمكن له إقناع الإسرائيليين بإرسال الجنرال ديان إلى واشنطن مع الرد على اقتراح الرئيس الأسد، بمجرد أن تقدم سوريا قائمة بأسرى الحرب إذا وافق على زيارات الصليب الأحمر، وأنه في غياب الرغبة السورية في إتاحة قائمة السجناء والسماح بزيارات الصليب الأحمر، سيكون هناك تأخير في بدء مفاوضات فض الاشتباك السورية - الإسرائيلية.
ومع تردد الرئيس الأسد في الاستجابة للمطلب الإسرائيلي، أرسل كيسنجر رسالة ثانية إليه عبر قسم رعاية المصالح الأميركية في سوريا يوم الخامس من فبراير (شباط) 1974، شرح فيها الصعوبات التي واجهها الأميركيون مع الإسرائيليين في تحريك الأمور بسبب إصرارهم على تقديم السوريين قائمة بأسرى الحرب الإسرائيليين والسماح بزيارات الصليب الأحمر لهم قبل الدخول في أي مفاوضات حول فض الاشتباك.
ولتحقيق تقدم في هذه الظروف، اقترح كيسنجر على الأسد أفكاراً عدة تتلخص أولاً في أن ينقل إلى الحكومة الإسرائيلية عدد أسرى الحرب الذين تحتجزهم سوريا على أن ترسل الحكومة السورية قائمة أسرى الحرب إلى قسم رعاية المصالح السورية في واشنطن ومقايضة ذلك باقتراح إسرائيلي ملموس في شأن فض الاشتباك يقدموه لكيسنجر، مقابل قائمة أسرى الحرب بمجرد أن تتم زيارة الصليب الأحمر، على أن تبدأ بعد ذلك عملية التفاوض في إطار مجموعة العمل العسكرية الإسرائيلية - المصرية.
موقف سعودي قوي لسوريا
ومع ذلك، اعتبر كيسنجر في رسالة الخامس من فبراير أن صعوبة أكثر خطورة نشأت حين أبلغته حكومة المملكة العربية السعودية أنه بعد زيارة الأسد للرياض، استجابت الحكومة السعودية لطلبه واتخذت موقفاً بعدم رفع الحظر النفطي المفروض على الولايات المتحدة ما لم يتم التوصل إلى اتفاق لفض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل ويجري تنفيذه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي المقابل أبلغ كيسنجر الأسد أن واشنطن أبلغت الحكومة السعودية أنه ما لم يرفع الحظر، فإن الرئيس نيكسون لن يسمح ببذل مزيد من الجهود من قبل حكومة الولايات المتحدة لتحقيق فض الاشتباك السوري - الإسرائيلي، معتبراً أن الولايات المتحدة أعربت في وقت سابق عن تفهمها للقرار الذي اتخذ بفرض الحظر في خضم الحرب الأخيرة، لكن منذ ذلك الحين تغير الوضع بصورة جذرية.
وتعهدت الولايات المتحدة باستخدام هيبتها ونفوذها بصورة كاملة في البحث عن سلام شامل وعادل ودائم بين إسرائيل وجميع جيرانها، وأن الولايات المتحدة قدمت الدليل على التزامها بهذا الهدف عبر تحقيق فك الارتباط المصري الإسرائيلي كخطوة أولى على رغم الحظر النفطي وليس نتيجة له، لكن كيسنجر بحسب الوثيقة، اعتبر أن استمرار الحظر النفطي سيعمل ضد هدف التوصل إلى اتفاق في شأن فض الاشتباك ومن ثم تحقيق السلام العادل ولوح بأن الإدارة الأميركية ستضطر لوقف جهودها مع إسرائيل والتي تعتقد أنها تحمل أملاً في تحقيق تقدم خلال الأسابيع المقبلة، وهذا سيكون النتيجة الحتمية لاستمرار الحظر.
وبعد ذلك بيوم واحد، حاول كيسنجر إبلاغ الرئيس الأسد برغبة السوفيات في المشاركة مع الأميركيين في جميع مفاوضات فض الاشتباك، ففي رسالة بعث بها الرئيس السوري يوم السادس من فبراير 1974، أبلغه بمناقشاته وزير الخارجية السوفياتي أندريه غروميكو خلال زيارته واشنطن، إذ شدد السوفيات على ضرورة تنفيذ جميع الأنشطة الدبلوماسية في الشرق الأوسط على أساس أميركي سوفياتي مشترك، وأن تكون جميع الأنشطة منسقة بمشاركة الأميركيين والسوفيات في جميع اجتماعات جنيف بين الطرفين.
استراتيجية كيسنجر
كرر كيسنجر موقفه من حظر النفط وتمسكه بالتخلي عن بذل الجهود الأميركية في مفاوضات فض الاشتباك إذا استمر الحظر، وذلك خلال نقاش مطول له في وزارة الخارجية الأميركية مع عدد من أعضاء مجلس الأمن القومي وكبار المسؤولين في وزارة الخارجية في الثامن من فبراير 1974، بحسب ما أشارت مذكرة في الأرشيف الوطني.
وبحسب الوثيقة، شرح كيسنجر بإسهاب استراتيجيته في كيفية جسر الهوة في المواقف السورية والإسرائيلية للتوصل إلى اتفاق في شأن فض الاشتباك، كما أدلى في رأيه وتصوراته حول الوضع في الشرق الأوسط، إذ قال إن الإسرائيليين لم يكونوا في وضع يسمح لهم بمساعدة أنفسهم دون التدخل الأميركي النشط ففي نهاية شهر أكتوبر، كانت إسرائيل في وضع يائس، وهي من الناحية الفنية فازت ببعض الانتصارات، لكنها خسرت الحرب استراتيجيا، لأنه قبل السادس من أكتوبر كان أمن إسرائيل مضموناً من خلال اقتناع الجميع بأن إسرائيل قادرة على الفوز في أي حرب، وأنها ستنتصر بسرعة، دون مشكلة إعادة الإمداد إلا بعد الحرب، لذلك لم يكن عليها التفاوض، لكن هذا التقييم الإسرائيلي تحطم بالكامل بسبب الحرب، فقد كانت إسرائيل في حالة يائسة بسبب نفاد الإمدادات بعد الأسبوع الأول من الحرب، ولولا الجسر الجوي لكانوا قد خسروا.
واعتبر كيسنجر أن بدء الجسر الجوي كان قراراً غير عادي، إذ لا يمكن الاعتماد عليه كإجراء عادي للسياسة الأميركية بهذه السرعة، إذ اعتمد الأمر على الصدفة التي مكنت الأميركيين من ابتزاز البرتغاليين للسماح لهم باستخدام جزرهم.
وفي كل الأحوال، لم يكن على العرب أن ينتصروا، وكل ما عليهم فعله هو البقاء كقوة مقاتلة، إذ يمكنهم فرض استنزاف خطر على إسرائيل التي لا تتحمل الحفاظ على هذا المستوى من الضحايا كما حدث في أكتوبر على فترات منتظمة، كما أن الوضع السياسي تغير بسبب الحظر النفطي، وواجهت إسرائيل معارضة من العرب المتحدين، والأوروبيين، واليابان، والاتحاد السوفياتي، بينما كانت الولايات المتحدة فقط معهم، ومن المفارقات أن إسرائيل، التي تم تصورها على أنها هرب من الغيتو، ستصبح في حد ذاتها غيتو.
كسر التحالف العربي - الأوروبي
يعترف كيسنجر في هذا النقاش بأنه سعى إلى كسر تحالف الأوروبيين والعرب لكي يظهر للعرب أنهم لا يستطيعون ممارسة الضغط على أميركا من خلال الضغط على الأوروبيين، وثانياً كي يدرك الأوروبيون أن واشنطن لا تريد نصيحتهم المجانية، ولولا ذلك لتعرضت الولايات المتحدة لضغوط من أجل الإصغاء إليهم باسم الوحدة الأطلسية، وكان هذا ضرورياً لما جاء لاحقاً.
والسبب الآخر، كما قال كيسنجر، هو أن السادات هو الزعيم العربي الأكثر اعتدالاً على الإطلاق، فهو قومي مصري وليس قومياً عربياً، وربما يريد صنع السلام مع الإسرائيليين، وليس من الواضح ما إذا كان يستطيع القيام بذلك بشروط يمكن للإسرائيليين قبولها.
إبقاء العرب منقسمين
يعترف كيسنجر في هذه الوثيقة أن الاستراتيجية الأميركية هي إبقاء العرب في حالة من الانقسام وإبعاد القضية عن المحافل الدولية، ولهذا السبب كان هناك احتياج إلى بعض التعاون السوفياتي لعقد مؤتمر جنيف، وإحراز بعض التقدم على الجبهة السورية - الإسرائيلية، لأنه في المقام الأول إذا توصلت الدولة العربية الأكثر تطرفاً المتاخمة لإسرائيل بحسب وصفه إلى اتفاق أياً كان، فستغير النمط الأخلاقي، وتفصل سوريا عن العراق، وتجعل من الأسهل على السادات أن يتخذ الخطوة التالية وهي التسوية المصرية مع إسرائيل التي ستخرج العرب من الحرب.
ولهذا السبب اعتبر كيسنجر أن التسوية السورية أمر ضروري، وهناك حاجة إلى بعض التعاون السوفياتي، وإذا كان الأمر نجح مع السادات، فإنه لن ينجح مع سوريا لأن الأسد رجل مجنون ويريد قتل إسرائيل، ويجب أن تكون التكتيكات مع سوريا مختلفة تماماً عنها مع مصر، لأن حقيقة توقيع سوريا على قطعة من الورق تجعل من الممكن التوصل إلى تسوية مع مصر، وهذا هو كل ما يجب أن تريده إسرائيل من سوريا، ومن الضروري أن تحافظ أميركا على علاقات وثيقة مع مصر لأنها تضفي الشرعية على الأمر برمته.
واستشهد الوزير الأميركي ومستشار الأمن القومي بأنه تمكن بكلفة باهظة من الإرهاق، إقناع الإسرائيليين بإنقاذ أنفسهم، وعندما تم فك الارتباط مع مصر، اتفقوا على أنه كان في صالح إسرائيل، ولم يستبعد أنه عندما نصل إلى قضية سوريا، فإنها ستكون أكثر صعوبة، ومع ذلك توقع كيسنجر أن الطريقة لتسويق أي مخطط للسوريين هي إخبارهم أنهم يحصلون بالضبط على ما حصل عليه المصريون، بمعنى أي شيء أكثر من خط السادس من أكتوبر، حتى لو كان ثلاثة كيلومترات وحتى لو وضعوا الأمم المتحدة هناك، ولا شك أن مجرد تفاوض السوريين مع إسرائيل يشكل تغييراً في وضع الشرق الأوسط.
بداية الانفراج
وفي الـ26 من فبراير 1973 اجتمع كيسنجر مع الرئيس الأسد للمرة الثالثة لمدة أربع ساعات وأبلغ الرئيس نيكسون عبر برقية أرسلها نائبه برنت سكوكروفت، أن السوريين سمحوا بإرسال قائمة بالعدد الإجمالي لأسرى الحرب الإسرائيليين الذين يحتجزونهم إلى الإسرائيليين وهي قائمة تحوي 65 اسماً، كما وافق الأسد أيضاً على أن زيارات الصليب الأحمر لأسرى الحرب الإسرائيليين المحتجزين لدى سوريا، وتوقع كيسنجر أن يقدم له الإسرائيليون في الأول من مارس (آذار) أفكاراً حول فك الارتباط السوري وسيقوم شخصياً بإيصال تلك الأفكار إلى السوريين في دمشق.
وفي الـ28 من فبراير 1974 التقى كيسنجر الرئيس السادات لمدة أربع ساعات في القاهرة وأبلغ الرئيس نيكسون في مذكرة أنها كانت جلسة مثمرة للغاية فبعدما أخبر السادات أنه يتوقع مشكلات حقيقية في جلب السوريين والإسرائيليين إلى طاولة المفاوضات، عرض السادات إرسال رئيس أركانه ومستشار سياسي كبير إلى سوريا للحث على اتخاذ موقف معقول ومثل خط السادس من أكتوبر باعتباره خط فض اشتباك معقولاً، لكنه شكك في أن السوريين سيقبلون به، ومع ذلك، فقد وعد السادات بأنه إذا تمكن الأميركيون من إقناع الإسرائيليين بعرض بضعة كيلومترات بعد خط السادس من أكتوبر، إضافة إلى بلدة القنيطرة، فإنه سيكون مستعداً لدعم الولايات المتحدة علناً إذا رفضت سوريا قبول العرض.
أفكار السادات في شأن سوريا
وبعد ثلاثة أيام، اجتمع كيسنجر مع عدد كبير من قادة إسرائيل ومنهم غولدا مائير رئيسة الوزراء وأبا إيبان وزير الخارجية وموشى ديان وزير الدفاع، إذ أشارت وثيقة من الأرشيف الوطني، أن كيسنجر شرح أن السادات أراد نجاح فض الاشتباك السوري لأنه يمنع بصورة نهائية القدرة السورية على إحداث الأذى في المنطقة العربية، إذ سيكون من الممكن حينئذ اتباع سياسات بناءة دون تدخلات، لأن ذلك من شأنه أن يزيل خطر الحرب التي يمكن أن يبدأها السوريون، لكن السادات بحسب كيسنجر لم تكن لديه آراء ثابتة حول المكان الذي يجب أن يكون فيه الخط، وقال إنه سيبذل قصارى جهده ليقدم إلى الدول العربية الأخرى خط السادس من أكتوبر باعتباره إنجازاً سورياً مهماً، غير أنه كان يعتقد شخصياً أنه ينبغي على سوريا أن تتجاوز خط السادس من أكتوبر ببضعة كيلومترات، وأنه إذا قدمت إسرائيل مثل هذا الاقتراح، فإنه سيكون مستعداً للموافقة على ألا يذهب إلى الحرب إذا رفضته سوريا وذهبت إلى الحرب، ومع ذلك لم يتمكن السادات من تقديم هذا الالتزام على خط السادس من أكتوبر، ولم يتابع الموضوع.
ووفقاً للمذكرة، وافق السادات على أنه يتعين منع حدوث انفجار، واتفق مع كيسنجر على أن المشكلة المباشرة هي الحفاظ على استمرار عملية التفاوض وعدم مواجهة خط نهائي، ولهذا الغرض أرسل رئيس أركانه الفريق عبدالغني الجمسي إلى دمشق للتوضيح ولتأكيد بعض التجارب المصرية في المفاوضات مع الإسرائيليين.
أوضح كيسنجر انطباعه بأن السادات يعتقد أنه إذا لم تحصل تسوية بسبب رفض التخلي عن أي من الأراضي القديمة فإنه من المحتمل أن يضطر إلى الحرب، حتى لو كان يعتقد أن السوريين غير معقولين.
تحليل كيسنجر عن الأسد
واستنتج كيسنجر أن هدف الرئيس الأسد ربما يكون إظهار أنه فعل كل ما طلبه إخوته وأنه خدع ولم يحصل على شيء مقابل ذلك، وأن التحدث مع إسرائيل بأي صورة من الصور يخلق وهماً بوجود نوع من التسوية التي تشكل في حد ذاتها مسؤولية عليه، وما لم يعرف ما هي النتيجة فإنه يكون قد دفع ثمناً باهظاً عبر هذه المحادثات فحسب.
واعتبر الوزير الأميركي أن الأسد لن يقبل خطاً حتى يتجاوز خط السادس من أكتوبر الذي لم يصل في الأقل إلى منتصف الطريق أو ما يسميه خطه الأدنى ولم يسمعه قط يقول أي شيء يدل على أنه سيكتفي بمسافة 3 إلى 5 كيلومترات.
استراتيجية نيكسون
بعد أسبوع واحد، عقد الرئيس الأميركي نيكسون جلسة نقاشية مع كيسنجر وعدد من كبار المسؤولين يوم الثامن من مارس 1974، إذ اعتبر نيكسون وفقاً لوثيقة من الأرشيف الوطني، أنه وقت حرب 1967، انتهى الأمر بالولايات المتحدة إلى الجانب الإسرائيلي، لكن في حرب 1973 أنقذت أميركا إسرائيل بجسر جوي، وأوقفت التدخل السوفياتي المحتمل، لكن إدارته فعلت ذلك بطريقة عززت دور أميركا مع العرب ولم تظهرها كمعادية للسوفيات.
وتعهد نيكسون بالوقوف دائماً إلى جانب إسرائيل، لكنه قال إن أميركا تسعى إلى علاقات أفضل مع العرب لمصلحة إسرائيل الخاصة، وأيضاً لإبقاء السوفيات خارجاً وعدم جعل إسرائيل محاطة بدول متطرفة أو خاضعة للنفوذ السوفياتي.
مخاوف ديان
في الـ19 من مارس 1974 كان وزير الدفاع الإسرائيلي موشى ديان في زيارة مهمة لواشنطن، التقى خلالها كيسنجر وناقش معه مفاوضات فض الاشتباك، إذ أشارت مذكرة من الأرشيف الوطني إلى أن ديان أحضر مجموعة من الخرائط وبدأ في تحديد تصوراته حول الخطوط التي يمكن أن يتوصل له الاتفاق وتكون مقبولة من إسرائيل، لكن كيسنجر اعتبر الخطوط مستحيلة، وأنه إذا تمسكت بها إسرائيل قد تندلع الحرب ويعطي السوفيات شيكاً على بياض لرؤية ذلك، وستفقد واشنطن صدقيتها وتفقد مصر صدقيتها.
وبدلاً من ذلك ركز كيسنجر على مبررات فض الاشتباك، ونصح ديان بأنه يتعامل مع دولة أقل موثوقية من مصر، وأقل استقراراً، وأن الحجة التي ينبغي اتباعها هي تحييد موقت للعناصر الأكثر تطرفاً بحيث لا يتم توفير فرصة يريد السوفيات من خلالها أن يفشل هذا الأمر وأن يتسبب في تفكك الدور الأميركي في الشرق الأوسط، وقد يدمرون السادات أيضاً، كما أن الفرنسيين مصممون على رؤية الدور الأميركي يفشل لأن ذلك يمثل عقبة أمام سياستهم في الشرق الأوسط، ولهذا لا يمكن تحمل الفشل، لكن ديان أبدى قلقه من الجبهة السورية، قائلاً "سمعنا أن المصريين سيرسلون ما بين 3000 و4000 جندي من قوات "الكوماندوز" إلى هناك.
وتكررت هذه المعلومة مرات عدة، وهناك كوبيون أيضاً وبعض الطيارين من باكستان والسعودية والكويت، لذا، "هناك مزيج لا بأس به من الألوية الدولية، معظمها من الدول العربية، وقد جاءت جميعها للقتال، وليس للتمركز هناك، وما يقلقنا هو أولئك الذين ينتمون إلى الدول الشيوعية فهم ليسوا عرباً، هناك قوات من كوريا الشمالية، كوبا، بولندا، ألمانيا الشرقية".
رد كيسنجر بأن هذا يعزز حجته وأنه من الضروري بذل جهد كبير لمنع تفجير الموقف مطالباً ديان بضرورة أن يشمل الاتفاق مع السوريين القنيطرة وبعض الخطوط الموازية ولن يكون هناك ضغط أميركي للتخلي عن المستوطنات.
رسالة تحذير
ومع استمرار إسرائيل في التعنت ورفض انسحاب قواتها إلى خطوط يقبلها السوريون، أرسل كيسنجر رسالة إلى غولدا مائير في الثالث من أبريل (نيسان) 1974 يحذر فيها من انهيار المفاوضات.
ووفقاً لوثيقة من الأرشيف الوطني، أوضح كيسنجر أن الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة ستفقد صدقيتها، وسيمنح السوفيات فرصة لا مثيل لها لتعويض خسائرهم في المنطقة وإعادة عقد مؤتمر جنيف ومن خلاله أن يؤسسوا لأنفسهم دوراً من النوع الذي حرمهم منه العرب أنفسهم حتى الآن، وسوف يتعزز موقف الأوروبيين في مسارهم المؤيد للعرب، ومن المحتمل أن يعاد فرض الحظر النفطي.
وإضافة إلى ذلك، ستصبح مصر معزولة وتضعف عزمها على البقاء خارج الصراع المستقبلي، كما سيتراجع الاتجاه الإيجابي الذي أحدثته اتفاق فك الارتباط المصري - الإسرائيلي، كما أن كثير مما تم إنجازه خلال الأشهر الماضية سيتقوض بصورة أساس، لكن الإسرائيليين استمروا في المماطلة ورفضوا الاستجابة لمطلب كيسنجر وهو الانسحاب إلى نقطة تبعد نحو ثلاثة كيلومترات غرب خط السادس من أكتوبر، بما في ذلك خط غرب مدينة القنيطرة.
وفي وثيقة أخرى بتاريخ الثاني من مايو، طلب كيسنجر من الرئيس نيكسون توجيه خطاب شديد اللهجة إلى غولدا مائير للضغط على الإسرائيليين، وهو ما فعله نيكسون بالفعل.
تقدم وتعثر ثم اتفاق
وفي السادس من مايو 1974 وافق الإسرائيليون على رسم خريطة جديدة تعكس تحسنين رئيسين عن موقفهم السابق، إذ وافقوا على رسم خطهم الدفاعي غرب مدينة القنيطرة بأكملها، ووافقوا على إجراء بعض التعديلات الطفيفة في أجزاء أخرى من الخط مما يؤدي إلى انسحابهم في نقاط معينة على مسافة رمزية صغيرة غرب خط السادس من أكتوبر، ومع ذلك، ظل هناك عدد من المشكلات الخطرة الأخرى التي لا تزال قائمة، مثل ما إذا كانت هناك منطقة عازلة وإلى أي مدى ستمتد الإدارة المدنية السورية، لكن بعد جولات ماراثونية جديدة وضغوط أميركية متجددة، حسمت الخلافات الفنية والعسكرية المتبقية بين الجانبين، وهو ما اعتبره كيسنجر إنجازاً أنقذه من الانهيار المرة تلو الأخرى، وفي الـ31 من مايو 1974 وقع الاتفاق بين السوريين والإسرائيليين في جنيف على النحو المبين سابقاً.