ملخص
كتب الروائي الأميركي بول أوستر روايته "اختراع العزلة" إثر وفاة أبيه وكان يعتقد أنه سيختتم به هوايته ككاتب لكنه في الواقع افتتح به المرحلة الأكثر جدية في حياته
قبل أسابيع مات بعد صراع مرير إنما مفاجئ مع المرض، الكاتب الأميركي بول أوستر، الذي يمكن اعتباره الظاهرة الروائية الأميركية الأكثر إثارة للدهشة خلال الربع الأخير من القرن الـ20، كما ينظر إليه مؤرخو الأدب الأميركي ونقاده بوصفه روائي نيويورك الأكثر رسوخاً، كما يقال مثلاً عن مارتن سكورسيزي أو وودي آلن إنهما سينمائيا نيويورك الراسخين. ومهما يكن من أمر في هذا السياق لا بد من التذكير بأن أوستر كان كذلك واحداً من سينمائيي نيويورك على رغم قلة إنتاجه في هذا المجال وعدم أخذه نفسه هو على محمل الجدية في المجال السينمائي. وكذلك على رغم أن السينمائيين أنفسهم ومهما كان إعجاب كثر منهم برواياته وحديثهم عن "الأبعاد البصرية" المتزاحمة فيها، لم يفوا تلك الروايات حقها السينمائي كما تستأهل. ومن هنا ما نلاحظه من ندرة عدد الأفلام الكبيرة التي اقتبست من أعماله.
موت أب!
في النهاية يبقى من بول أوستر متنه الروائي الكبير الذي اعتاد أن يكتبه ويصدره بصورة منتظمة وفي الأقل بدءاً من أواسط سنوات السبعين حاملاً مواضيع وعناوين نيويوركية تنتمي إلى حداثة لا لبس فيها مستقاة إلى حد ما من كتابات فرانتز كافكا، بالتالي تنتمي من دون هوادة إلى الأدب الكبير. ومع ذلك، لا بد أن نعود هنا، لمناسبة رحيل الكاتب الذي كانت صوره توحي دائماً بشباب غض وتبدو حياته، إلى مساره المهني، خير تعبير عن أسطورة نجاح الحلم الأميركي حتى وإن كان قد عبر في أكثر من 20 نصاً روائياً - وفي السيرة الذاتية - عن إخفاق الحلم في أن يحقق لأصحاب الحلم تلك السعادة الأميركية الموعودة. وهذه العودة ستقودنا بالطبع إلى ذلك اليوم من بدايات عام 1971 حين اعتكف أوستر في غرفة في شارع فاريك النيويوركي ليدبج خلال عدد ضئيل من الأسابيع، ذلك الكتاب البسيط والحزين الذي سيكون عمله الكبير الناجح الأول، "اختراع العزلة" على صورة رواية تلت كتابتها بأسابيع موت أبيه الذي لم يعلم به إلا عبر هاتف تلقاه من عمه على غير انتظار.
حكاية قلم و"بيزبول"
في ذلك الحين كان الكاتب الشاب يعيش يأساً قاتلاً وقد فشلت محاولات كتابية عديدة قام بها وتضمنت روايتين بوليسيتين أصدرهما باسم مستعار، كما بدأ زواجه الأول بالتدهور ولم يجد أمامها إلا أن يصرخ ليلاً ونهاراً قائلاً: "ليست الأمور على ما يرام!". ورأى أن خير ما يفعله هو الاندماج في ما هو سائد: ممارسة لعبة "البيزبول" والتحول إلى الصحافة الرياضية. وهو لئن كان قد اشتغل حينها على كتابة نص لاستعراض راقص لا يبتعد موضوعه كثيراً عن "البيزبول" فإنه كان يحس أنه إنما يفتعل تلك الكتابة افتعالاً ويحاول من دون اقتناع، آخر رصاصة في جعبته. وهكذا، وكما يحدث عادة في أفلام فرانك كابرا التي كان أوستر معجباً بها إنما دون أن يدري لماذا، أبلغه عمه بموت أبيه، فاعتكف كما أشرنا في منعزل غرفته ليكتب تلك الرواية الأولى وتحدث "المعجزة الصغيرة" على الضد من كل إخفاقاته السابقة، كما على الضد من اليأس الذي كان قد بدأ يظهر مريحاً وحازماً لديه. والطريف أن بول سيروي لاحقاً بنفسه أن الصفحات الأولى من "اختراع العزلة" قد كتبها بنفس ذلك القلم الرصاص الذي كان تلقاه هدية من لاعب "البيزبول" المفضل لديه منذ كان في التاسعة حين وقعت بين يديه طابة رماها ذلك اللاعب فطلب بول من هذا الأخير أن يوقع له على الطابة لكنه لم يكن يحمل قلماً فأخرج اللاعب قلماً من جيب صديق يرافقه به وقع على الطابة وطلب من الصبي الاحتفاظ بالقلم على سبيل الذكرى. يومها كان بول في رفقة أبيه الذي سأله ماذا سيفعل بالقلم فأجابه: لست أدري! ربما أكتب به شيئاً أحبه يوماً. وسيكون ذلك "الشيء" الصفحات الأولى من "اختراع العزلة" النص الذي كتبه إثر وفاة أبيه وكان يعتقد أنه سيختتم به هوايته ككاتب. لكنه في الواقع افتتح به المرحلة الأكثر جدية في حياته كما نعرف.
نص على صورة نعي
فالحقيقة أن ذلك النص الذي كان بول أوستر يعتقده نوعاً من النعي لمسار مهني بالكاد بدأ، سيتبين أنه بداية مسار كان لا بد له أن يبدأ. وهو بدأ انطلاقاً من الغرفة - المنعزل التي جلس فيها بول ليكتب وقد أغرقه موت أبيه في مرارته. فالنص هو حديث عن مكان للعزلة سرعان ما سيضحى منطلقاً للكتابة يعود إليه الكاتب نفسه مرات ومرات في مراحله التالية - كما في نصيه "المكتب" و"رجل في العتمة" - لكن ذلك النص سيحتوي أيضاً على مجمل "التيمات" التي ستملأ نحو دزينتين من الكتب، إلى درجة أن كاتبي سيرته ونقاد أدبه سيقولون وهو بعد على قيد الحياة أن "كل بول أوستر وكل أدبه وكل ما يفكر فيه، موجود في هذا النص". ولم يكن من قبيل الصدفة أن يقسم أوستر ذلك النص إلى قسمين متساويين عنونهما "بورتريه لرجل غير مرئي" و"كتاب الذاكرة". حيث في القسم الأول يصور لنا الكاتب عزلة بطله جوناس وهو رهن للمرارة وكل أنواع الخيبات داخل غرفته (نفس الغرفة التي يكتب نصه فيها)، بينما يصور لنا في القسم الثاني نوعاً من المزج بين الندم - على ما لا ندري ماذا! - وبين الخلاص حيث على رغم كل شيء وفي عتمة الغرفة يحس جوناس برغبة هائلة في الكتابة وفي الإبداع عموماً وذلك تحت وقع الحضور الطاغي لذكرياته عن أبيه.. ولئن كان جوناس، في القسم الثاني على أية حال يستعرض في ذهنه جملة مواضيع وشخصيات تتجول في ذاكرته بما فيها شخصية المدعو "بول أوستر" نفسه - وهي الشخصية التي سنعود إلى الالتقاء بها وغالباً بصورة عرضية، في روايات لاحقة لكاتبنا مثل الجزء الأول من "الثلاثية النيويوركية" أو حتى في "مون بالاس" وفي الأولى عبر مكالمة تلفونية يتلقاها الراوي يسأله محدثه خلالها عما إذا كان هو نفسه بول أوستر. فيجيبه إجابة مبهمة قبل أن يقفل الخط، أما في الثانية فيفترض الكاتب/ الراوي أنه نفس ذلك المؤلف الذي يتلقى إرثاً من عمه على صورة صناديق مليئة بالكتب سرعان ما تتحول إلى أثاث لبيته!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من أب إلى آخر
طبعاً لا يتسع المكان هنا للإسهاب في ربط مثل هذه التفاصيل ببعضها ببعض والعودة بجذورها إلى ما كانت ذاكرة بول أوستر وموهبته قد اختزنتاه للاستخدام في نصوصه اللاحقة، ولكن أقل من ذلك في نحو نصف دزينة من أفلام حققها الكاتب في تحول عابر إلى الإخراج السينمائي، واحداً منها بمفرده ("دخان")، وآخر شراكة مع صديقه الصيني النيويوركي واين وانغ ("جنون بروكلين")، وثالث من إخراج فيليب هاس ("موسيقى المصادفة")... لكن "ملكوت" بول أوستر الحقيقي يبقى في عوالمه الروائية التي تنم عن مخزون من الأفكار لا ينضب، ولكنه يبدو في نهاية الأمر على صورة مخزون كان يقبع تحت وصاية ذلك الأب الذي بعد موته بنصف قرن وأكثر ظل شبحاً يهيمن على حياة الكاتب الشاب محتجزاً مفاتيح كنز من الأفكار والشخصيات والمواقف التي كان لا بد من موت ذلك الحارس الأمين والضنين في الوقت نفسه لينفتح وتتدفق منه ألوف الصفحات التي تعد اليوم في مجموعها متناً أدبياً، بل كتابياً عاماً، يمكن ضمه إلى أدب راسل بانكز وفيليب روث ودون دي ليلو وغيرهم من أبناء ذلك الجيل الأكثر حداثة في أدب أميركي يبدو دائماً في القرن الـ20 وكأنه يخطو خطوات سريعة وواثقة للتعويض على ما فات الأميركيين من أدب كبير طوال القرون السابقة. ولعل في "اختراع العزلة" بمعنى من المعاني معادل لرسالة كافكا إلى أبيه من جهة كونها مفتاحاً فتح لأوستر أبواب سجن ذي أسوار بناها الأب من حول ابنه تعادل تلك الأسوار التي دمرها كافكا ليتحرر هو الآخر من أبيه فكانت رسالته إلى هذا الأخير مفتاح حريته!