Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جيمي كارتر... قديس أم رئيس؟

هل كان بالفعل ضحية عوامل خارجية متعددة أدت إلى تشويه صورته؟

حين قام كارتر بحملته الانتخابية عام 1976 طرح نفسه ليبرالياً في السياسة الخارجية وتعهد بتجميد عدد الصواريخ والرؤوس الحربية الذرية (غيتي)

ملخص

يبدو اليوم أن جيمي كارتر هو الرئيس الأميركي الوحيد الذي تجرأ على الأمل الحقيقي، وليس الأمل المغشوش الذي تحدث عنه باراك أوباما، ولم ينتج سوى عقد من الخراب والدمار، ذلك الذي عرف تهافتاً بزمن "الربيع العربي"... فهل هو قديس أم مجرد رئيس؟

ما السر وراء هذه الحملة المنطلقة في وسائل الإعلام الأميركية المختلفة، وجميعها تبغي هدفاً واحداً "محاولة تبييض صفحة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر الذي فقد زوجته روزالين أخيراً، ويعاني حالاً صحية متدهورة، وحيداً في بيت من بيوت المسنين، وإن وجد الاحترام والتقدير الكافيين؟

في نظر كثيرين يكاد كارتر يضحى قديساً لا رئيساً، مع الفارق الشاسع بين الاثنين، خصوصاً أن القداسة مجال رحب مطلق، لا يحد من الروحانيات، فيما السياسة عالم من النسبي المؤطر بحدود غالباً ما تكون براغماتية، تعرف طريقها إلى المكر والدسائس صباح مساء كل يوم.

ومن الصعب تفهم أسباب هذه الفورة الإعلامية الساعية في طريق رد مظلومية الرئيس الأسبق كارتر، غير أنه وفي كل الأحوال، يبقى من الممكن تفهم المشهد في إطار حال الاستقطاب السياسي التي تشهدها الولايات المتحدة الأميركية هذه الأيام، وعلى عتبات واحدة من أغرب الانتخابات الرئاسية، إذ لا أحد قادراً على تنبؤ مساراتها أو مساقاتها.

 

ما إرث كارتر الذي يتحدثون عنه؟ وهل الأمر يتجاوز مجرد الإخفاق السياسي إلى أعمال إنسانية وحقوقية عظيمة أرسى قواعدها بعد أن ترك البيت الأبيض؟

المؤكد أن كارتر قصة رجل استطاع أن يبلغ العظمة في مرحلة لاحقة، وعلى رغم أنه انتقد في البداية فإنه أحترم في النهاية، وربما كان في بداية أيامه مهزلة الجميع، غير أنه في ما بعد صار محط احترام الأميركيين. من أين لنا البداية؟

عن الرئيس الـ 39

لسنا في معرض السيرة الذاتية لكارتر، فقط نذكر القارئ بأنه الديمقراطي القادم من ولاية جورجيا الجنوبية، الذي تم انتخابه رئيساً عام 1976، والمثير أنه حتى قيامه بحملته الانتخابية للمنصب، لم يكن سوى عدد قليل من الأميركيين يعرفون من هو.

وحين دخل إلى البيت الأبيض، ربما كان خطأه الأكبر في عيون دهاقنة السياسة الأميركية، أنه رفض الانضمام إلى جماعة "الولد الطيب"، أي كبار أثرياء أميركا، أولئك الذين يوجهون دفة قيادة البلاد داخلياً وخارجياً، وربما خيل له أن الرئيس الأميركي هو القوة المسيطرة الحقيقية على مسارات الأحداث ومساقات الخطوب في هذا البلد الإمبراطوري.

في بداية أيام ولايته اليتيمة، قال كارتر إن افتقاره إلى الخبرة في العمل مع الحكومة الفيدرالية جعله المرشح الأفضل، وبعد أعوام من المشاكل في البيت الأبيض، بدأ عدد من الناخبين يتفقون معه.

ومع ذلك أصبحت قلة خبرة كارتر مشكلته أيضاً، وكان بعض القضايا التي واجهها معقدة، وفي بعض الأحيان بدت ساحقة.

أربعة أعوام قضاها كارتر في البيت الأبيض، من 1976 إلى 1980، كان القدر له فيها بالمرصاد، ما بين رئاسة أميركية تعرضت لكثير من العطب في زمن ريتشارد نيكسون، ثم جيرالد فورد نائبه، مروراً بحال من التضخم الاقتصادي المؤلم الذي ضرب البلاد والعباد، وجاءت الضربة الكبرى متمثلة في قيام الثورة الإيرانية، واحتجاز أعضاء السفارة الأميركية هناك كرهائن، ثم فشل العملية العسكرية، التي حاولت تحريرهم، هذه وغيرها من التفاصيل، رسمت صورة باهتة إلى حد ضعيفة جداً عن الرئيس كارتر.

والشاهد أنه عبر أربعة عقود ونيف، بات كارتر في عيون غالبية الأميركيين، ذلك الرئيس الضعيف، الذي كاد يجر أميركا إلى الهاوية، قبل أن ينتصر عليه رونالد ريغان، القادم من كاليفورنيا، ليتحدى ويتصدى كثيراً من الأزمات الداخلية، ويعزز انتصارات أميركا في مواجهة ما كان يطلق عليه "إمبراطورية الشر"، أي الاتحاد السوفياتي.

 

كارتر رئيس ضعيف لماذا؟

هل كانت قصة ضعف كارتر وفشله تلفيقاً يمينياً، لأكثر من سبب، وربما في مقدم تلك الأسباب، رؤيته للقضية الفلسطينية، على رغم الدور الذي لعبه كصانع سلام في الشرق الأوسط، دور لم يتكرر بعده، ولم يدانه أحد من الرؤساء اللاحقين، ديمقراطيين أو جمهوريين في نجاحاته؟

الجواب يمضي في اتجاهين، الأول هو الهجوم الذي تعرض ولا يزال كارتر له، باعتباره الرئيس السابق الذي تجنى على دولة إسرائيل، وكاد يتهمها بالعنصرية، في تعاطيها مع الفلسطينيين، وهو ما أوضحه بعناية وتفصيل كبيرين، في مؤلفه المعنون "فلسطين: سلام لا تفرقة عنصرية"، وكانت رؤيته الرئيسة فيه أن هناك طريقة للوصول إلى السلام العادل في هذا الجزء المشتعل من العالم، (أي الشرق الأوسط)، طريقة تتوافق مع القانون الدولي، والسياسة الثابتة للحكومة الأميركية، وتلقى قبولاً من معظم الإسرائيليين والفلسطينيين، وتتواءم مع الاتفاقات التي تم التوصل إليها في ما سبق وحاولوا التنصل منها في ما بعد، وكلمات بحسب نصه في الفصل الأول من الكتاب.

وهنا يتساءل بعضهم، هل تعرض كارتر لموجة من الظلم التاريخي من قبل تيارات بعينها لا تتسق أغراضها وتوجهات رجل جورجيا الطيب؟

الجواب يحتاج إلى مناقشات معمقة حول رؤية كارتر كرجل سلام، في وقت الجزء الآخر الذي يمكن أن يحاجج به بعضهم في ضعف كارتر، موصول بأزماته الداخلية التي نجمت عن قلة خبرته في كيفية إدارة الأمور في واشنطن. والثابت أنه ما من شك أن كارتر أخفق في بلورة رؤية للإصلاح الضريبي في الداخل الأميركي، وأن قلة خبرته عينها تركت بصمة كبيرة على عدم القيام بإصلاح نظام الرعاية الاجتماعية، وهو الأمر نفسه الذي ينسحب على إصلاح نظام الرعاية الصحية.

هل كانت المنافسة الشرسة داخل الحزب الديمقراطي في طريق الوصول إلى الولاية الرئاسية الثانية من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى ضعف عام وتشتت في القدرة تجاه إدارة البلاد؟

غالب الظن أن هذا ما جرت به المقادير بالفعل، فقد كانت علاقته المشحونة مع السيناتور الديمقراطي العتيد تيد كيندي، سليل العائلة السياسية الشهيرة، والذي طمح في ذلك الوقت في الوصول إلى البيت الأبيض، سبباً في إلحاق الأذى الشديد به عندما تحداه للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي له عام 1980.

وهنا يقول بعض الرواة لما كان يدور في البيت الأبيض، في ولاية كارتر، إنه كان متذمراً ومتقطعاً، مما تسبب في نفور قسم كبير من الحزب الديمقراطي، ولعل من مصادفات القدر أن يكون الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن هو أول سيناتور يؤيد كارتر عام 1976، ولهذا أوصاه كارتر بأن يقرأ تأبينه في يوم موته.

 

على أن الاتهام بالضعف الحقيقي لكارتر موصول كذلك بقضية مصيرية حياتية في الداخل الأميركي، ونعني بها قضية توافر الطاقة، ففي أميركا الواسعة والشاسعة، كل شيء يحتاج إلى محركات للحركة والانتقال، وفي ظل ارتفاع أسعار الغاز والنفط، بدت أميركا مأزومة في عهد كارتر.

وتمثلت الطامة الكبرى التي لحقت بولاية كارتر في ما جرى في إيران، الأمر الذي اعتبر خسارة كبيرة للنفوذ الأميركي في منطقة الخليج العربي، حيث إمدادات النفط، سائل الحياة والحضارة للأميركيين. وما زاد الطينة بلة كما يقال، أن كارتر بدوره، أخفق في القيام بالدور التقليدي للرئيس الأميركي، أي رئيس، دور "اليانكي الشهير" الذي يعرف كيف ينتصر في حربه الخاصة، ويظهر فحولة بعينها في ميادين القتال، وهو ما أخفق فيه كارتر في ساحة المواجهة مع الملالي القادمين من فرنسا على أسنة الرماح. غير أن هذه الرؤية التقليدية، تجابه اليوم بكثير من النقد الذي يقارب النقض دفعة واحدة، وليس أدل على ذلك من تلك القراءة المعمقة التي حملتها لنا مجلة "فورين بوليسي" الأميركية في عددها الأخير، بقلم ستيوارت إي إيزنستات تحت عنوان "إرث تمت إساءة فهمه".

كارتر وتحدي السوفيات بقوة

وجرى القول على ألسنة العوام أن كارتر كان رئيساً ضعيفاً، وأن المواجهة الأميركية مع الاتحاد السوفياتي جرت بنوع خاص في زمن الرئيس رونالد ريغان، غير أن هذه ليست الحقيقة، وهو أمر يقتضي إلقاء الضوء عليه بمزيد من التعمق.

وبحلول الوقت الذي دخل فيه كارتر البيت الأبيض عام 1977، أصبحت الحرب الباردة راسخة بعمق، وتوسع الاتحاد السوفياتي بقوة في أفريقيا من خلال جيوش مختلفة بالوكالة في أنغولا وإثيوبيا وناميبيا والقرن الأفريقي. وفي الوقت نفسه، عملت موسكو على بناء ترسانتها النووية ما زاد من قمع المعارضة الداخلية، وجعل من الصعب على اليهود السوفيات الهجرة، ومارست موسكو سيطرة مطلقة على الكتلة الشرقية الشيوعية.

وفي الوقت نفسه، ازدهر الديكتاتوريون المؤيدون لأميركا والمناهضون للشيوعية في جميع أنحاء أميركا اللاتينية، وكذلك في أجزاء من آسيا وأفريقيا، بعد أن حظوا بدعم من إدارتي ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، وكان الشرق الأوسط الذي لا يزال في أعقاب حرب "يوم الغفران" عام 1973، بمثابة برميل بارود.

وفي هذه الأثناء، كانت القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة وحلفائها تتضاءل، فانخفض الإنفاق الدفاعي الأميركي منذ انسحابها من فيتنام، ولم يستثمر أعضاء "الناتو" في قدراتهم العسكرية، وواجهت زعامة الولايات المتحدة للاقتصاد الدولي تحديات ناجحة عن انخفاض قيمة الدولار والطريق المسدود الذي وصلت إليه جولة طوكيو لمفاوضات التجارة الدولية. ولعله من المثير، وما يحسب إضافة لكارتر وليس خصماً منه، أنه بدا رئيساً مرناً، غير متكلس أو متحجر، وعمل في صالح أميركا، وليس في صالحه هو شخصياً. كيف ذلك؟

باختصار، حين قام كارتر بحملته الانتخابية عام 1976، طرح نفسه ليبرالياً في السياسة الخارجية، وتعهد بتجميد عدد الصواريخ والرؤوس الحربية الذرية، وخفض الإنفاق الدفاعي بمقدار من خمسة إلى سبعة مليارات دولار سنوياً، وسحب كل القوات البرية الأميركية والأسلحة النووية من كوريا الجنوبية.

وبدت تلك الوعود بمثابة إضعاف لقوة أميركا القطبية على الصعيد العالمي، غير أنه وبمجرد توليه منصبه، أدرك كارتر أنه نظراً للحشد العسكري والنووي السريع للاتحاد السوفياتي، فإن الولايات المتحدة تحتاج مزيداً من القوة الصارمة أيضاً، ولهذا اتخذ خطوات لتعزيزها، وكثيراً ما كان عالقاً بين نصيحة مستشاره للأمن القومي المتشدد زبيغنيو بريجينسكي ووزير خارجيته الحمائمي سيروس فانس.

وبدلاً من خفض الإنفاق الدفاعي قام كارتر برفعه، فعكس الخفوض التي تلت حرب فيتنام وسعى إلى إعادة بناء المؤسسة  العسكرية الأميركية، وبالقيمة الحقيقية، وزاد الإنفاق الدفاعي بنحو 12 في المئة خلال فترة ولايته. وفي الواقع، فإن معظم الأسلحة الرئيسة التي نشرتها إدارة ريغان تمت الموافقة عليها بالفعل من قبل كارتر، القاذفة الشبح، والصاروخ المحمول MX، وصواريخ "كروز" الحديثة من بينها، وخلصت درس "البنتاغون" عام 2017 إلى أن "ثورة ريغان في الإنفاق الدفاعي بدأت خلال الأعوام الأخيرة من إدارة كارتر". هل في هذه السطور ما يدفع بأن كارتر واقع تاريخياً تحت مظلومية وراءها ما وراءها في الداخل الأميركي؟

 

كارتر ونجاحات داخلية منسية

وفي مقال مطول له عبر مجلة "ناشيونال إنترست" الأميركية ذائعة الصيت، يصف البروفيسور اللبناني الأصل، الأميركي الجنسية، والناشط السياسي جيمس زغبي، كارتر بأنه "أعظم رئيس سابق للولايات المتحدة الأميركية على الإطلاق". فهل كان لكارتر بالفعل إنجازات على الصعيد الداخلي الأميركي وليس في جانب السياسة الخارجية فقط؟

بحسب عدد من المؤرخين المعاصرين لكارتر، ومنهم الأميركي ليف سكو جفورز، فإن جيمي كارتر ربما كان بالفعل فاشلاً على المستوى الأسلوبي والسياسي، لكنه كان ناجحاً جوهرياً وبعيد النظر في كثير من الأحيان.

وعلى الجانب المحلي، عانى كواحد من أسوأ الاقتصادات في فترة ما بعد الحرب، مع تضخم وأسعار فائدة بلغت 105، وتفاقمت هذه الأزمة بسبب الزيادات في أسعار النفط التي جاءت نتيجة للثورة الإيرانية، غير أنه في النهاية قام بتعيين بول فولكر رئيساً للاحتياط الفيدرالي، وفرض فولكر علاجاً قاسياً أنهى التضخم، بعد أن سحق رونالد ريغان كارتر عام 1980.

وعلى جانب آخر، أحدث كارتر ثورة في مكتب نائب الرئيس من خلال وضعه في سلسلة القيادة، ومنحه مسؤوليات كبيرة، للمرة الأولى. فأعاد تصور دور السيدة الأولى من خلال جعل روزالين دبلوماسية فعالة ومستشارة رئاسية كبيرة ومنسقة لحملة ناجحة لإقناع الدول بالمطالبة بتطعيم جميع الأطفال قبل دخول المدرسة.

ويمكن للقارئ أن يتساءل "هل كانت هناك مسحة خاصة تغلف رئاسة كارتر؟".

الشاهد أن الرجل تتبدى في ولايته حال التضاد القائمة في كيان الولايات المتحدة، أي الدولة العلمانية الهوية، التي تفرق بحسب الدستور بين ما هو ديني إيماني، وما هو مدني علماني، موصول بالحريات ومواصلة التعبير والقناعات الروحية. وعاش كارتر خلال سنواته الأربع في البيت الأبيض بأريحية الواعظ أو المبشر.

وبصفته باحثاً في التاريخ الديني الأميركي، يعتقد البروفيسور ديفيد شوارتز من جامعة "أسبوري" أن الخطاب الذي ألقاه كارتر في الـ15 يوليو (تموز) 1979، كان الخطاب الأكثر عمقاً من الناحية اللاهوتية لرئيس أميركي، منذ خطاب تنصيب لينكولن الثاني في مارس (آذار) 1865.

وكتب شوارتز أن خطبة كارتر التلفزيونية على المستوى الوطني شاهدها 65 مليون أميركي "ورتل ما يشبه الرثاء الإنجيلي أو المراثي التوراتية حول أزمة الروح الأميركية". وأعلن كارتر خلال خطابه أن "كل التشريعات في العالم غير قادرة على إصلاح ما هو خطأ في أميركا"، مؤكداً أن الخطأ الأساسي هو الانغماس في الذات والاستهلاك. وقال كارتر في هذا الخطاب "لم تعد الهوية الإنسانية تحدد بما يفعله المرء بل بما يملكه"، لكن "امتلاك الأشياء واستهلاكها لا يرضي شوقنا إلى المعنى".

فهل كانت هذه الروحانية وراء ثلاث محطات طبعت ولاية كارتر ولم تأخذ حقها في الحديث، وها هم الأميركيون اليوم يعيدون فتح الملفات الثلاثة؟

كارتر الباحث عن حقوق الإنسان

تكاد تكون ركيزة حقوق الإنسان واحدة من أهم ركائز ولاية كارتر المنسية، والتي لا يتذكرها أحد، قبل أن يماط عنها اللثام أخيراً. وخاض كارتر أصعب معاركه في "الكونغرس" خلال رئاسته لإقناع مجلس الشيوخ بالتصديق على نقل السيطرة على قناة بنما إلى الحكومة البنمية، مما أدى إلى تصحيح شكوى طويلة الأمد لعدد من دول أميركا اللاتينية.

وفي الوقت عينه، قطع المساعدات المالية والعسكرية عن الأنظمة الديكتاتورية في القارة التي تعد الخلفية الجيوسياسية للولايات المتحدة، مثل خورخي رافائيل فيديلا في الأرجنتين، وإرنستو جيزل في البرازيل، وأوغستو بينوشيه في تشيلي، وهدد بحجب المساعدات عن دول أخرى، بما في ذلك غواتيمالا وأوروغواي إذا لم تطلقا آلاف السجناء السياسيين.

وفي عام 1977، وبمبادرة من "الكونغرس" وبدعم متحمس من كارتر، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية تقريرها السنوي الأول حول حقوق الإنسان على مستوى العالم، وهو تقييم عام لحال حقوق الإنسان في ما يقارب 200 دولة، وهو التقليد الساري حتى الآن. وعطفاً على ذلك، وجهت سياسة كارتر في مجال حقوق الإنسان ضربة للاتحاد السوفياتي، فدعم كارتر علناً المنشقين السوفيات مثل أندريه ساخاروف، ودافع عن هجرة اليهود السوفيات، وتبنى قضية الرافضين اليهود السوفيات مثل ناتان شارانسكي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فهل كانت سياسات كارتر مؤثرة وفاعلة في مواجهة الاتحاد السوفياتي؟

يعترف الدبلوماسي السوفياتي أناتولي دوبرينين الذي شغل منصب سفير موسكو لدى الولايات المتحدة من 1962 إلى 1986، بأن سياسات كارتر في مجال حقوق الإنسان "ساعدت في إنهاء الحرب الباردة" لأنها لعبت دوراً مهماً في عملية التحرير الطويلة والصعبة داخل الاتحاد السوفياتي". وفي هذا السياق، يكتب المؤرخ الأميركي روبرت سي دونيلي من جامعة "غونزاغا"، موضحاً كيف لعبت قناعات كارتر بحقوق الإنسان دوراً مهماً في إضعاف الاتحاد السوفياتي، فبعد وقت قصير من قيام الاتحاد السوفياتي بغزو أفغانستان، فرض كارتر حظراً على مبيعات الحبوب الأميركية، استهدف اعتماد الاتحاد السوفياتي على القمح والذرة المستوردين لإطعام سكانه. ولمعاقبة السوفيات بصورة أكبر، أقنع كارتر اللجنة الأولمبية الأميركية بالامتناع عن المنافسة في "أولمبياد" موسكو المقبل، وقتها، بينما قمع السوفيات شعبهم واحتلوا أفغانستان.

رجل السلام في الشرق الأوسط

يبدو اليوم أن كارتر هو الرئيس الأميركي الوحيد الذي تجرأ على الأمل الحقيقي، وليس الأمل المغشوش الذي تحدث عنه باراك أوباما، ولم ينتج سوى عقد من الخراب والدمار، ذلك الذي عرف تهافتاً بزمن "الربيع العربي".

ونجح كارتر في أن يعقد أهم معاهدة سلام، في التاريخ المعاصر، بعد الحرب العالمية الثانية، بين مصر وإسرائيل، معاهدة "كامب ديفيد" التي أنهت قرابة أربعة عقود من النزاع السياسي والعسكري، بين المصريين والإسرائيليين، وهي الاتفاق الذي فتح لاحقاً أبواب السلام في الشرق الأوسط.

على أن التساؤل "هل كانت صناعة هذا السلام بين القاهرة وتل أبيب أمراً يسيراً؟".

في الـ17 من سبتمبر (أيلول) 1978، واجه كارتر أزمة خطرة، وظل متحمساً في "كامب ديفيد" لمدة أسبوعين تقريباً مع الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن في محاولة للتوصل إلى اتفاق سلام تاريخي. وعلى رغم أن بيغن المتشدد أثبت تعنته في التعامل مع عدد من القضايا، فإن كارتر أحرز تقدماً هائلاً من خلال الالتفاف حوله والتفاوض مباشرة مع وزير الخارجية الإسرائيلي موشيه ديان، ووزير الدفاع عيزرا وايزمان، والمستشار القانوني أهارون باراك، لكن في اليوم الـ13، رسم بيغن الخط الفاصل، وأعلن أنه لا يستطيع تقديم تنازلات أخرى، وأنه سيغادر، مما كان يعني لكارتر أن جهوده في طريقها لتمضي أدراج الرياح.

ولفتة شخصية فكر كارتر فيها، انطلاقاً من دوافع إيمانية ووجدانية، كانت هي التي أنقذت المفاوضات من الانهيار، وكان كارتر يعرف أن بيغن لديه ثمانية أحفاد، وأنه مخلص لهم جداً وبصورة استثنائية، وفي قرارة نفس كارتر، كان يعرف مقدار الألم والخوف، والمعاناة والمذلة التي عرفها بيغن في حياته، ومن سنوات الزنازنة التي جعلته يرى الألوان أبيض وأسود فقط، بعد أن حبسه سجانوه مع إضاءة مستمرة ليلاً ونهاراً.

وأحضر كارتر ثماني صور له وللسادات ولبيغن، ووقع عليها جميعاً، ووجهها إلى كل حفيد باسمه، ثم حمل الصور بشخصه إلى المقصورة الموجود فيها بيغن حيث كان يستعد للمغادرة، عندما قرأ بيغن أسماء أحفاده، ارتعشت شفتاه ودمعت عيناه، ووضع حقائبه جانباً، وفي وقت لاحق من اليوم نفسه، توصل إلى اتفاق مع السادات في شأن ما أصبح إطار عمل معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية بعد ستة أشهر.

ترى، لماذا لم ينجح أي رئيس أميركي تال في إدراك ما أدركه كارتر؟ هل السبب أنه كان رئيساً له دالة حقيقية على فهم معنى ومبنى السلام بعيداً من المراوغات السياسية؟

إرث كارتر الأخضر ودفاعه البيئي

هل كان آل غور نائب الرئيس بيل كلينتون هو أول من اهتم بقضية البيئة والمناخ وأزمات كوكب الأرض الإيكولوجية؟

المؤكد أن جيمي كارتر، وفي سياق كثير من الأحاديث المسكوت عنها، كان في واقع الأمر أول من بادر إلى الاهتمام بهذا الملف غير المسبوق، ووقع كارتر على 14 تشريعاً رئيساً للتشريعات البيئية، وكان أول زعيم في أي مكان في العالم يفكر في تغير المناخ، والذي كان في ذلك الوقت حديثاً خاصاً بالنخب العلمية الأميركية وقليل من الأوروبية فحسب.

وضاعف كارتر من حجم المنتزهات الوطنية (مع مشروع قانون أراضي ألاسكا)، ومن ضمن تشريعاته المتقدمة أول تمويل للطاقة الخضراء، وأول عملية تنظيف للنفايات السامة، وأول معايير الاقتصاد في استهلاك الوقود.

وكانت أول ألواح شمسية تستخدم في توليد الطاقة في البيت الأبيض، هي تلك التي تم تركيبها في زمن الرئيس كارتر، وهي التي قام رونالد ريغان تالياً بإزالتها.

وأصبح كارتر أول رئيس دولة في العالم، وليس في أميركا فحسب، يتصدى لظاهرة الاحتباس الحراري العالمي، وجلب أول تنوع حقيقي إلى السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وكبح الخطوط الحمراء وأنشأ إدارات الطاقة والتعليم والوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ، وأصلح الخدمة المدنية، للمرة الأولى منذ 100 عام، وحصل بمساعدة زوجته روزالين على موافقة الحكومة على أول مشروع قانون مهم للصحة العقلية، ولا يقلل من ذلك أن ريغان هو أول من موله.

والمؤكد جداً أن ما تقدم يعبر فقط عن كارتر خلال سنواته الأربع في البيت الأبيض، في وقت راكم الرجل وعبر أكثر من أربعة عقود نجاحات محلية وإقليمية وعالمية، قادته لأن يضحى رمزاً أميركياً وعالمياً للسلام والحقوق الإنسانية، ولو وجدت جائزة أعلى قدراً من "نوبل" للسلام لحازها.

هل لهذا بالفعل يستحق كارتر لقب "أعظم رئيس أميركي سابق فحسب؟".

غالب الظن أن الأميركيين، إلا قلة يمينية، يحاولون رفع الغبن الذي وقع عليه لعقود طوال.

المزيد من تقارير