ملخص
"الغواص" رواية يونانية جديدة تدخل عالم البحر والضحايا الذين يرميهم الموج، لكن الروائي مينوس إفستاثياديس يحبك قصة شبه بوليسية يتقصى من خلالها مفهوم الجريمة.
على رغم مما يتسم به الأدب البوليسي من غموض وتشويق وإثارة، وهي السمات التي استقطبت قطاعاً كبيراً من القراء حول العالم، فإن ثمة أبعاداً أخرى باتت تميز روايات الجريمة، تتصل بغايات وأهداف اجتماعية وأخلاقية، بل إن بعض الأعمال ذهب إلى ما هو أبعد، فراحت تسائل الماضي وتكشف مناطق مظلمة في تاريخ الشعوب، كما في رواية "الغواص" للكاتب اليوناني مينوس إفستاثياديس، التي رشحت لجائزة الرواية الأوروبية، وصدرت نسختها العربية أخيراً عن دار "العربي" - القاهرة، في ترجمة أنجزها عن اليونانية محمد عباس عبدالعزيز. تنطلق أحداث الرواية من حبكة ثانوية، يقود السرد فيها راو عليم، يكشف عن جثة ملقاة في البحر اليوناني، يتم انتشالها ودفنها والتعاطي معها باعتبارها ضحية حادثة غرق لا جريمة قتل، ثم ينتقل الكاتب إلى الحبكة الرئيسة التي يتحول السرد فيها إلى ضمير المتكلم بلسان كريس، وهو المحقق الذي يصف نفسه بأرخص المحققين سعراً في مدينة هامبورغ الألمانية. وكما تتوزع هوية الشخصية المحورية (المحقق) وإقامته بين ألمانيا واليونان تتوزع الأحداث كذلك بين البلدين كفضائين مكانين للسرد. فتبدأ من هامبورغ مع إسناد رجل مسن مجهول، للبطل، مهمة مراقبة "إيفا ديبليغ" لمدة 48 ساعة. وعلى رغم تعقب المحقق للمرأة المرصودة، يمر اليوم الأول من دون أن يبلغ نتيجة ذات قيمة، فيدفعه الفشل للاعتذار عن عدم إتمام المهمة. لكنه سرعان ما يجد نفسه متورطاً في جريمة قتل، بعد العثور على موكله مشنوقاً في الفندق ذاته، الذي قادته إليه "إيفا" أثناء تعقبه لها ومراقبتها.
الضبابية والتشويق
جمع النص في طياته سمات أنواع مختلفة من أدب الجريمة، بداية من الأحداث الملغزة في رواية اللغز، وكذا المحمولات الشكلية للرواية السوداء، عبر وجود قصتين إطاريتين، تتصل إحداهما بالجرائم والأخرى بالمحقق نفسه. ونسج الكاتب علاقات ربطت بين أبطال كلتا القصتين. كما بدا النزوع النفسي للرواية، وبرز الحس المأسوي، لا سيما عبر بعض الشخوص، مثل شخصية طبيب الرئة "خريستوس آدم"، الذي تعرض طفلاً للإخصاء، مما أورثه عطباً نفسياً أفرج عنه في انحراف سلوكي، تعرض على أثره للابتزاز. كذلك علت نبرة التشويق عبر إرجاء الكاتب حل ألغازه، حتى مراحل متأخرة من السرد، فكان لغموض هوية المسن القتيل، والضبابية التي غلفت الملابسات التي آلت به إلى الانتحار، وكذا المكان الذي عثر عليه فيه منتحراً، أثر كبير في زيادة الجرعة التشويقية، التي عززها التباس علاقات الشخوص، لا سيما علاقة "إيفا ديبليغ" بالرجل المسن، وعلاقتها بالرجل الذي يوجد معها في غرفة الفندق، ودور الرجل العربي الذي انضم إليهما، والعبارة الملغزة التي أرسلها المسن إلى المحقق عبر هاتف الفندق قبيل انتحاره. وتصاعدت وتيرة التشويق مع وقوع جرائم جديدة، عمد الكاتب في كل منها إلى إخفاء دوافع وقوعها وهوية مرتكبيها، وإرجاء الكشف عنها إلى مرحلة متقدمة من السرد... "كنت على يقين أنه انتحار بمجرد أن سمعت اسم الوارث الرئيس. ترك نيكولاوس كل ما تبقى من ممتلكاته لابن عدوه الأبدي، إلى الطبيب خريستوس آدم. لا أستطيع أن أتخيل ما كان يخفيه أنطون روت داخل ذلك الظرف المختوم، ولكن مهما يكن بداخله، فقد كان هذا الشيء من قتل المحامي فعلياً"، (ص: 153).
الغوص في التاريخ
يتسع الفضاء المكاني للسرد مع تطور الأحداث، وانتقالها من ألمانيا إلى اليونان، فتكون ملاحقة "إيفا ديبليغ"، ورغبة المحقق في تفسير ما وقع من أحداث ملغزة، سبباً في عودته إلى موطنه الأصلي في مدينة إيغيو، وقوة تدفعه إلى الغوص في الماضي، لا سيما مع زيادة غموض وتعقيد الأحداث بظهور جثة "إيفا" غارقة في البحر، على رغم مهارتها في الغوص. وكان الكشف عن هوية المسن "الجندي السابق في الجيش الألماني" طرفاً من خيط، قاد البطل للإبحار في التاريخ، وبلوغ أكثر الحقب التي عاشها اليونانيون رعباً، أثناء الحرب العالمية الثانية، والكشف عما أسفر عنه الصراع بين المتمردين اليونانيين والجيش الألماني، من أهوال حاقت بالمدنيين وحدهم، مثل ما حدث في مذبحة كالافريتا، التي قتل فيها النازيون 1400 مدني يوناني، وكان أهم أسباب حدوثها سوء الترجمة، والتباس ما دار من حوار بين الطرفين المتصارعين.
واتسق مع هذا الإبحار نحو الماضي الحضور الكثيف للخطاب المعرفي، إذ استدعى الكاتب كثيراً من المعارف التاريخية، وبعض القادة والمسؤولين المتورطين في أعمال وحشية أثناء الحرب العالمية الثانية. واستدعى كذلك مقر الاعتقال الذي أطلق عليه الجنود الألمان "بيت الحقيقة"، وما مارسوه به من جرائم وفظائع جعلت الكاتب يهدي روايته لمن مروا بذلك البيت. وحتى ما نسجه من أحداث وشخوص متخيلة لم يكن سوى معادل واقعي لحقبة وثق التاريخ ما شهدته من مجازر، حصدت أرواح آلاف الأبرياء. فكانت مأساة كل من "ماريا ونيفيلي"، الصديقتين اللتين بلغتا المرحلة الأخيرة من مسابقة ملكات الجمال، وسيلة انتهجها، ليس لإحكام الحبكة وتحقيق النمو الدرامي للأحداث وحسب، ولكن أيضاً للإشارة - عبر مصير الفتاتين - لما تعرضت له النساء اليونانيات على يد الاحتلال الألماني، من وحشية واغتصاب وتعذيب. وكما استدعى الكاتب التاريخ، ومرر عديداً من الحمولات المعرفية، استدعى كذلك الأسطورة التي تعد مكوناً أصيلاً للحضارة اليونانية، فبرزت عبر تفسيره اسم مدينة إيغيو - إحدى الفضاءات المكانية للسرد - الذي ورثته مباشرة من العنزة، التي أرضعت زيوس، وفقاً للأسطورة. وبدا تأثر الكاتب بالمسرح اليوناني، عبر استدعائه مسرحية "أجاممنون" للكاتب إسخيلوس، وتوظيفه لها في خدمة التطور الدرامي للأحداث: "لا أدرك كم من الوقت مر حتى نهاية العرض، عندما يضربني الهواء النقي أخيراً في الخارج، أشغل هاتفي الخلوي، أستمع إلى رسالة أنطون روت ربما أكثر من عشر مرات، ليس هناك أدنى شك، لقد اختار عبارة من مسرحية أجاممنون لإسخيلوس"، (ص: 87).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في مساحات مختلفة من نسيجه السردي مرر الكاتب بعض المشكلات التي تؤرق المجتمع اليوناني، وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية التي عصفت به قبل سنوات. كما تطرق إلى مشكلات الفقر وارتفاع معدلات حوادث السير وتآكل النظام الصحي والفساد والرشوة الممنهجة. وعلى رغم ما عمد إليه من تكثيف وتسريع السرد، فإنه في المقابل أتاح مساحات واسعة من الحوار المسرحي، مرر عبرها لمحات من السخرية، وأتاح كذلك لبقية الشخوص من خلالها حرية التعبير عن ذواتهم، لا سيما المحامي "نيكولاوس"، الذي مكنه دوره في الحوار، من تسلم صوت السرد في مساحة ممتدة من النص، استعاد خلالها - عبر تقنية الفلاش باك - الصراع الألماني - اليوناني في أربعينيات القرن الماضي، كاشفاً عن أهوال الحرب وأثمانها الباهظة، التي يتحملها الأبرياء. كذلك برز الوصف، لا سيما في مستواه التفسيري، كحيلة أخرى لجأ إليها الكاتب لتخفيف سرعة السرد وإبطائه، وكذا لتبيان الجو النفسي للشخوص: "يفصل خليج كورينث إقليم وسط اليونان عن إقليم ألبيلوبونيز، مثل شخصين وقعا في الحب بجنون، ولكن في النهاية، دفعا قسراً إلى وداع أخير"، (ص: 61). وعزز عبر الوصف، وما استعان به من تقنيات سينمائية، مثل تقنية عين الكاميرا، مشهدية السرد، متيحاً للقارئ إمكانية إعادة إنتاج الأحداث على مسرح الخيال: "يهبط جسدي باستمرار نحو الأعماق، جراء الأوزان المربوطة حول خصري. يقترب ستيليوس مني مرة ثانية، ويشير بيده نحو حلقة معدنية متدلية من حبل. بينما يستمر هو في الهبوط نحو القاع"، (ص: 177).
خلف الأقنعة
برز التخفي كتيمة رئيسة للنص، فقد حرص الجميع على ارتداء أقنعة تتيح لهم إخفاء حقائقهم، والجوانب المظلمة منهم. وخلف هذه الأقنعة توارت الهوية الحقيقية للرجل المسن "أنطون روت". وتوارت خلف قناع المطاردة والمقهورة حقيقة مكائد "إيفا ديبليغ". وخلف قناع طبيب الرئة النابه "خريستوس آدم" توارت حقيقة ميوله المنحرفة. وخلف قناع المحامي الذي يمد يد العون "نيكولاوس بابابوستولوس"، توارت خططه الماكرة. وخلف قناع الإنقاذ والمساعدة توارت جرائم الغواص ستيليوس. وبالمثل أخفت الشخوص الثانوية، مثل "كوستا" و"إليني"، حقيقتها خلف الأقنعة. ومرر الكاتب من الأحداث ما يحيل إلى أن الأقنعة ليست حكراً على الشخوص وحدهم، بل إن عديداً من حكومات الدول الكبرى ترتدي مثل تلك الأقنعة، فبينما تنتصر مواثيقها ودساتيرها وقوانينها لحقوق الإنسان يخفي تاريخها إرثاً جسيماً من الوحشية واللاإنسانية. وتجلت هذه التيمة في حلم البطل بتجوله في شوارع مكتظة بالناس، تتشابه وجوههم فيما ترتديه من أقنعة بلاستيكية، وفسرت هذا الحلم حالة الإنهاك، التي بلغها المحقق نتيجة غموض الشخوص والحوادث، والتي شكل منها الكاتب متاهة سردية، تنتهي معها كل قدرة للقارئ على التنبؤ بما يمكن أن تؤول إليه الأحداث. وفي مقابل تيمة التخفي برزت تيمة الغوص، فالحقيقة الغائبة كانت الدافع والمحفز، للغوص في الطبقات الأعمق في نفوس الشخوص وفي التاريخ وفي البحر أيضاً. ولم يمارس المحقق الغوص وحده، وإنما فعلها حيوان الخلد في طريقة بشعة للتعذيب، مارسها كهنة محاكم التفتيش، وأعاد النازيون إنتاجها واستخدامها مع معتقليهم من اليونانيين.