ملخص
يقدم المخرج المصري محمد فرج الخشاب مسرحية "سقوط حر" عن نص "ميراث الريح" للكاتبين الأميركيين غيروم لورانس وروبرت لي مختزلاً النص الأصلي بشخصياته وأحداثه ومستبعداً المواقف الشائكة.
غالب الظن أن الكاتبين الأميركيين غيروم لورانس (1915-2004) وروبرت لي (1918-1994) كتبا معاً مسرحية "ميراث الريح" ليعادلا كفة الميزان بين الدين والعلم، يتبنى أحدهما اتجاهاً، ويتبنى الآخر اتجاهاً مضاداً، ويديرا الصراع بينهما، لغرض طرح الأسئلة، وتنتهي المسرحية من دون أن نعلم، بصورة قاطعة، لمن كان النصر.
لا معلومات متوافرة تخص ظروف كتابة النص، لكنه مجرد تخمين، أفضى إليه ذلك المشهد الأخير، الذي يضم فيه محامي الدفاع هنري دراموند، الكتاب المقدس، وكتاب دارون "النشوء والتطور" معاً، كما لو كان يشير إلى تعادل كفتي الميزان، أو بمعنى أدق، يشير إلى إمكانية التعايش بين الدين والعلم، من دون أن يتعارض أحدهما مع الآخر.
المعروف أن الكاتبين نفسيهما كتبا معاً مسرحية أخرى "الليلة التي أمضاها ثورو في السجن" نشرت عام 1970، كتباها احتجاجاً على حرب فيتنام، وهي تتناول قصة الشاعر والفيلسوف هنري ديفيد ثورو، الذي رفض عام 1846 دفع الضرائب، احتجاجاً على الحرب الأميركية في المكسيك، ليكون أول من قاد حركة عصيان مدني في التاريخ.
على أية حال فقد اشتغل المخرج المصري محمد فرج الخشاب، على هذا النص دراماتورجياً، وقدمه في عرض مسرحي بعنوان "سقوط حر" على مسرح الهوسابير وسط القاهرة، من إنتاج نقابة المهن التمثيلية.
تقليم أظافر
أول ما يلفت النظر في نص العرض هو ما يمكن وصفه بتقليم أظافر النص الأصلي، إذا جاز التعبير، وحذف شخصيات، وأحداث، أظنها كانت مؤثرة في البناء الدرامي، ومنها على سبيل المثال شخصية راشيل، وهي ابنة قس المدينة، التي بدا أنها متورطة في علاقة عاطفية مع المعلم كيتس، المتهم بتدريس نظرية النشوء والتطور لدارون، بما يخالف قوانين الولاية، مما يعرضه للمحاكمة، وغيرها من الشخصيات، والأحداث.
المؤكد أن الدراماتورج حر، فيما ذهب إليه، والمؤكد، كذلك، أن علينا، في مثل هذه الحالات، التعامل مع نص العرض، وإن بقي النص الأصلي، دائماً، يلقي بظلاله أثناء التلقي، شئنا أم أبينا، ولكن يبقى السؤال: هل لجأ المخرج والدراماتورج إلى تخليص النص من بعض الشخصيات والأحداث والجمل الإشكالية، من مثل "إن فكرة جديدة أعظم من بناء كاتدرائية"، أو إن ابنة القس أحبت متهماً بالإلحاد، وغيرها من الأحداث والجمل الدالة، تجنبا للصدام مع الرقابة، أو حتى المجتمع، بخاصة أن هذا النص تعرض، منذ الشروع في تقديمه للمرة الأولى، عام 1983، وحتى الآن، لمشكلات رقابية كثيرة، وتم رفضه في غالب الأحيان، أو في الأقل تم الاعتراض على بعض جمله وأحداثه، أم أنه فعل ذلك كنوع من الاختزال، نظراً إلى طول النص، الذي يقع في ثلاثة فصول؟
أيضاً جرد المخرج، النص من مضمونه السياسي، من خلال شخصية ممثل الادعاء، السياسي المخضرم ماثيو برادي، الذي كان مرشحاً رئاسياً ثلاث مرات من قبل، واستغل هذه المحاكمة ليتاجر بالدين، سعياً لكسب تأييد أهالي الولاية عند ترشحه مرة رابعة، وهي شخصية تعيش بيننا حتى الآن، ليس في عالمنا العربي فحسب، وإنما في أوروبا وأميركا نفسها.
لم تكن هذه الشخصية، تحديداً، بالوضوح الكافي، الذي يبرز دوافعها في تبني أفكار العقلية الجمعية، التي تؤمن بالتقاليد والنظم التي توارثتها، وترفض الحق في التفكير.
بعيداً من النص الأصلي، الذي سعى إلى تصوير ما كان يحدث في المحاكمات المكارثية التي جرت بين عامي 1947 و1956، منطلقاً من حادثة حقيقية وقعت في ولاية تينسي الأميركية، إذ اتهم أحد المدرسين بمخالفة قانون الولاية الذي يحظر تدريس نظرية النشوء والتطور، فقد نجح المخرج في إبراز ذلك الصراع بين من يتمسكون بالتعاليم الدينية الصارمة، وبين من ينادون بحرية الفكر، بين المعلم الذي حاول إنارة طريق تلاميذه بالعلم، وبين أولياء الأمور، الذين ساءهم أن يخالف هذا المعلم تعاليمهم الدينية التي توارثوها، ويلعب، حسب تصورهم، بعقول أبنائهم.
لفتة ذكية
لم يشأ المخرج أن يحسم الصراع بواسطته، وتلك أحسبها لفتة ذكية، إذ قدم عرضه فوق خشبة المسرح (On stage) وأحاط الجمهور بقاعة المحكمة، ليتم توريطه في إصدار الحكم، فبعد المباراة التي جرت بين محامي المتهم وممثل الادعاء، واستدعاء الشهود، يتم توزيع أوراق على الجمهور، كما لو كانوا هيئة محلفين، ليدون كل منهم حكمه، هل المتهم مدان أم غير مدان، وبالتأكيد جاء غالب الآراء في صالح المتهم، على عكس ما حدث في النص الأصلي، عندما دانت هيئة المحلفين المتهم بالإجماع. وإذا كان القاضي، في نص الكاتبين الأميركيين، قد اكتفي بتغريم المتهم 100 دولار، وأعلن محاميه أنه سيستأنف الحكم، فإن النهاية في العرض المصري جاءت مفتوحة، من دون حسم، تاركة الحكم للجمهور، وكذلك الأسئلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صاغ مصمم الديكور عمرو عثمان قاعة المحكمة من منصة للقاضي في مستوى مرتفع، في مقابلها منصتان في المستوى صفر، الأولى عن يسار منصة القاضي لممثل الادعاء، والأخرى عن يمينه للمتهم، وترك مساحة بينهما لحركة الممثلين، وهي صياغة عملية وبسيطة وواقعية، وأقرب تصور يمكن أن يصل إليه خيال المصمم، ولم يكن مطلوباً منه أكثر من ذلك، ليؤدي الديكور وظيفته في هذه المساحة الضيقة، يعلمنا بمكان الحدث، ويضعنا بداخله، ويراعي زوايا الرؤية، من دون إفراط في خيال، ربما أدى إلى إرباك طرفي العرض، الممثلين والمشاهدين.
عنصر التمثيل
ربما كان عنصر التمثيل أبرز ما في هذا العرض، بخاصة المشاهد التي جمعت بين محامي المتهم (مصطفى عسكر) وممثل الادعاء (هاني الطمباري)، فكلاهما تحمل العبء الأكبر في إبراز جوانب الصراع، بفهم واع لطبيعة الشخصية ودوافعها، وقدرة على الإمساك بالتفاصيل كافة، واستخدام الجسد، وتعبيرات الوجه، بخاصة أن الجمهور ملتحم بهما، وهو ما يتطلب نوعاً من الأداء، وطريقة في استخدام الجهاز الصوتي، تختلف عما إذا كان العرض داخل علبة إيطالية، كانا واعيين إلى طبيعة المكان ومتطلباته، من دون إفراط في استخدام أدواتهما، أو عدم توظيفها بصورة تناسب الفضاء الذي يعملان به.
أما المعلم المتهم بتدريس نظرية النشوء والتطور (أحمد أبو زيد) فعلى رغم ندرة كلامه، فقد استطاع التعبير بصورة جيدة، عن انفعالاته الداخلية، من خلال الحركة وتعبيرات الوجه، كشاب يرى أن من حقه التفكير حتى لو أخطأ، لكن مجتمعه يرفض هذا الحق، ويصر على أن يعطي دروسه وفقاً لتعليمات الرب.
أيضاً فقد تحلى عمرو عثمان، في دور القاضي، بالرصانة التي يقتضيها الدور، وعدم إظهار انحيازه لأحد طرفي الصراع، ومعه أيضاً سوزي الشيخ، وبهاء الطمباري، وإسماعيل أحمد، وآدم وهدان، وحسن خالد.
"إن الفكرة أشبه ما تكون بجنين داخل أجسادنا، يجب أن يولد في حينه ويرى النور، فلو مات في الداخل، فإن جزءاً من ذواتنا سيموت أيضاً معه". عبارة جاءت على لسان إحدى شخصيات النص، لكن المشكلة أن "هذا الحين "لا يأتي أبداً، فهناك أمور ستظل دائماً غير قابلة للمناقشة من قبل العقلية الجمعية، التي تتنكر لميزة العقل التي منحها الله للإنسان، وربما لذلك جاء في تقديم النص أنه "كتب للمسرح، والزمن غير محدد، ليس منذ زمن طويل، قد يكون من وقت قريب، وقد يكون غداً".