Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جولي هيل ترثي الإسكندرية الفرنكوفونية وتتأمل غروبها

يونانية ولدت في "المدينة العالمية" وتركتها في سن الـ20

الإسكندرية القديمة والحديثة (من الكتاب)

ملخص

جولي هيل عادت إلى الإسكندرية، إذ ولدت لأسرة يونانية، بعد أن غادرتها وعمرها 20 عاماً، إلى الولايات المتحدة للدراسة. هذه العودة كانت مجرد زيارة دامت بضعة أيام لحضور مؤتمر لأصدقاء مكتبة الإسكندرية الدوليين، لكنها ألهمتها فكرة كتاب عن مدينة باتت مختلفة إلى حد بعيد عما خبرته عنها في طفولتها وصباها، اختارت له عنواناً دالاً على فداحة ذلك الاختلاف، وهو "إسكندريتي في شمس الأصيل".

صدر كتاب "إسكندريتي في شمس الأصيل" In the Afternoon sun: My Alexandria بالإنجليزية عام 2017، وصدرت ترجمته العربية أخيراً عن المركز القومي بتوقيع غادة جاد. تنتمي أصول جولي هيل (اسمها اليوناني أيوليا بانايوتيس ليوتسنيديس) إلى من تسميهم "يونانيي الشتات"، الذين قدر عددهم بـ1.5 مليون نسمة عام 1922، وكانوا يعيشون في الجانب الآسيوي من تركيا، وطلب منهم الرحيل ليحل محلهم 360 ألف تركي كانوا يعيشون في اليونان. اختار والد جولي الرحيل إلى الإسكندرية، بما أن له فيها قريباً ثرياً، مفضلاً هذه المدينة الكوزموبوليتانية على بلد أجداده، التي كانت في ذلك الوقت تعيش أوضاعاً غير مستقرة، في الأقل من الناحية الاقتصادية، فضلاً عن أنه لم يكن يعرف أحداً فيها، ولم يسبق أن وطأتها قدماه من قبل. هذا الأب ولد في بلدة صغيرة قرب أزمير. أما زوجته فولدت في إسطنبول، "التي كانت تسميها دائماً القسطنطينية، مترنمة بمقاطعها الخمسة المثيرة للحماسة، إذ كانت شديدة الفخر بتراثها البيزنطي". (ص 18).

تقول جولي هيل المولودة في عام 1936، حين سئلت عن رأيها في الإسكندرية: "لم يسعني إلا أن أقول إنه في أيامي فيها كنت أفتقد العالم الأكثر رحابة، وكانت تروقني بدلاً من ذلك تلك اللفحة من النسيم الأوروبي. لكن حينها لم أكن مصرية، وحين شرعوا في الشدو بأن (مصر للمصريين)، عرفت على نحو أكثر وضوحاً أنها ليست لي". وتضيف: "من أغرب الأشياء في ما يتعلق بماضي الإسكندرية أنها حين كانت ملء الوجود، كانت في اللاوجود. تحولت الطوابق الأرضية من المباني إلى واجهات دكاكين مبهرجة، وقد تدلت من أجزائها الأمامية، كأكاليل الزينة، أسلاك هاتف متشابكة، وتوارت أسطحها خلف غابة من الإعلانات التجارية واللافتات، وما كان مرئياً كان يصعب التعرف إليه. كانت عقود من التخريب قد أضفت على كل شيء الغشاء الفج ذاته ومسحة التدهور البطيء المتعذر إيقافه".

أدب الحنين

استقرت جولي هيل في الولايات المتحدة الأميركية، بعدما تعذر عليها أن تعود إلى مسقط رأسها، وخصوصاً عقب مصادرة ممتلكات أسرتها وإجبارها على الرحيل من مصر عام 1960. في عام 1959 تزوجت بدبلوماسي أسترالي، وحملت اسم عائلته، ورافقته إلى بلدان عدة، ألهمتها ثلاثة كتب في أدب الرحلة، نشرت بين عامي 2003 و2014. أما كتابها "إسكندريتي في شمس الأصيل"، الذي تهديه إلى والدها بانايوتيس ليوتسنيديس، فجاء في تصديره الذي كتبه يوناني سكندري آخر هو مدير المعهد الهيليني للدراسات السكندرية القديمة والوسيطة هاري تزالاس، أن كثيراً من اليونانيين السكندريين كتبوا عن السنوات التي عاشوها في الإسكندرية، وقد أرادوا أن يتركوا حكاية، وأن يعبروا عما أحسوا به وعاشوه... "وبإعادة صياغة كلمات كفافيس أرادوا أن يصبحوا جديرين بمثل هذه المدينة، على نحو يشبه كثيراً السكان الأصليين الذين خلفوا بصمات كفوفهم على جدران الكهوف. وتكاد كل أعمالهم تندرج تحت فئة أدب الحنين، لكن ما يصفونه لا يعدو سوى مجرد سراب. إنها رحلة إلى الحدود الخارجية للمخيلة حيث تعمل نزعة التوق إلى التنقيب في تصورهم للواقع وتجميله أيضاً". ويضيف تزالاس: "كتب اليونانيون كتباً جد قليلة تعالج الحقائق التاريخية. لذلك فكتاب جولي هيل استثنائي، إذ تصطحبنا عبره يداً بيد وتمشي بنا في إسكندرية الطفولة". وهاري تزالاس، هو أيضاً من مواليد الإسكندرية في عام 1936، وزامل جولي هيل عندما كان اسمها جوليا ليوتسينيدس في مدرسة الليسيه الفرنسية، وعن ذلك يقول: "عشق كلانا الإسكندرية باعتبارها مدينتنا الخاصة، وبعد كل هذه السنوات من الإقصاء الغاشم عن مصر ما زلنا نفتقدها، وما زلنا نصبو إلى الحياة الهانئة التي عشناها على ذلك الشريط الضيق من الأرض، الممتد بين البحر المتوسط والمياه العكرة الآسنة لبحيرة مريوط".

توثيق الذكريات

ولا تنفي جولي هيل أنها زارت مصر غير مرة عقب زواجها، في سياق عمل زوجها في السلك الدبلوماسي، لكن زيارتها الأخيرة أثارت شجونها على نحو يصعب تجاهله، فكان أن سعت إلى توثيق ذكرياتها في الإسكندرية التي ولدت وعاشت فيها حتى المرحلة الجامعية، والتعبير في الوقت نفسه عن النفور المدينة نفسها في ظل ما لاحظته عليها من اختلاف واضح عما استقر في ذاكرتها. فبعد تلك الزيارة باتت على قناعة بأن الإسكندرية التي تخصها لم يعد لها وجود، أو في الأقل تلفظ أنفاسها الأخيرة. فبعدما كان "الأجانب" يشكلون غالبية سكان هذه المدينة التي أسسها الإسكندر الأكبر، حتى أربعينيات القرن الماضي، وكان عددهم يتجاوز 800 ألف نسمة، غالبيتهم من أصول يونانية، لم يعد تعدادهم يتجاوز في الوقت الراهن بضع مئات. كان أبواها، كما تقول من ميسوري الحال، لكن غالبية هؤلاء "الأجانب" كانوا فقراء، شأنهم في ذلك شأن غالبية المصريين، آنذاك، إلا أنهم كانوا يتميزون بحماية قناصل بلادهم الأصلية، وانحياز ما يسمى المحاكم المختلطة لهم على حساب أهل البلد الأصليين. كان هؤلاء ينعمون كذلك بالحماية التي وفرتها لهم المعاهدات التجارية المعروفة بالامتيازات الأجنبية في الشرق، فجرى إعفاؤهم من دفع الضرائب ومن القبضة القضائية. كانت الإسكندرية بالنسبة إليهم - كما تقول الكاتبة - منطقة حرة حقيقية، "شكلوا فيها مجتمعاً كان مع وجوده في مصر دائم التطلع إلى الغرب". (ص 42).

الثقافة الفرنسية

تقول: "كانت أمي تكلمنا في المنزل باليونانية الدارجة، ويخاطبنا أبي بالفرنسية، وهي اللغة التي كنا نتحدث بها جميعاً، وكانت حديثنا بالعامية المصرية تخالطه قليلاً كلمات يونانية وإيطالية، وكثيراً كلمات فرنسية، وكانت تفي بغرض التواصل مع الخدم وموظفي المكاتب وبائعي الأسواق. لكننا لم نتعلم العربية الفصحى قط، تلك التي صارت إلزامية بعد سنوات حين التحقت بالجامعة المصرية". كانت أسرة جولي تقيم في فيلا من طابقين في ضاحية كامب شيزار الخاصة آنذاك بالطبقة الوسطى... "وكانت الأبسطة أغلى مقتنياتنا، إذ جاءت من الأناضول والهند وبلاد فارس، بل ومن اليونان، غير أن أحبها إلى قلبي تلك التي نسجت في القوقاز". في هذا المجتمع، الذي يخلو من المصريين، كانت الفرنسية اللغة الأجنبية الأولى في مدارس الجاليات كافة، كما كانت لغة التواصل الاجتماعي في المدينة، واللغة الرسمية للإدارة ولعدد كبير من القنصليات والمحاكم المختلطة، وللتصريحات العامة التي يراد أن يفهمها السامعون والقراء... "ولهذا كنا نراها على واجهات الدكاكين، وفي أسماء الشوارع، وفي الإعلانات التجارية، ولوحات أصحاب المهن. كانت كذلك اللغة السائدة في المتاجر الراقية في قلب المدينة، حتى يكاد المرء يظن أنه في باريس وليس الإسكندرية". كان والد الكاتبة يعمل في الاستيراد والتصدير، كما كان يملك مدبغة... "ثم اشترى حاويتين تجاريتين، وامتلك مخزن توابل في بورسعيد، على ضفة قناة السويس. سارت الحياة على أحسن ما يكون على مدى عقد، إلى أن اندلعت الحرب العالمية الثانية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتضيف جولي هيل: كانت اللغة والديانة أساسيتين لتقسيم جاليات الإسكندرية من يونانيين وإيطاليين ومالطيين وأرمن ويهود، وكانت كل جالية منها تنعم بدعم إحدى الحكومات الأجنبية أو دعم رعاة، فلبت فرنسا حاجات مدرسة الليسيه، بينما لم يقصر تجار القطن الأثرياء في تمويل المدارس اليونانية، وبطريقة ما كانت فكرة الاندماج أو التكامل مع المجتمع والثقافة المحيطين في حد ذاتها فكرة دخيلة على روح الجماعة الواحدة، حتى إنه كان من اللافت للنظر أن الإسكندرية لم تكن قط بوتقة انصهار على نحو ما حدث في أميركا، بل ظلت لوحة فسيفساء من البشر". (ص 57).

كان مسرح السالفاجو The Salvago أحد المقاصد التي كثيراً ما تردد عليها أبناء الجالية اليونانية، كما كان الأليانسThe Alliance الفرنسي بالنسبة إلى الفرنسيين. وكانت الموهبة - تقول الكاتبة - تحظى بالتقدير والتشجيع داخل الجالية، وكانت هناك جوائز تمنح لتشجيع الموهوبين. وشكلت الصحف اليومية والأسبوعية والمقالات الأدبية والنشر والمحاضرات ودراما الهواة والمعارض الفنية نسيجاً ثرياً، عبر عن روح الإسكندرية الكوزموبوليتانية. تقول جولي هيل مخاطبة قارئاً افتراضياً: "كنت تسمع أثناء سيرك على الكورنيش الموسيقى اليونانية تنبعث من المقاهي، في حين يعزف لحن النصر المأخوذ من أوبرا عايدة في كل وقت من محطات الراديو، ومن الشاطبي إلى سان إستيفانو، كان بوسع المرء أن يجد مطاعم مبنية على أعمدة فوق الماء... "يبدو الأمر الآن غريباً حين أجلس وأسترجع الماضي. لم أكن أدرك أني قادرة على استحضار كثير جداً من ذكريات طفولتي البعيدة".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة