Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أنورا" ابنة النادي الليلي تعجز أمام السلطة الطبقية

شون بايكر يقدم خطابا سياسيا عميقا مستخدما قوالب الكوميديا

الكوميديا والسياسة والميوزيكال في فيلم "أنورا"(ملف الفيلم)

ملخص

يدمج المخرج الأميركي شون بايكر بين الخطاب السياسي الملتزم والمواقف الكوميدية ليروي سينمائياً قصة مواجهة "أنورا" فتاة الليل لسلطة طبقة ثرية

السينما مزيج من الفن والترفيه، وقلة من الأفلام استطاعت أن تسلي المشاهد وتحمله على التفكير في آن واحد. إنها المعادلة الصعبة التي صنعت تاريخياً مجد السينما الأميركية. سعى إليها كثر من دون أن ينجحوا فيها بالكامل. وهذا ما يحققه "أنورا" للمخرج الأميركي شون بايكر الفائز بجائزة "السعفة الذهبية" في ختام الدورة الـ77 لمهرجان "كان" السينمائي. جاء بايكر بعمل ينطوي على خطاب سياسي كبير يستخدم قوالب الكوميديا، من تلك التي يلتقطها كل مشاهد وفق وعيه السياسي وخلفيته الثقافية ومستواه الفكري. من يبحث عن ترفيه يجده حتماً في الحبكة، ومن يطمح إلى الذهاب أبعد من الظاهر، فالفيلم يتيح هذا المجال.

"أنورا" اسم الشخصية الرئيسة التي نتعرف عليها في مطلع الفيلم. فتاة عشرينية من أصول مهاجرة (ميكي ماديسون) تعمل متعرية في ناد ليلي، ولا تمانع أن تقدم أكثر من التعري لبعض الزبائن إذا توافرت الفرصة، مقابل مبلغ من المال. تمارس هذه المهنة بصيغتها التي يطلقون عليها اليوم "أسكورت"، بعيداً من الأوصاف التي تحمل وصماً. "أنورا" هذه تلتقي طريقها بطريق ابن أوليغارشي روسي (مارك أيدلستاين)، وهو شاب من عمرها. إيفان هذا غير ناضج، خلافاً عنها. يمضي وقته في تبذير أموال والده. بعد وقت قصير على لقائهما، يطلب إيفان من "أنورا" الزواج به، فتوافق لما في هذا العرض من فائدة وصعود سريع للسلم الاجتماعي. ولئلا نظلمها، قد تكون رأت في هذا العرض فرصة للخروج من الظروف التي تعيشها، المفروضة عليها لأسباب اقتصادية. هذا نقاش كبير، لا يتوسع فيه الفيلم. يترك الأشياء ضبابية من دون توضيح النيات. هل تقبل الفتاة عرض الشاب لأسباب محض مادية أم أنها بدأت تعجب به فعلاً. ورأت فيه فرصة لا تفوت للنجاة من واقعها؟ قد يكون مزيجاً من السببين. 

لكن، ما يحدث عندما يعلم أهل إيفان بالزواج، ينقل الفيلم إلى ضفة أخرى. يحضر الوالدان وسلطتهما وجبروتهما من خلال ثلاثة رجال أقوياء "يتولون تنظيف الوسخ"، لإلغاء هذا الزواج، وإعادة الأشياء إلى نصابها، بعد ضرب طوق حول أنفسهما وطبقتهما والامتيازات التي يحظيان بها. ومهما كان الشاب مخطئاً، فالذنب يكون ذنب الفتاة، المذنبة بالفطرة، لأنها لا تنتمي إلى هذا الوسط وهذه البيئة. فلا يمكن فتاة من هذه الطبقة أن تستحق زواجاً بابنهما. والوحيد الذي سيتعاطف معها هو أحد الرجال الثلاثة القساة، الذي يبني بايكر فيلمه من خلاله، بلمسات طفيفة، فاعلة، تحدث فرقاً كبيراً، في محاولة من جانبه لرد الاعتبار إلى التضامن الإنساني بين أبناء الهم الواحد. يسأل القارئ "ما الجديد في هذا كله؟"، وهو محق. الموضوع كلاسيكي عولج سابقاً، في صيغ عدة، لكن ما هو مختلف هنا هو التفاصيل والمعالجة والوجوه والنبرة. 

إذاً لا يمكن اعتبار هذا كله بعداً سياسياً داخل فيلم يتظاهر بالخفة والسطحية، فما السياسة إذاً؟ وأين نجدها؟ وكيف يكون أفضل تمثيل لها على الشاشة؟ شون بايكر يبحر حراً طليقاً في أميركا، في الحلم الأميركي المفكك، في أوساط المهمشين، يحملنا إلى المهاجرين الذين لا تزال لديهم لكنة بعد سنوات من الإقامة في موطنهم الجديد، يعرفنا على طقوسهم الدينية، نكتشف تمسكهم بمرجعيتهم الأصلية واضطرارهم إلى القيام بأعمال معينة، على رغم عدم قناعتهم بأخلاقيتها. أما فتيات النادي الليلي، فمشاركتهن الهموم نفسها، لا تمنعهن من خوض الحروب. يحاربن بعضهن البعض تحت الأعين الحريصة للقوة الخفية التي تمنعهن من تحسين ظروفهن. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على غرار كن لوتش، ولكن من دون قبضات مرفوعة، يصور بايكر إحساس العجز عند هؤلاء أمام السلطة التي تمنع عنهم أي حلم أو ترقية. يفعل الفيلم هذا كله من دون أي سقوط في فخ استعراض البؤس، مصوراً مواجهة بين عالم الأثرياء القادرين على كل شيء، والذين يتنصلون من المسؤوليات، والضعفاء الذين لا يملكون في النهاية إلا تضامنهم، وأحياناً لا يملكون حتى هذا الترف. يتجسد هذا كله بعيداً من الأنماط التي يلجأ إليها السينمائيون التقليديون في تصويرهم البؤس والمعاناة. لا يوجد مشهد واحد يوحي ببؤس. هذا متروك لمخيلة المشاهد. في بعض الأحيان، كادر مثل ذاك الذي نرى عبره "أنورا" وهي تعود إلى شقتها صباحاً بعد نزولها من سلالم القطار، يطرح إشكالات أكثر من صفحات سيناريو طويلة. ومن أجل فرض رؤيته، استعان بايكر بشخصية عاملة الجنس، وهي شخصية رمزية، لكونها تجمع بين الهشاشة والقوة. صفتان ضروريتان لفيلم كهذا.

لا يحتاج "أنورا" إلا لبعض اللقطات ليقول ما يود قوله. الفيلم بأكمله مبني على هذا المبدأ. لا يتأخر على شيء لأن كل تفصيل محمل بمعان. إنه المختصر المفيد. المشهد الختامي، قادر على نقل الفيلم من محل إلى آخر، حاسماً الصراع داخل المشاهد. فإذا كان لا يزال متردداً في شأن بعض النقاط، تأتي الخاتمة لحسم المسألة.

يخفي بايكر فيلمه خلف "حيل" سينمائية، راسماً شخصيات لا نكرهها مهما تكن أفعالها، إذ تبقى في حدود المعقول. هذه الشخصيات تبدو كارتونية بعض الشيء، وهي تمدنا باستمرار بشعور أنه لا شيء خطراً سيحدث، بل كل ما نراه هو تهويل بتهويل. هذا الإحساس يتم التحضير له منذ البداية. في نظرة بايكر إلى شخصياته، ثمة دائماً رحمة وعاطفة، يوزعهما بكميات متفاوتة على الجميع. هذا كله يضفي على الفيلم طابعاً يجعله محبباً، قريباً من القلب. لكن، عندما يضرب في الآخر، فإنما يضرب على الوتر الحساس.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما