Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف سيبدو النظام الدولي إذا ما تحقق نهج "أميركا أولا"؟

عودة ترمب المحتملة تثير تساؤلات عدة تجاه النظام العالمي؟

الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في مدينة نيويورك، مايو 2024 (رويترز)

ملخص

الولايات المتحدة لن تنسحب بالكامل من الشؤون العالمية لكنها ستكون أقل اهتماماً بالدفاع عن المعايير العالمية، وتوفير المنافع العامة، وحماية الحلفاء البعيدين. وسوف تصبح سياستها الخارجية أقل التزاماً بالمبادئ والقيم، وأكثر تركيزاً على تحقيق المكاسب على حساب الآخرين.

ماذا سيحدث للعالم إذا أصبحت الولايات المتحدة مجرد قوة عظمى شأنها شأن أي قوة عظمى أخرى في العالم؟ ليس الهدف من وراء هذا التساؤل معرفة ما قد يحدث إذا عزلت الولايات المتحدة نفسها، بل ببساطة استكشاف ما يمكن أن يحدث إذا تبنت البلاد نهجاً قائماً على المصلحة الذاتية الضيقة والانتهازية التي اتبعتها بعض القوى العظمى عبر التاريخ - متخلية عن دورها الفريد في تعزيز النظام الليبرالي لتحقيق المنفعة العالمية. في الواقع، سيكون ذلك بمثابة خروج كبير عن الاستراتيجية الأميركية التي استمرت 80 عاماً. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لم يعد بعيد المنال كما كان يبدو من قبل.

في عام 2016، فاز دونالد ترمب بالرئاسة على أساس أجندة "أميركا أولاً". لقد سعى إلى ولايات متحدة قوية، ولكن منعزلة. دولة تعمل على تعظيم مزاياها في حين تحد من التزاماتها العالمية إلى الحد الأدنى. في الواقع، إن السمة التي تميزت بها رؤية ترمب للعالم هي اعتقاده أن الولايات المتحدة ليست ملزمة السعي إلى تحقيق أي شيء يتجاوز مصلحتها الذاتية المحدودة والضيقة. واليوم، يتنافس ترمب مرة أخرى على الرئاسة، مع توسع قاعدة مؤيدي سياسته الخارجية داخل الحزب الجمهوري. في الوقت نفسه، هناك استياء داخل الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء في ما يتصل بالجوانب الرئيسة للعولمة الأميركية [المشاركة العالمية لبلادهم ومسؤولياتها الدولية]. وعاجلاً أم آجلاً، سواء في عهد ترمب أو أي رئيس آخر، قد يضطر العالم إلى التعامل مع قوة عظمى تعطي الأولوية باستمرار لمبدأ "أميركا أولاً".

نسخة كهذه من الولايات المتحدة لن تنسحب بالكامل من الشؤون العالمية. وفي بعض القضايا، قد تكون أكثر عدوانية من ذي قبل، لكنها ستكون أيضاً أقل اهتماماً بالدفاع عن المعايير العالمية، وتوفير المنافع العامة، وحماية الحلفاء البعيدين. وسوف تصبح سياستها الخارجية أقل التزاماً بالمبادئ والقيم، وأكثر تركيزاً على تحقيق المكاسب على حساب الآخرين. على نطاق أوسع، ستمتلك هذه النسخة من الولايات المتحدة سلطة هائلة لكنها ستفتقر إلى أي إحساس كبير بالمسؤولية، لذلك سترفض تحمل أعباء والتزامات غير متكافئة في السعي إلى تحقيق الفوائد الحقيقية، ولكن المتفرقة هنا وهناك والتي يوفرها النظام الليبرالي.

ستكون العواقب وخيمة. فالسياسة الخارجية الأميركية في وضع متراجع كهذا من شأنها أن تنتج عالماً أكثر شراً وفوضوية. وشعار "أميركا أولاً" قد يكون كارثياً بالنسبة إلى أوكرانيا ودول أخرى معرضة للعدوان الاستبدادي. من شأن هذا أن يطلق العنان للفوضى التي احتوتها الهيمنة الأميركية لفترة طويلة.

ومع ذلك، في عالم تتمتع فيه القوة الغاشمة بنفوذ أكبر بسبب انهيار النظام الليبرالي، قد تتمكن الولايات المتحدة من إدارة الأمور بصورة جيدة نسبياً، في الأقل لفترة من الوقت. وحتى لو اندلعت الفوضى العالمية، فمن المرجح أن يكون الأميركيون من بين آخر من يشعر بتأثيرها. إن جاذبية شعار "أميركا أولاً" تكمن في حقيقته الأساسية. على رغم أن الولايات المتحدة ستواجه في نهاية المطاف عواقب في عالم أكثر فوضوية، في غضون ذلك، ستتحمل دول أخرى وطأة التداعيات.

قوة عظمى من نوع مختلف

تسعى جميع الدول إلى تحقيق مصالحها، لكن تعريف هذه المصالح يختلف من دولة إلى أخرى. تقليدياً، ركز مفهوم المصلحة الوطنية على حماية أراضي الدولة وسكانها وثروتها ونفوذها. ولكن منذ الحرب العالمية الثانية، رفض غالب القادة والنخب الأميركية فكرة أن تكون الولايات المتحدة دولة طبيعية تتصرف بطريقة نموذجية. ففي نهاية المطاف أظهرت الحرب أن الأنماط المعتادة للعلاقات الدولية يمكن أن تؤدي إلى عواقب كارثية على البشرية، وحتى على الولايات المتحدة التي تقع بعيداً. وبذلك، شوهت الحرب حركة "أميركا أولاً" الأصلية، التي كانت تتألف من معارضي تدخل الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، وسلط الضوء على حاجة أقوى دولة في العالم إلى تبني منظور أوسع لمصالحها.

وكان المشروع الذي نجم عن ذلك غير مسبوق في نطاقه. لقد استلزم الأمر تشكيل تحالفات تغطي الكرة الأرضية وتحمي الدول البعيدة من الشواطئ الأميركية، وإعادة بناء البلدان التي مزقتها الحروب، وتعزيز اقتصاد عالمي حر مزدهر، وتعزيز الديمقراطية في المناطق البعيدة. والأهم من ذلك، أنها تضمنت أيضاً نبذ سياسات الغزو والاستغلال الصارخ التي اتبعتها القوى العظمى الأخرى بصورة متكررة. وبدلاً من ذلك، اختارت الولايات المتحدة التمسك بمعايير مثل عدم الاعتداء، وحرية تقرير المصير، وحرية استخدام المشاعات العالمية [أعالي البحار والفضاء الخارجي والغلاف الجوي]، لذا قدمت للبشرية مستقبلاً أكثر سلاماً وتعاوناً. وفي عام 1949، أوضح الرئيس هاري ترومان هذه الرؤية، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تتولى الآن "المسؤولية التي قدرها الله من أجل رفاهية العالم في الأجيال القادمة".

لقد قدم مفهوم "المسؤولية" هذا رؤى مهمة. لم يكن هناك أدنى شك بين صناع السياسات الأميركيين في أن بلادهم ستستفيد من العيش في عالم أكثر استقراراً. ومع ذلك، فإن تحقيق ذلك تطلب من واشنطن أن تنظر إلى المصلحة الذاتية بطريقة واسعة للغاية. لم تكن أي فكرة سابقة عن المصلحة الوطنية تقتضي أن تخاطر الدولة الأكثر أماناً وحصانة في العالم بحرب نووية على مناطق بعيدة، أو إعادة بناء خصومها السابقين وتحويلهم إلى قوى صناعية ومنافسين اقتصاديين. ولم يكن أي تعريف سابق يتطلب تقديم مساهمات كبيرة بصورة غير متناسبة للأمن الجماعي حتى يتمكن الحلفاء عمداً من إنفاق أقل على الدفاع عن أنفسهم.

اشتكى الرئيس جون كينيدي في أوائل ستينيات القرن الماضي من أحد هذه الترتيبات، المتعلق بدور واشنطن في استقرار الاقتصاد الدولي ودعمه، فقال "إنني أرى المزايا والإيجابيات بالنسبة إلى العالم الغربي، ولكن ما الميزة الوطنية الضيقة" للولايات المتحدة؟ سياسة الولايات المتحدة المتمثلة في تحمل المسؤوليات العالمية وتعزيز المصالح الدولية الأوسع لا تكون منطقية إلا إذا اعتقد المرء أن التركيز فقط على المصالح الوطنية الضيقة التي تخدم المصالح الذاتية في الماضي قد أدى إلى دمار وفوضى على نطاق واسع، لذلك كانت واشنطن في حاجة إلى خلق بيئة دولية أكبر يستفيد منها الأميركيون من خلال إفادة الشعوب ذات التفكير المماثل في جميع أنحاء العالم. وقد أوضح وزير الخارجية دين أتشيسون في عام 1952 أن "نمط القيادة الفعالة ينطوي على تحمل المسؤوليات". لذا يتعين على الأميركيين "ألا ينظروا إلى مصالحنا بطريقة ضيقة، بل... أن يفكروا فيها من منظور واسع ومتفهم".

صعود وتألق

لا يتعين على المرء أن يعتقد أن كل شيء كان مثالياً منذ عام 1945 لكي يعترف بأن التاريخ تحول جذرياً بمجرد أن بدأ "نمط المسؤولية" هذا في تشكيل فن الحكم الأميركي. ازداد معدل النمو وتحسنت مستويات المعيشة، أولاً في الغرب، ثم على مستوى العالم، في مناخ من التعاون الأمني والاقتصادي عززته القيادة الأميركية. واستمرت الصراعات، لكن حروب القوى العظمى وغزو الأراضي المباشر أصبحا من بقايا حقبة ماضية مظلمة، إضافة إلى ذلك، ازدهرت الديمقراطية في الغرب وانتشرت إلى الخارج. ونجح الأمن الذي قدمته الولايات المتحدة في منع أو تخفيف حدة التوترات والصراعات التي نشأت في أوروبا الغربية وشرق آسيا، مما سمح للأعداء السابقين بالتصالح وتحويل هذه المناطق إلى ملاذات نسبية للرخاء والسلام. لقد شهدت الإنسانية ازدهاراً غير مسبوق، إذ كانت الولايات المتحدة في قلب النظام الليبرالي الذي امتد تدريجاً إلى معظم أنحاء العالم.

ومع ذلك، لم يكن الأميركيون على قناعة تامة قط بفكرة ضرورة الحفاظ على هذا النظام إلى ما لا نهاية. مع بداية الحرب الباردة، شكك الدبلوماسي الأميركي جورج كينان في أن الأميركيين سينجحون في مهمة القيادة العالمية. ومع انتهاء ذلك الصراع بانتصار غربي مدهش، كتبت السفيرة الأميركية السابقة لدى الأمم المتحدة جين كيركباتريك أن الولايات المتحدة يمكن أن تعود الآن إلى كونها "دولة طبيعية في وقت طبيعي".

كانت كيركباتريك على حق حينما أشارت إلى أن الالتزامات التي تعهدتها الولايات المتحدة منذ عام 1945 كانت غير مسبوقة خلال أول 150 عاماً من تاريخها. فقد نشأت هذه الالتزامات الاستثنائية من ظروف استثنائية للغاية. كان القادة الأميركيون يعتقدون أنهم في حاجة إلى تبني سياسة خارجية عالمية جريئة لأن العالم الذي ترك ليتدبر أموره بنفسه واجه انهيارين كارثيين في جيل واحد، وهددت بداية الحرب الباردة بحدوث انهيار ثالث. لقد تمكنوا من القيام بذلك لأن الحرب العالمية الثانية منحت الولايات المتحدة قوة اقتصادية وعسكرية تعادل ما تمتلكه جميع الدول الأخرى مجتمعة. هذا المزيج من القوة والخوف هو الذي شكل السياسة الأميركية. ومع ذلك، لا يوجد تفويض يلزم واشنطن مواصلة هذا الدور إلى أجل غير مسمى مع تطور الظروف التي خلقته. واليوم، هناك دلائل تشير إلى أن واشنطن قد لا تحافظ على هذا النهج إلى الأبد.

إن إنشاء عالم أفضل يتطلب من واشنطن التفكير في القضايا المتعلقة بمصلحتها الذاتية بطريقة واسعة للغاية

 

كان آخر ثلاثة رؤساء أميركيين يطمحون إلى الحد من التدخل في الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، يواجه البنتاغون التحدي المتمثل في الحفاظ على الاستقرار عبر ثلاث مناطق حاسمة في أوراسيا في وقت واحد مع تزايد التهديدات العسكرية. فالسياسات التي تعطي الأولوية لحماية الصناعات المحلية والعمال من المنافسة الأجنبية آخذة في الارتفاع. ويظهر كل من الحزبين السياسيين الرئيسين ازدراءً للاتفاقات التجارية المهمة التي كانت ذات يوم مفيدة في دفع النمو الاقتصادي العالمي. وفي أواخر عام 2023 وأوائل عام 2024، استغرق الكونغرس ستة أشهر من التأخير الفاجع للموافقة على تقديم مساعدات حيوية لأوكرانيا. تتجلى هذه النظرة المتغيرة بصورة واضحة في رؤية ترمب المتمثلة في "أميركا أولاً".

على رغم أن شعار ترمب يحمل تشابهاً مع شعار الثلاثينيات، فهو ليس انعزالياً حقاً، ولم يكن "الانعزاليون" الأصليون كذلك أيضاً. ففي الثلاثينيات من القرن الماضي، كان أصحاب شعار "أميركا أولاً" يؤيدون هيمنة الولايات المتحدة على نصف الكرة الغربي ودعموا فكرة الحفاظ على قدرة دفاعية كبيرة لحماية البلاد في عالم محفوف بالأخطار. ما عارضوه هو فكرة أن واشنطن يجب أن تكون مسؤولة عن صون نظام عالمي أكبر، أو أنها يجب أن تنخرط في صراعات مع دول لا تشكل تهديداً مباشراً للولايات المتحدة، أياً كانت أفعالها أو جرائمها.

إن الرابط الأساس بين ترمب وحركة "أميركا أولاً" السابقة هو أنه يريد إعادة البلاد إلى رؤية أكثر تقليدية في شأن المصالح الأميركية في الخارج. لقد تساءل ترمب عن الأسباب التي تدفع الولايات المتحدة إلى المخاطرة بإشعال حرب عالمية ثالثة من أجل الدفاع عن دول صغيرة في أوروبا أو آسيا. وأبدى تشككاً في دعم أوكرانيا ضد روسيا والدفاع عن تايوان في مواجهة أي هجوم صيني (على النقيض من بعض التحليلات، فإن نسخة ترمب من شعار "أميركا أولاً" لا تتضمن استثناءات لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ). وينتقد ترمب كلف التحالفات الأميركية ويقلل من فوائدها، علاوة على ذلك، هو مستاء من الاختلالات في الاقتصاد العالمي التي خلقتها واشنطن منذ فترة طويلة. وهو لا يظهر اهتماماً كبيراً بدعم الديمقراطية أو دعم المبادئ الحاسمة والمجردة مثل عدم الاعتداء.

ومع ذلك، من المهم أن نلاحظ أنه في عهد ترمب، كانت الولايات المتحدة بعيدة كل البعد من كونها قوة عظمى سلبية. إن نزاعه التجاري مع الصين، وتصاعد التوترات مع إيران وكوريا الشمالية، والصراعات الاقتصادية مع حلفاء الولايات المتحدة، كلها تؤكد اعتقاده أن واشنطن يجب أن تؤكد نفوذها عندما تكون مصالحها الخاصة على المحك. ومع ذلك، لا يفكر ترمب في الحفاظ على النظام الليبرالي الذي دعمته القوة الأميركية تقليدياً باعتباره أحد تلك المصالح.

أميركا غير المقيدة

في حين أن مبادئ "أميركا أولاً" لم تتحقق بالكامل خلال رئاسة ترمب بسبب مقاومة مستشارين لديهم وجهات نظر تقليدية تتوافق مع المعايير والممارسات السائدة للحكم، ومعارضة الأمميين الجمهوريين في الكونغرس، وكذلك افتقاره إلى الانضباط في أسلوب التواصل أو عملية صنع القرار، فإن هذه العقبات قد تكون أقل أهمية إذا حصل ترمب على فترة ولاية أخرى. إن نفوذه المتزايد داخل الحزب الجمهوري وعزمه على إحاطة نفسه بأفراد ذوي تفكير مماثل يمكن أن يقلل من هذه التحديات. وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات، تكتسب أفكار ترمب أهمية كبيرة في الخطاب الأميركي. لذا، فمن المفيد أن نتخيل الخطوط العريضة والعواقب المترتبة على أجندة "أميركا أولاً"، إذا نفذت بصورة متسقة.

وقد يتضمن أحد جوانب هذا النهج إعادة تشكيل أولويات الدفاع للتركيز بصورة كبرى على الأمن الداخلي. وقد تعطي الولايات المتحدة الأولوية للحفاظ على قدرات عسكرية متفوقة، وبخاصة في مجالات مثل الدفاع الصاروخي والتكنولوجيا السيبرانية، لحماية أراضيها. وستكون مستعدة للرد بقوة عندما يهاجم الخصوم مواطنيها أو يهددون سيادتها. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة ستمتنع عن توسيع نطاق التزاماتها الدفاعية لتشمل دولاً بعيدة لا يؤثر استمرار وجودها من عدمه بصورة مباشرة على المصالح الأمنية الأميركية. وعلى نحو مماثل، فإنها ستعيد النظر في توفير المنافع العامة التي تفيد الدول الأخرى في المقام الأول. ويشكك هذا النهج في الأساس المنطقي للمخاطرة بالصراع مع القوى الكبرى على مناطق أو قضايا لا تؤثر بصورة مباشرة في المصالح الحيوية للولايات المتحدة، لما قد تخاطر في حرب مع روسيا في شأن أوكرانيا ودول البلطيق أو الصين في شأن النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي؟ ولماذا يجب على البنتاغون حماية التجارة الصينية مع أوروبا من هجمات الحوثيين؟ أي دولة عادية لن تفعل ذلك.

إن الولايات المتحدة النموذجية [التي تعمل ضمن حدود السلوك النموذجي] ستكون أيضاً حليفاً أكثر تحفظاً. لم تنظر القوى العظمى دائماً إلى التحالفات على أنها مقدسة، وتاريخ سياسات التحالف مليء بخيبات الأمل والخيانة. إذاً، في أقل تقدير، لن تتعامل واشنطن مع تحالفاتها على أنها التزامات ووعود استراتيجية غير قابلة للكسر، بل اتفاقات قابلة للتفاوض كلما لزم الأمر. وفي مقابل الحماية المستمرة، قد تطلب إنفاقاً دفاعياً أعلى بكثير من الأوروبيين أو زيادة في إنتاج النفط. أو ربما تتخلى واشنطن ببساطة عن تحالفاتها، وتترك أوراسيا للأوروآسيويين، وتعتمد على العزلة الجغرافية للولايات المتحدة، وقدرتها على التحكم بالطرق البحرية [المؤدية إلى أراضيها ومناطقها الاستراتيجية]، وترسانتها النووية لردع المعتدين.

لذا فمن الممكن أن تحل القارية محل العولمة. وحتى لو أصبحت الولايات المتحدة أكثر تحفظاً فهي ستسعى جاهدة إلى فرض سيطرتها على النصف الغربي من الكرة الأرضية. وسيزداد هذا الأمر أهمية مع تخلي واشنطن عن القدرة على إدارة الشؤون الأمنية في أوراسيا. لذا فإن شعار "أميركا أولاً" سيشتمل على إعادة تنشيط عقيدة مونرو، أي تقليص وجود القوات الأميركية في المواقع الأمامية في العالم القديم [المناطق خارج الأميركتين] مما قد ينبئ بجهود مكثفة وربما أكثر صرامة لحماية النفوذ الأميركي في العالم الجديد [العالم الذي يضم الأميركتين]، ومنع المنافسين من الحصول على موطئ قدم هناك.

إن الولايات المتحدة النموذجية ستكون أيضاً حليفاً أكثر تحفظاً

 

ومن الناحية الاقتصادية، فإن نهج "أميركا أولاً" من شأنه أن يعطي الأولوية للحمائية الاقتصادية والتكتيكات العدوانية. وفي حين ستظل الولايات المتحدة منخرطة في الاقتصاد العالمي، فإنها ستسعى إلى إعادة فرض توازن كبير بين الأعباء والمزايا المترتبة عن تلك المشاركة. وهذا يعني عدم التسامح مع المعاملة غير المتكافئة من جانب الشركاء التجاريين، وحتى الحلفاء الديمقراطيين. وعوضاً عن ذلك، ستستخدم واشنطن قوتها لانتزاع فوائد أكبر من العلاقات المهمة. ومثلما فرض ترمب على الصين والاتحاد الأوروبي رسوماً جمركية، فإن الولايات المتحدة ستتبنى نهجاً أكثر قسرية تجاه حلفائها وخصومها على حد سواء. في الماضي، عندما كانت الولايات المتحدة تمتلك حصة كبيرة من الإنتاج العالمي، كان بإمكانها أن تكون أقل عدوانية أو تصادمية في تعاملاتها الاقتصادية. ومع ذلك، في عالم تشتد فيه المنافسة الاقتصادية ولم تعد الولايات المتحدة تهيمن على الإنتاج العالمي بالقدر نفسه، فستحتاج إلى تبني نهج أكثر حزماً وقوة لحماية مصالحها والبقاء قادرة على المنافسة.

إضافة إلى ذلك، ستتراجع الولايات المتحدة عن المبادئ الليبرالية المتأصلة في النظام الليبرالي. واستناداً إلى ولاية ترمب الأولى، سيكون هناك تركيز أقل على تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في المناطق البعيدة والمعادية. وستكون البلاد أكثر ميلاً إلى الدخول في اتفاقات علنية مع الأنظمة الاستبدادية. وفي إدارة ترمب الثانية المحتملة، قد تصبح الولايات المتحدة بمثابة نموذج للسلوك الاستبدادي، مما يلهم القادة الاستبداديين في الخارج لتبني تكتيكات مماثلة شوهدت في البيت الأبيض. علاوة على ذلك، يمكن لواشنطن أن تقلل من تركيزها على القانون الدولي والمنظمات الدولية، بهدف تخفيف القيود - سواء كانت قانونية أو مؤسسية - التي يفرضها النظام الليبرالي أحياناً على القوة الأميركية.

ما الذي يعنيه كل هذا بالنسبة إلى علاقات الولايات المتحدة مع القوى المتنافسة؟ قد تنطوي استراتيجية "أميركا أولاً" على توتر مستمر مع الصين، وبخاصة في ما يتعلق بالتجارة. وعندما تشكل العدوانية الاستبدادية تهديداً للأمن والازدهار الأميركيين بصورة مباشرة، على سبيل المثال في حالة حدوث هجمات إيرانية تقتل مواطنين أميركيين أو محاولات صينية تعطل إمدادات أشباه الموصلات المتقدمة من تايوان، قد تكون هذه التوترات حادة للغاية. ومع ذلك، فإن السياسة الأميركية التي تقلل من أهمية القيم الليبرالية من المرجح أن تريح القادة غير الليبراليين، وستكون واشنطن أقل ميلاً لمواجهة بكين أو موسكو أو طهران في شأن انتهاكات الأعراف الدولية أو إكراه الدول الصغيرة التي تبعد آلاف الأميال عن السواحل الأميركية. وسيصبح التعاون مع المستبدين جزءاً طبيعياً من هذه السياسة الخارجية. وأي صراع متبق سيكون أقرب إلى تنافس تقليدي بين القوى العظمى (دول كبيرة وطموحة تتصادم في سبيل الحصول على الثروة والنفوذ) وليس صراعاً ينبع من الدفاع الأميركي عن نظام ليبرالي في خطر.

وفي الواقع، حتى في هذا السيناريو، ستحتفظ الولايات المتحدة بمكانتها كقوة عالمية مهمة. وحتى لو تحول تركيزها الأساس نحو الحفاظ على الهيمنة داخل نصف الكرة الغربي فحسب، فإن مجال نفوذها سيتجاوز نطاق نفوذ أي دولة أخرى. وفي بعض المجالات، قد تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيق مزايا أحادية بصورة أكثر صراحة مما كانت عليه في الماضي. وإذا صارت الولايات المتحدة أقل استثنائية وتميزاً، فهي قد تقلل من وجودها وانخراطها على الصعيد العالمي في حين تزيد من عدوانيتها، وهو مزيج يمكن أن يعيد تشكيل المشهد الدولي بصورة عميقة.

قوة بلا هدف؟

حذر منتقدو نهج "أميركا أولاً" من أنه قد يكون له عواقب مدمرة على الاستقرار العالمي، ومن المرجح أن يكونوا على حق. إن تاريخ السياسة العالمية قبل عام 1945 لا يقدم إلا القليل من الأمل في أن تحل القضايا نفسها من دون تدخل. لقد لعبت القيادة الأميركية دوراً حاسماً في احتواء التهديدات المختلفة ــ الأجندات التوسعية، والصراعات الإقليمية، وسياسات الحماية الضارة، وصعود الأنظمة الاستبدادية ــ التي ابتلي بها العالم من قبل.

على رغم أن الولايات المتحدة قد تكون أقل قوة نسبياً مقارنة بمنافسيها مما كانت عليه في عام 1945 أو 1991، فإن نفوذها لا يزال يدعم النظام العالمي القائم. على سبيل المثال، كان من المحتمل أن تستسلم أوكرانيا للعدوان الروسي لولا الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة من جهة الأسلحة والاستخبارات والمساعدات المالية. وبالمثل، تعتمد الدول الأوروبية على حلف شمال الأطلسي للحماية من العدوان الروسي، وفي آسيا، لا يوجد تحالف قادر على مواجهة النفوذ الصيني من دون تدخل الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، تؤكد الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط الدور الذي لا غنى عنه للولايات المتحدة في حماية الطرق البحرية الحيوية وتنسيق الدفاع الإقليمي ضد التهديدات الإيرانية.

ومن غير المرجح أن يتغير هذا الوضع في المستقبل القريب. وفي حين أن أنصار السياسة الخارجية الأكثر تحفظاً قد يأملون في أن يؤدي خفض النفقات الأميركية إلى دفع الدول الأخرى ذات التفكير المماثل إلى تكثيف جهودها، ولكن اليوم، في حين تعمل روسيا والصين على توسيع ترساناتهما وزيادة قدراتهما العسكرية بسرعة، وتكافح ديمقراطيات أوروبية وآسيوية متعددة من أجل الحفاظ على الحد الأدنى من الاستعداد العسكري الأساس، يبدو من المرجح أن الفراغ الذي سيخلقه الانسحاب الأميركي ستشغله الدول الأكثر عدوانية في العالم.

ومن المتوقع أن تكون سياسة "أميركا أولاً" بمثابة كارثة بالنسبة إلى الدول في الخطوط الأمامية، بدءاً بأوكرانيا على سبيل المثال لا الحصر، إذ إنها ستفقد دعم القوة العظمى التي ساندتها ضد المعتدين المجاورين. ومن شأن هذه السياسة أن تؤدي إلى زيادة الاضطراب في بؤر الصراع العالمية مثل أوروبا الشرقية أو بحر الصين الجنوبي، إذ تواجه القوى الاستبدادية منافسين أضعف. إن الأعراف والقواعد الراسخة التي يعدها كثير من الناس على أنها من المسلمات، مثل قدرة التجارة على عبور البحار من دون عوائق، أو حظر الغزو، يمكن أن تنهار بسرعة مذهلة. وقد تبدأ البلدان التي كانت قادرة على التعاون تحت الحماية الأميركية في النظر إلى بعضها بعضاً بعين الريبة مجدداً. ومع تفاقم الفوضى، فإن البلدان في مختلف أنحاء أوراسيا قد تدجج نفسها بالسلاح، بما في ذلك الأسلحة النووية، لضمان بقائها. أو ربما قد تكون هناك زيادة في السلوك العدواني إذ سيؤدي تقليل التدخل الأميركي إلى تخفيض العواقب المترتبة على السلوك الخبيث.

وفي هذه الأثناء، ستتصاعد التحديات التي تواجه الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، وبخاصة في المناطق حيث تتصارع الأنظمة الديمقراطية الضعيفة مع ضغوط الأنظمة الاستبدادية المجاورة. ومن الممكن أن يتكثف صعود النزعة التجارية والحمائية مع انسحاب الولايات المتحدة من الدفاع عن الاقتصاد العالمي القائم على المنافع المتبادلة - أو حتى اقتصاد السوق الحر التعاوني الذي أكدته إدارة بايدن. وقد تتسابق الدول لتأمين الموارد والأسواق إذا لم تعد تعتمد على الولايات المتحدة للحفاظ على نظام اقتصادي وبحري مفتوح. في الواقع، لقد تطلب الأمر التزاماً أميركياً استثنائياً لتحويل الوضع من حالة الفوضى الطبيعية إلى سلام عالمي تحت قيادة أميركا، والعودة عن ذلك لن تكون بالأمر السهل.

عالم من الندم

بالنسبة إلى الولايات المتحدة نفسها، فإن الوضع قد لا يكون بهذه الخطورة. والمفارقة الكبرى في السياسة الخارجية في مرحلة ما بعد عام 1945 هي أن الدولة التي أنشأت النظام الليبرالي هي الدولة الأقل حاجة إليه. ففي نهاية المطاف، تظل الولايات المتحدة الجهة الفاعلة الأقوى في العالم. فهي تتمتع بنعم جغرافية ومزايا اقتصادية لا مثيل لها. وفي عالم أصبح أكثر فوضوية بسبب خياراتها السياسية، قد تكون واشنطن على ما يرام، لبعض الوقت.

إن تراجع الأمن حول أوراسيا من شأنه أن يؤدي إلى تراجع عقود من التقدم الجيوسياسي، لكنه لن يعرض سلامة أراضي الولايات المتحدة للخطر على الفور. وكما كان الحال في الثلاثينيات، عندما لم يكن معظم الأميركيين على استعداد للتضحية من أجل دانزيغ [في بولندا]، فإن خسارة نارفا [في إستونيا] اليوم قد لا تقلقهم كثيراً. وعلى نحو مماثل، فإن عودة غزو الأراضي ستكون مأسوية بالنسبة إلى الدول الأصغر حجماً والضعيفة، ولكنها لن تشكل تهديداً مباشراً لقوة عظمى تمتلك أسلحة نووية ومحيطات تحميها.

ومقارنة بمعظم البلدان، يمكن للولايات المتحدة أيضاً أن تتعامل بصورة أفضل بكثير مع تجزئة الاقتصاد الدولي [أي مع انهيار التعاون الاقتصادي العالمي]. فقوتها التي لا مثيل لها من شأنها أن تمنحها نفوذاً هائلاً إذا أصبحت التجارة أكثر تنافسية وشراسة. إضافة إلى ذلك، فإن ثرواتها الهائلة من الموارد، وسوقها الداخلية الواسعة، واعتمادها المنخفض نسبياً على التجارة، هي أمور ستجعلها جاهزة تماماً للتعامل مع عالم حمائي.

لن تزدهر الولايات المتحدة تماماً في هذا السيناريو: فالاضطرابات التي عطلت تدفقات النفط في الشرق الأوسط أو شحنات أشباه الموصلات من تايوان، يمكن أن تخلق فوضى اقتصادية عالمية لن يسلم منها الأميركيون. ومع ذلك، فإن مثل هذه الفوضى قد تظل مفيدة للولايات المتحدة نسبياً، لأن الدول الأخرى ستكون أسوأ حالاً بكثير.

لا يزال النفوذ الأميركي يشكل أساس النظام العالمي الحالي

 

وسوف تجد بلدان أوروبا وشرق آسيا نفسها مضطرة إلى زيادة إنفاقها الدفاعي بصورة كبيرة، في حين تواجه أيضاً منافسات متجددة قد تزعزع استقرار مناطقها. ومن شأن انهيار الأمن في الممرات البحرية في الشرق الأوسط أن يؤثر في المقام الأول في الدول الأوروبية والآسيوية التي تعتمد بصورة كبرى على تلك الطرق التجارية. وحتى الصين، المنافس الرئيس لواشنطن، ستعاني أضراراً جسيمة إذا انهار النظام الليبرالي، لأنها تعتمد بصورة كبيرة على المدخلات الأجنبية وأسواق التصدير، على رغم سعي الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي.

وفي نهاية المطاف، بطبيعة الحال، ستدفع الولايات المتحدة ثمناً أعلى. وإذا تمكنت الصين ذات يوم من الهيمنة على شرق آسيا بعد الانسحاب الأميركي، فقد تكتسب القوة اللازمة لإجبار الولايات المتحدة اقتصادياً ودبلوماسياً، حتى لو لم تتمكن من غزوها عسكرياً. فانتشار النفوذ الصيني في مناطق حول العالم يمكن أن يمنح بكين تدريجاً مزايا جيوسياسية وجيواقتصادية قوية، مما يجعل الولايات المتحدة غير آمنة حتى داخل حصنها في نصف الكرة الغربي. وبطريقة موازية، فإن الاحتكاك الاقتصادي الدولي الناجم عن التدابير الحمائية والفوضى من شأنه أن يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي الأميركي، مما قد يتسبب في تفاقم الصراعات الاجتماعية والسياسية في الداخل. وإذا ضعفت الديمقراطية في الخارج وتقدمت الأنظمة الاستبدادية القوية، قد تصبح الأصوات الاستبدادية داخل الولايات المتحدة مسموعة، على غرار ما حدث فعلياً في الثلاثينيات من القرن الماضي.

في أسوأ السيناريوهات (وهو سيناريو مألوف بالنسبة إلى المؤرخين [لأنه يحمل أوجه تشابه مع أنماط سابقة])، ستقرر الولايات المتحدة في نهاية المطاف أن انهيار النظام العالمي يتطلب منها إعادة التدخل، ولكن من موقف أضعف بكثير، بمجرد خروج الأمور داخل أوراسيا عن السيطرة. ومع ذلك، قد يستغرق الأمر بعض الوقت حتى يحدث ذلك. عندما انسحبت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى، استغرق الأمر جيلاً كاملاً قبل أن يتفكك العالم إلى درجة شعرت فيها واشنطن بأنها مضطرة إلى التدخل من جديد. وإلى أن وقعت الكارثة، وانهار ميزان القوى في أوروبا وآسيا في الوقت نفسه، كانت الاضطرابات المتتالية سبباً في دفع غالب الأميركيين إلى تجنب التورط في الشؤون العالمية، عوضاً عن الانخراط فيها مجدداً. في الواقع، إن الخصائص نفسها التي تحمي الولايات المتحدة من التأثيرات المباشرة لتدهور النظام العالمي على المدى القريب، تعني أن واشنطن تستطيع الانتظار لفترة طويلة حتى يصل هذا التدهور إلى مستوى غير مقبول.

إن الجاذبية والحزن المرتبطين بشعار "أميركا أولاً" يكمنان في أن الظروف المواتية التي تتمتع بها أي قوة عظمى ستحميها، موقتاً، من العواقب المترتبة على اتخاذها قرارات سيئة. وبمرور الوقت، ستندم الولايات المتحدة أيضاً على ظهور عالم "أميركا أولاً"، ولكن لن يحصل هذا إلا بعد ندم عدة بلدان أخرى أولاً.

*هال براندز هو أستاذ كرسي هنري كيسنجر المتميز للشؤون العالمية في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة وزميل بارز في معهد أميركان إنتربرايز. وهو مؤلف الكتاب الذي سيصدر قريباً بعنوان "القرن الأوراسي: الحروب الساخنة، والحروب الباردة، وصناعة العالم الحديث".

مترجم من "فورين أفيرز" 27 مايو، 2024

المزيد من آراء