ملخص
على رغم أن الرأي يسود بأن الاقتصاد العالمي يتجه نحو الانقسام إلى كتل منفصلة إلا أن البيانات تشير إلى أن العولمة ما زالت مستمرة بطرق مهمة، إذ من المستحيل أن يتفكك اقتصاد عالمي يتميز بعجز أميركي كبير من جهة وفائض صيني كبير من جهة أخرى
ثمة إجماع آخذ في الظهور بأن العالم ينقسم إلى كتل – ليس فقط من الناحية الجيوسياسية، بل اقتصادياً أيضاً. عام 2020، كتب الخبير الاقتصادي دوغلاس إروين قائلاً إن "جائحة كوفيد-19 تدفع الاقتصاد العالمي إلى التراجع عن التكامل الاقتصادي العالمي". وفي الأعوام التي تلت ذلك، كانت كيفية إدارة هذا التراجع المزعوم للعولمة موضوعاً ثابتاً في اجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي. في مايو (أيار) الماضي، حمل غلاف مجلة "إيكونومست" خريطة للعالم وهو يتفكك مادياً إلى كتل اقتصادية متنافسة، وافترض النص أن العودة عن العولمة أمر مؤكد في الأجل البعيد، وحاجج بأن ذلك أصبح "واضحاً في البيانات الاقتصادية، إذ يعيد المستثمرون تسعير الأصول ويعيدون توجيه رأس المال في عالم أقل تكاملاً". وفي الأسبوع الأخير من مايو، أدلى كاتب عمود في "بلومبيرغ" بدلوه، مستنتجاً أن "التجارة والتمويل العالميين ينقسمان إلى كتلتين متنافستين ومتعاديتين بصورة متزايدة، واحدة تتمحور حول الصين وتمتد إلى الجنوب العالمي وأخرى حول الولايات المتحدة ودول غربية أخرى".
لكن ثمة مشكلة في الافتراض القائل إن العودة عن العولمة حقيقة واقعة على أرض الواقع: لا تدعم البيانات هذا الافتراض بالكامل. كدليل على استمرار العودة عن العولمة، كثيراً ما يستشهد المراقبون بظواهر مثل إحجام الولايات المتحدة عن إبرام اتفاقات جديدة للتجارة الحرة، وضعف نظام تسوية المنازعات الذي تشرف عليه منظمة التجارة العالمية، وانتشار الإجراءات الوطنية الجديدة التي تقيد التجارة، وتراجع تدفقات رأس المال القريبة والبعيدة الأجل عن ذروتها السابقة. من المؤكد أن جائحة "كوفيد-19" كشفت عن أن الترابط الاقتصادي ينطوي على أخطار، والجهود التي بذلتها روسيا منذ عام 2022 لاستخدام خطوط أنابيب الغاز الطبيعي للتأثير في استجابة "مجموعة السبع" لغزوها أوكرانيا – إضافة إلى العدد الكبير من العقوبات التي فرضتها "مجموعة السبع" لمحاولة إضعاف الاقتصاد الروسي – سلطت الضوء على نقاط الضعف التي يمكن أن تنشأ عندما تتاجر البلدان في ظل انقسامات جيوسياسية. لكن نظرة فاحصة على البيانات الاقتصادية تظهر أن الحكومات تتبنى بصورة متزايدة سياسات تهدف إلى تعزيز قدرتها على الصمود، بيد أن الاقتصاد العالمي لا يزال يتطور ليصبح أكثر عولمة، وليس أقل عولمة، وذلك بطرق رئيسة – وأكثر اعتماداً على الإمدادات الصينية خصوصاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد ازداد حجم التجارة العالمية خلال الجائحة، وتسارعت وتيرة التجارة العالمية مع الصين بدلاً من أن تتباطأ. أما التحول في عصر الجائحة نحو البضائع والابتعاد من الخدمات، فيُعزَى إلى هذا التسارع. لكن نمو التجارة مع الصين يعكس أيضاً حقيقة مفادها بأن الصين تنتج ببساطة منتجات بأسعار لا يمكن أن تضاهيها سوى جهات قليلة، مثل صادرات التكنولوجيا الفائقة كالسيارات الكهربائية وتوربينات طاقة الرياح والألواح الشمسية والمكونات الحيوية الخاصة بالمنتجات الإلكترونية والبطاريات. وبين عامي 2019 و2023، ازداد فائض التصنيع في الصين بنحو نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وهو الآن أكبر بكثير من الفوائض التي تديرها ألمانيا واليابان، القوتان الصناعيتان الأخريان في العالم.
ويقل انخفاض تدفقات رأس المال عما تراه العين. مثلاً، نتج التدنّي في الاستثمار الأجنبي المباشر بعد عام 2016 إلى حد كبير من تغييرات محددة في الأنظمة الضريبية أدت إلى تراجع كبير في استخدام الأدوات الاستثمارية ذات الأغراض الخاصة في لوكسمبورغ وهولندا وعدد قليل من المراكز الضريبية الأوروبية الرئيسة الأخرى. ولم يضعف هذا التبسيط الضريبي واحداً من أشكال العولمة الأقل قبولاً: التجارة والتدفقات المالية التي يبدو أنها تخدم فقط كأداة للتهرب الضريبي المتعدد الجنسيات.
أما التصور الخاطئ السائد الآن للاقتصاد العالمي فله عواقب، إذ إن الجهود التي يبذلها واضعو السياسات للدفاع عن العولمة من خلال الخلط بين مزيد من تدفقات التجارة العالمية وزيادة الكفاءة تميل إلى تجاهل الطرق التي يصبح بها الواقع أكثر تعقيداً: مثلاً، حتى أولئك الذين يسعون إلى نوع صحي من العولمة سيحتاجون إلى العمل على الحد من تهرب الشركات المتعددة الجنسيات من الضرائب. والأهم من ذلك، إذا قلل المراقبون من أهمية مدى التكامل الذي لا يزال مستمراً بين اقتصادات العالم، فسيقللون من كلفة الإجراءات التي من شأنها أن تفتت الاقتصاد العالمي، مثل إطلاق نزاع حول تايوان أو انسحاب الولايات المتحدة من جانب واحد من التجارة. ويتعين على زعماء العالم أن يتخذوا الخطوات اللازمة لزيادة قدرة اقتصاداتهم على الصمود، لكن يتعين عليهم أولاً أن يفهموا الكلف الحقيقية المترتبة على هذه الخطوات.
المتاجرة
ترسخت فكرة أن عولمة الاقتصاد العالمي في حال تراجع بعد انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب عام 2016. في خطابه، تنصل ترمب من إجماع الحزبين بعد الحرب العالمية الثانية على أهمية التجارة الحرة. كذلك نفذ بعض التحولات الحقيقية على صعيد السياسات: الانسحاب من الشراكة عبر المحيط الهادئ وإعادة التفاوض على "اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية" بغرض تشديد قواعد المنشأ الخاصة بتجارة السيارات، وفرض رسوم جمركية على ما يقارب ثلاثة أخماس التجارة بين الولايات المتحدة والصين.
لكن العولمة لها جذور عميقة الآن، ولم تفعل سياسات تجارية ثنائية كهذه شيئاً يُذكَر لتغيير مسارها الأساسي لأن الاتفاقات التجارية الجديدة وبرامج الرسوم الجمركية تجذب تحليلات كثيرة. أما في الواقع، فالتغييرات في معدلات الرسوم الجمركية في اتفاقات التجارة الحرة الحديثة تميل إلى أن تكون صغيرة، إذ إن معظم الرسوم الجمركية منخفضة بالفعل أو تساوي صفراً. ولا يزال بإمكان البلدان التي تفتقر إلى الوصول التفضيلي لسوق الولايات المتحدة أن تعمل بصورة جيدة على نحو لا يصدق في ضوء شروط التجارة القياسية الخاصة بمنظمة التجارة العالمية. في الواقع، ارتفعت واردات الولايات المتحدة من جنوب شرقي آسيا في الأعوام الستة الماضية. فقد زادت دول جنوب شرقي آسيا الأعضاء في الشراكة عبر المحيط الهادئ صادراتها إلى الولايات المتحدة بسرعة أكبر بكثير بعد انسحاب ترمب من الشراكة عبر المحيط الهادئ مقارنة بما كان في مقدورها فعله من قبل.
ولا بد من أن تمتد أي مناقشة جادة لما يحرك التجارة إلى ما هو أبعد من الرسوم الجمركية والاتفاقات التجارية. كذلك تؤثر قيمة العملات في التدفقات التجارية، ويصح الأمر نفسه على أنماط الادخار والاستثمار في أنحاء العالم كله. يظل الدولار قوياً منذ انسحاب الولايات المتحدة من "اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ"، ولم يتردد المستهلكون الأميركيون في شراء البضائع الأجنبية، مما ساعد في دفع النمو في الواردات الأميركية.
وانخفضت الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة منذ تطبيق رسوم ترمب الجمركية عام 2018، وكذلك حيازات الصين المبلغ عنها من سندات الخزانة الأميركية وسندات الوكالات المدعومة من الحكومة الأميركية. لكن هذه المؤشرات تشكل مقاييس رديئة للترابط الحقيقي بين هذين الاقتصادين. عند النظر في أثر الرسوم الجمركية الثنائية التي فرضتها الولايات المتحدة على المنتجات الصينية، من المهم الالتفات إلى ما وراء البيانات الأميركية التي تظهر انخفاضاً في الواردات المباشرة من الصين وإيلاء مزيد من الاهتمام للبيانات الصادرة عن الصين نفسها. المثير للدهشة أن هذه البيانات تكشف عن تراجع أقل بكثير في التجارة المباشرة مع الولايات المتحدة وارتفاع حاد في الصادرات الصينية إلى البلدان التي تصدر الآن مزيداً من البضائع إلى الولايات المتحدة. ووجدت دراسات متأنية لأثر رسوم ترمب الجمركية أجراها بنك التسويات الدولية Bank of International Settlements والخبيرة الاقتصادية كارولين فرويند أن الأثر الأكثر أهمية للرسوم الجمركية الثنائية كان إطالة سلاسل الإمداد، وليس تقليص التجارة العالمية الإجمالية أو تقليل اعتماد الولايات المتحدة الأساسي على المدخلات المهمة المحصلة من مصادر صينية لأن مزيداً من المكونات الصينية يتجه الآن إلى ماليزيا وتايلاند وفيتنام – وبدرجة أكثر تواضعاً، المكسيك – بهدف التجميع النهائي. وهكذا بات الاعتماد الأساسي على الصين أقل وضوحاً، لكن ليس أقل أهمية.
في الواقع، منذ تطبيق رسوم ترمب الجمركية، يصبح اقتصاد الصين أكثر مركزية في التجارة العالمية. كثيراً ما يتجاهل المعلقون الأميركيون والأوروبيون البيانات ذات الصلة، لكنها بيانات لا لبس فيها. على مدى الأعوام الخمسة بين نهاية 2018 ونهاية 2023، زادت صادرات الصين من البضائع المصنعة بنسبة 40 في المئة، من 2.5 تريليون دولار إلى 3.5 تريليون دولار، أي أكثر بكثير من الزيادة البالغة 15 في المئة تقريباً بين عامي 2013 و2018.
وعلى رغم انخفاض نسبة الصادرات الصينية إلى الناتج المحلي الإجمالي في السنوات التي أعقبت الأزمة المالية العالمية، تصبح الصادرات مرة أخرى محركاً حاسماً للنمو الصيني. بعد استثناء الواردات من المكونات، زادت صادرات الصين من البضائع المصنعة من نحو 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي قبل الجائحة إلى 14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022. ولم تتحقق التوقعات بتحول هذه الزيادة إلى زيادة تتصل بالجائحة لمرة واحدة: على رغم تباطؤ نمو الصادرات عام 2023 مع تضاؤل الإنفاق الاستهلاكي في أنحاء العالم كله، تعافى هذا النمو الآن، مع نمو حجم الصادرات بأكثر من 10 في المئة في الفصل الأول من عام 2024. وزاد فائض التصنيع في الصين بصورة أكثر دراماتيكية، إذ ارتفع من مستوى منخفض بلغ نحو ستة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للصين عام 2018 إلى 10 في المئة عام 2023.
تقوّض طفرة الصادرات الصينية بعد الجائحة الحجة القائلة إن عولمة الاقتصاد العالمي في حال تراجع. فعلى رغم نقاط الضعف الاقتصادية التي تعانيها الصين كلها، لا تزال البلاد قادرة على إنتاج البضائع على نطاق لا تستطيع أي دولة أخرى أن تضاهيه. وبعد نهاية طفرة العقارات التي استمرت أكثر من عقد من الزمن، استجابت الصين لضعف الطلب الداخلي من خلال الاستثمار بصورة أكبر في إنتاج البضائع المصنعة للتصدير. فكروا في المسار الخاص بقطاع بارز واحد: السيارات.
تاريخياً، لم تكُن الصين من البلدان الرئيسة المصدرة للسيارات. لكن مع اتجاه الطلب المحلي على السيارات نحو الانخفاض، تحولت الصين من بلد مستورد صافٍ للسيارات إلى أكبر بلد مصدر لها في العالم في غضون ثلاثة أعوام فقط. وليست موجة التصدير هذه على وشك الضعف: تستطيع الصين إنتاج ما لا يقل عن ضعف عدد السيارات العاملة بمحركات الاحتراق الداخلي التي تحتاج إليها لتلبية الطلب المحلي المتقلص، وتعمل شركة "بي واي دي"، الرائدة في تصنيع السيارات الكهربائية في البلاد، لمضاعفة طاقتها الإنتاجية بغرض زيادة الصادرات. من الصعب التفكير في رمز أكثر قوة لتكامل الصين المتنامي باطّراد مع الاقتصاد العالمي من الأسطول الهائل من ناقلات السيارات التي طلبتها "بي واي دي" من أحواض بناء السفن الصينية.
كرة المناورة
يشعر واضعو السياسات في الولايات المتحدة عن حق بقلق من اعتماد العالم بصورة كبيرة على الصين في الإمدادات، لا سيما في ما يتعلق بالطاقة النظيفة والتكنولوجيا الخضراء. في خطاب ألقاه في منتصف مايو، لايل برينارد، مدير المجلس الاقتصادي الوطني الأميركي، عبّر عن ذلك بصورة جيدة: "أصبحت الآن قدرة الصين الصناعية وصادراتها في قطاعات معينة كبيرة جداً إلى درجة أنها يمكن أن تقوض جدوى الاستثمارات في الولايات المتحدة ودول أخرى. (…) تحتاج الأسواق إلى إشارات طلب موثوقة ومنافسة منصفة لكي تتمكن أفضل الشركات والتكنولوجيات من الابتكار والاستثمار في الطاقة النظيفة وغيرها من القطاعات. لقد أوضحت الحكومة الصينية أن استثمارات الصين الضخمة في السيارات الكهربائية والألواح الشمسية والبطاريات هي استراتيجية متعمدة للاستحواذ على هذه القطاعات بصورة فاعلة".
وينبغي لواضعي السياسات في الصين أن يشعروا بالقدر نفسه من القلق من أن اقتصاد بلادهم أصبح معتمداً بصورة مفرطة على العالم في تلبية الطلب. لكن لا يبدو أنهم يفعلون إذ إن السياسة التي ينتهجها الزعيم الصيني شي جينبينغ في دعم "القوى المنتجة الجديدة"، إلى جانب مقاومته المفاجئة لمبدأ "دولة الرفاه"، أسفرتا عن اقتصاد محلي غير متوازن يتعين عليه على نحو متزايد أن يعمل لإخراج تشوهاته الداخلية. لقد ازداد فائض الصين في التصنيع نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي خلال الأعوام الأخيرة بقدر ما ازداد أثناء صدمة الصين الأولى التي تلت انضمام البلاد إلى منظمة التجارة العالمية، عندما أدت الزيادة في الصادرات الصينية والارتفاع الحاد في فائض التصنيع الصيني إلى تشريد العاملين في مختلف الاقتصادات المتقدمة على مستوى العالم. وإذا احتُسِب فائض التصنيع في الصين كحصة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فهو يتجاوز الآن بصورة كبيرة الفائض المسجل لدى أي دولة أخرى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
بيد أن حاجة الصين إلى النمو من خلال الصادرات ليست التفسير الوحيد لمرونة العولمة المدهشة. يتمثل سبب آخر في تهرب الشركات من الضرائب. وتضيء التغييرات في الطريقة التي تتصرف بها شركات المنتجات الصيدلانية على ذلك: كثيراً ما تبيع شركات المنتجات الصيدلانية الأميركية الآن حقوق الربح من العقاقير الجديدة الواعدة إلى شركات تابعة موجودة في دول تطبق ضرائب منخفضة. تصنع هذه العقاقير في الخارج ثم تباع بأسعار مرتفعة في الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، تعلن شركات المنتجات الصيدلانية الأميركية الكبرى – وغيرها من الشركات المتعددة الجنسيات – الآن عن كسب أرباحها كلها تقريباً في الخارج وتدفع ضريبة دخل محلية قليلة أو لا تدفع أي ضريبة. ويمتد هذا النوع الخاص من العولمة إلى ما هو أبعد من صناعة المنتجات الصيدلانية: تنتج الآن الشركات الأميركية المتعددة الجنسيات في كثير من الأحيان منتجاتها في الخارج من أجل حجز أرباح كبيرة في الملاذات الضريبية الخارجية.
وكملاذ ضريبي تُعدّ إيرلندا، وليس الصين أو الهند، أكبر جهة مصدرة للعقاقير إلى الولايات المتحدة: عام 2023، استوردت الولايات المتحدة ضعف عدد المنتجات الصيدلانية من إيرلندا مقارنة بكندا والصين والهند والمكسيك مجتمعة. ويمتد الاتجاه إلى ما هو أبعد من المنتجات الصيدلانية، إذ تُعدّ إيرلندا أيضاً أكبر سوق عالمية لتصدير خدمات البحث والتطوير الأميركية. جزر كايمان وجزر فيرجن البريطانية هي أكبر أسواق التصدير للخدمات المالية الأميركية، وبرمودا هي المورد الدولي الرئيس للولايات المتحدة لخدمات التأمين. وأظهرت دراسة أجراها صندوق النقد الدولي عام 2017 أن مرونة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في أعقاب الأزمة المالية العالمية لعامي 2008 و2009 يمكن أن تُعزَى إلى حد كبير إلى الارتفاع المطّرد في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر عبر مراكز التهرب من ضريبة الشركات.
عام 2015، اتفق أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية على تغيير قوانينهم الضريبية لجعل تحويل الشركات أرباحها إلى مناطق ذات ضرائب صفرية أكثر صعوبة. لكن هذه التغييرات التي نُفذت نهاية 2020، لم تحدّ من العولمة المدفوعة بالتهرب الضريبي. ففي أعقاب استراتيجية ضريبية كانت "أبل" أول شركة تطبقها، وجهت بعض الشركات الأميركية الكبرى شركاتها التابعة الإيرلندية بشراء شركاتها التابعة المتأثرة بتغيير الأنظمة في الدول التي لا تفرض أي ضرائب، مما أدى فعلياً إلى نقل ملكيتها الفكرية إلى إيرلندا مع توليد بدلات إهلاك كبيرة وفي الوقت نفسه خفضت معدلات الضرائب المفروضة عليها فعلياً في إيرلندا.
لقد جعلت هذه المناورات تهرب الشركات الضريبي أكثر وضوحاً لأن إيرلندا هي المركز الوحيد للتهرب الضريبي الذي يتّبع معايير أوروبا الصارمة للإفصاح عن البيانات الاقتصادية وبيانات ميزان المدفوعات. وبذلك من السهل متابعة كيف ارتفعت أرباح الشركات الأجنبية المتعددة الجنسيات في إيرلندا من نحو 40 مليار دولار سنوياً قبل 10 أعوام إلى أكثر من 180 مليار دولار سنوياً اليوم وباتت تشكل الآن ما يقارب 70 في المئة من الاقتصاد المحلي الحقيقي لإيرلندا. والأمر الأكثر أهمية هو أن هذه الأرباح تمثل أكثر من واحد في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو وما يقارب ثلاثة أرباع في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة. أما الخسارة الناتجة من عوائد الضرائب الأميركية، فأكبر بكثير مما تتوقعه معظم التحليلات لأن الشركات لا تملك حافزاً لتسليط الضوء على مدى ضآلة الضرائب التي تدفعها بالفعل في الولايات المتحدة.
قلب الأخطار
لماذا يهم إذا كان كثير من الناس، بما في ذلك قادة سياسيون ومعلقون مؤثرون، يسيئون فهم مسار العولمة المعاصرة ويبالغون في تقدير التأثير المترتب على تراجع الدعم السياسي لمزيد من التكامل الاقتصادي؟ أولاً، إذا ركز واضعو السياسات المناقشة على كلف العودة عن العولمة، هم يجازفون بتجاهل كثير من أشكال العولمة غير الصحية التي لا تزال قائمة ومستمرة من دون عائق نسبياً. الآن يصبح الدور الذي تؤديه الصين في تراجع التصنيع ضمن الولايات الأميركية الوسطى معترفاً به على نطاق واسع. لكن الدور الذي يقوم به قانون ضرائب الشركات في الولايات المتحدة في تراجع التصنيع ليس كذلك لأن السماح للشركات الأميركية بالاستمرار في استخدام استراتيجيات التهرب الضريبي التي تنقل الأرباح والإنتاج إلى خارج الولايات المتحدة أمر غير صحي للاقتصاد العالمي، حتى لو كان يعزز إجراءات التجارة الأميركية والاستثمار الأجنبي الأميركي. بدلاً من ذلك، إذا غيّر الكونغرس الأميركي قوانين الضرائب لرفع الحد الأدنى للضريبة العالمية وجعل من الصعب تحويل الملكية الفكرية المنشأة في الولايات المتحدة إلى دول تفرض ضرائب منخفضة، فمن المرجح أن تنقل شركات المنتجات الصيدلانية الأميركية إنتاج عقاقيرها الأكثر ربحية من مواقع مثل إيرلندا وسنغافورة وتعود به للولايات المتحدة.
كثيراً ما يفترض أولئك الذين يشعرون بقلق إزاء تراجع العولمة أن أشكال التكامل الاقتصادي كلها سليمة. لكنها ليست كذلك: لقد عكس الارتفاع الكبير والمفاجئ في التدفقات المصرفية عبر الحدود قبل الأزمة المالية العالمية، مثلاً، مستوى غير صحي من التأثير والأخطار السائد في المصارف الكبرى على مستوى العالم. واليوم أيضاً، لا يعكس الكم المفرط من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في العالم سوى التهرب الضريبي، وليس النشاط الاقتصادي المنتج.
ثمة أيضاً خطر مقابل: خطر يتمثل في أن واضعي السياسات إذا لم يعترفوا بدرجة تواصل ظاهرة العولمة، يفهم يقللون بصورة صارخة من شأن الصدمات التي قد تنبع من الفصل الكامل بين التجارة الصينية والأميركية. حتى مع ارتفاع الرسوم الجمركية الأميركية على الصين، لا يزال الاقتصاد العالمي متكاملاً بعمق. وفي أي حال، تصبح الصين أكثر مركزية في التجارة العالمية منذ فرض ترمب رسومه الجمركية، ويُخفى الاعتماد المتبادل بين الولايات المتحدة والصين، ولا يُقطع. مثلاً، لم يكُن بإمكان الصين تحقيق فائضها التجاري الحالي البالغ 800 مليار دولار في البضائع إذا لم يكُن لدى الولايات المتحدة عجز تجاري كبير. ولم يعُد هذا العجز يموّل من الشراء المباشر للسندات الأميركية من قبل المصرف المركزي الصيني. لكنه لا يزال ممولاً بصورة غير مباشرة من الصين، في هيئة مخزونات ضخمة من دولارات يحتفظ بها مصدرون صينيون الآن في الخارج. وليست الطريقة التي يظل بها فائض الصين صورة معكوسة للعجز الأميركي سوى واحدة من كثير من الصور المعقدة التي يواصل فيها الاقتصادان الأميركي والصيني الاعتماد على بعضهما بعضاً، حتى مع صعوبة رؤية الروابط في البيانات الاقتصادية الرئيسة.
يمكن للعودة عن العولمة هنا أو بعضاً منها، في الواقع، أن يكون صحياً أيضاً. إذا قللت الصين من اعتمادها على الطلب العالمي للتعويض عن نقاط ضعفها الداخلية، فمن شأن ذلك أن يفرض ضغوطاً أقل على قطاعات التصنيع لدى شركائها التجاريين، فضلاً عن الحد من الاعتماد المفرط للولايات المتحدة وغالبية الدول الأوروبية وغيرها من الديمقراطيات، على الصين للحصول على مدخلات بالغة الأهمية. لكن في الوقت الحالي، من المرجح أن تستمر الضغوط القوية المفروضة على الصين لحل مشكلاتها الاقتصادية المحلية من خلال زيادة الصادرات في دفع العالم نحو تكامل اقتصادي أكثر عمقاً وتوازناً. تحاول الولايات المتحدة مقاومة هذا الضغط في مجال السيارات الكهربائية، في مقابل زيادة الكلفة على المستهلكين الأميركيين. لكن مع تحول شركات السيارات الكهربائية الصينية إلى العالمية، ليس من الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على عزل صناعة السيارات الكهربائية الخاصة بها ببساطة عن طريق فرض رسوم جمركية على التجارة الثنائية. ومن المرجح أن يتطلب تجنب الاعتماد المتبادل مع الصين تحولات أكبر في السياسات – واستعداداً أكبر لدفع كلف سلاسل الإمداد المتكاملة إقليمياً بدلاً من تلك المتكاملة عالمياً.
تاريخياً، كانت تجارة السيارات دائماً إقليمية أكثر منها عالمية. وسيتطلب الحفاظ على هذا النمط التجاري في مواجهة المعروض الصيني المتزايد قيوداً إضافية على التجارة. لكن هذه القيود القطاعية لا يمكن إلا أن تحدّ من تطوير صور جديدة من التكامل، فهي لا تستطيع قلب اتجاه العولمة بصورة كبيرة لأن التحدي الاقتصادي الأكبر الذي تفرضه الصين الآن على واضعي السياسات في "مجموعة السبع" يتلخص في كيفية الحد من الاضطرابات التي تتدفق من اقتصاد الصين الذي يعتمد بصورة متزايدة على التصدير والتصنيع. أما المحادثات حول تراجع العولمة، فتخطئ الهدف.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة في المستقبل القريب، سيكون أي انفصال حقيقي عن الاقتصاد الصيني مكلفاً – أكثر كلفة بكثير من الانفصال السطحي خلال الأعوام الأخيرة. وثمة طريقة سهلة ورخيصة نسبياً تتجنب بها الولايات المتحدة الرسوم الجمركية الثنائية وهي أن تستورد مكونات شحنتها الصين إلى هناك بغرض التجميع النهائي. وسيكون إخراج المكونات الصينية من سلاسل الإمداد الأميركية بالكامل عن طريق تصنيع بدائل أمراً صعباً. وسيكون من الصعب بالقدر نفسه على الصين إعادة هيكلة اقتصادها لكي تعتمد بصورة أكبر على الطلب الداخلي.
تقدم العودة عن العولمة للمحللين قصة بسيطة تستحق أن تُروَى عن التغيرات التي تطرأ على الاقتصاد العالمي. لكن الواقع أكثر تعقيداً: بصراحة، من المستحيل أن يتفكك اقتصاد عالمي يتميز بعجز أميركي كبير من جهة وفائض صيني كبير من جهة أخرى. ويحتاج العالم إلى إجراء مناقشة صحية حول عيوب التكامل الاقتصادي ومنافعه. لكن هذه المناقشة لا بد من أن تبدأ من اعتراف صريح بأن كثيراً من خصائص الاقتصاد العالمي المعاصر لا تزال تدفع نحو تكامل أكبر، وليس أقل، وأن معالجة هذه العوامل ستخلف كلفاً حقيقية.
*براد سيتسر هو زميل بارز في كرسي ويتني شيباردسون في مركز بحوث "مجلس العلاقات الخارجية"
مترجم عن "فورين أفيرز"، 4 يونيو 2024