Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البودكاست... تمرد "سلمي" على احتكار صوت الراديو

تشير تقارير إلى 4 ملايين برنامج حول العالم بنهاية 2023 تتميز بخصوصية كانت توفرها الإذاعة

أخذ البودكاست مكانة كبيرة خلال وقت قصير (مواقع التواصل)

ملخص

على رغم أن سقف الحرية المرتفع أمر تشترك فيه وسائط الـ"سوشيال ميديا" بصورة عامة لكن البودكاست هو أقرب صورة لجدية الإذاعة ورصانتها وميزة سهولة متابعته تجعله مؤثراً ومقلقاً بالنسبة إلى بعض المؤسسات الرسمية.

بودكاست لكل مواطن.. عبارة بات يتم التندر بها على انتشار برامج البث الصوتي في العالم العربي بصورة مفاجئة، على رغم أن هذه النوعية من الإنتاج الإعلامي لم تكن تحظى بشعبية حتى عند الفئة الأكثر ثقافة واطلاعاً قبل خمسة أو ستة أعوام مضت، وكان المحتوى الأكثر جماهيرية يتمثل في الفيديوهات التقليدية عبر مختلف تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع تقديم الخدمات الإعلامية.

ولكن كما هو واضح فإن البودكاست بات موضة رائجة للغاية ونجح في أن يأخذ مكانة كبيرة خلال وقت قصير، على رغم أنه بدأ فعلياً عربياً قبل أكثر من 15 عاماً، ولكنه مر بمراحل كثيرة ولم تكلل تجاربه الأولى بالانتشار بل اندثرت سريعاً وتراجعت حينها لمصلحة المحتوى المصور، حتى عاد بما يشبه الثورة التدرجية مرة أخرى منذ نحو ثمانية أعوام، ليجد قبولاً أولاً بين جمهور الخليج العربي ثم ينطلق لبقية دول المنطقة.

وظل صناع محتوى البودكاست في مصر يواجهون صعوبة كبيرة في الترويج لإنتاجهم حتى قبل ثلاثة أعوام، لتنقلب الحال تماماً ويصبح هو المفضل لدى الضيوف وقطاعات كبيرة من المتابعين التي ترغب في أن تستمع إلى مواضيع نوعية على مدى زمني طويل من دون فواصل ومن دون تشتيت للمؤثرات البصرية.

اتضح أن سقف الإبهار المرتفع سبب لبعض الأذواق نفوراً وباتوا يبحثون عن أجواء تشبه الراديو الذي كان بطله الصوت فقط، كما أن المحتوى الجاد الطويل يبدو أكثر مواءمة لأن يقدم عبر سرد صوتي وليس فيديو مصوراً في الأقل بالنسبة إلى بعض الفئات من المستمعين الذين يريدون متابعة مادتهم المفضلة وهم يواصلون مهماتهم اليومية وليسوا في حاجة إلى تركيز نظرهم أو بقية حواسهم معها.

من هنا دخل البودكاست دائرة المنافسة بقوة وبات حتى مشاهير الفن والرياضة والمجتمع يختارون أن يكونوا ضيوفاً على برامجه عوضاً عن وسائل الإعلام التقليدية، وفي المقابل أعطى هذا الازدهار للتجربة الإذاعية في ثوبها الجديد روحاً وحياة إضافية وسط الطفرة التي تشهدها هذه السوق أخيراً والتي توفر مساحة حرية في المواضيع للمتلقي وصاحب المحتوى في آن.

هرب من السياسة

وفي حين تتسع جماهيرية برامج البودكاست في المنطقة العربية، يلاحظ أن غالبية روادها الأكثر شهرة يفضلون مناقشة المحتويات ذات الطابع الترفيهي المسلي وكذلك ذات البعد النفسي أو المجتمعي أو الرياضي وحتى التعليمي والثقافي من دون التطرق إلى قضايا شائكة ذات بعد سياسي آني مثلما يحدث في معظم دول العالم، إذ تعيش جماهير السوشيال ميديا حالياً في مناطق كثيرة بما يمكن تسميته عصر البودكاست، ليصبح بديلاً موائماً لهم عن كثير من صور المحتوى.

 

والمتابع لغالبية البرامج الأكثر استمرارية في العالم العربي يتساءل ما سر عدم الاشتباك كثيراً مع مواضيع جدلية سواء سياسية أو تاريخية، بينما باتت الحرب على غزة على سبيل المثال هي العنوان العريض لغالبية تجارب البودكاست دولياً وفرضت أجندتها على كثير من البرامج المسموعة في أوروبا أو أميركا لا سيما تلك التي تتبع تجارب فردية وبعيدة من المؤسسات الإعلامية التقليدية.

هنا يرى الباحث الإعلامي والإذاعي في راديو السويد إدغار مانهايمار الذي يقدم بودكاست بجهوده الذاتية عن أحوال الشرق الأوسط أن البودكاست السياسي مزدهر بصورة ملحوظة في الغرب بالفعل، وهناك أسباب عدة لذلك وبينها أن مناخ الحرية والتعدد الحزبي والسياسي يسهم في تلك الانتعاشة على عكس مناطق كثيرة في العالم العربي إذ تستلزم مناقشة الأمور السياسية البحتة بها كثيراً من الحسابات بل إن المشتغلين بالسياسة لا سيما المعارضة دوماً مهددون في أوقات كثيرة بحسب رأي إدغار مانهايمار.

 

 

ويواصل حديثه، "في المقابل هناك انتشار للبودكاست الثقافي في الشرق الأوسط معتبراً أن تجاربه مميزة وتحقق شعبية، وأتوقع أن تشهد سوق البودكاست عربياً مزيداً من الانتشار والتنوع خلال أعوام قليلة".

إفساد التجربة

من يكتفون باستعمال حاسة السمع فقط في ما يتعلق بالمتابعة البرامجية وجدوا أن البودكاست موائم جداً لهم، إذ يجلس صانعوه في استديو بسيط التجهيزات يتقدمهم ميكرفون يسمح بنقل أقل الهمسات، يذيعون محتوى قد لا تتحمله المؤسسات الإعلامية التقليدية نظراً إلى أن غالبيتها تتبع هيئات لها أجندتها التي قد لا تتفق مع كثير مما يقدم، وقد لا تتسع أيضاً لتلك الحلقات الطويلة التي تعتمد على حرية السرد والاستطراد، لكن على رغم تلك الطفرة فإن أستاذ الإعلام في "جامعة القاهرة" الدكتورة سهير عثمان تبدي دهشتها من طريقة التعامل مع فكرة البودكاست عربياً، وبخاصة بالنسبة إلى صورة تقديمه مشيرة إلى أن بعض الجهات الإنتاجية طرحت تجارب يمكن أن توصف في رأيها بأنها أفسدت البودكاست وأفرغته من أصله، باعتباره تدويناً صوتياً قائماً على وسيط الصوت فقط.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأضافت، " شاهدنا تجارب روّج لها على أنها بودكاست، لا تمت للبودكاست بأية صلة فيجلس صناعها في استديو مجهز وبه ديكورات مع ميكرفون محاورين الضيوف في حلقة مصورة من الزوايا كافة وتعرض على الشاشات وكأنها برنامج تلفزيوني متكامل ومعتاد".

من دون رقابة

احتكار صوت الراديو في غالبية مناطق العالم أمر حرصت عليه الدول منذ عقود طويلة، نظراً إلى إدراكهم خطر وصول البث غير الرسمي عبر إذاعات الموجات القصيرة العابرة للحدود لشعوبهم، ففي سبيل منع ذلك الأمر حدثت محاولات كثيرة، ومن أشهرها القانون الذي أصدرته المملكة المتحدة عام 1967 بعد انتشار محطات مثل نورماندي وليون وأثلون ولوكسمبورغ، والقانون كان هدفه توضيح عقوبة بجرائم البث البحري ويحظر تزويد محطة إذاعية خارجية غير مرخصة.

ووفقاً لدرس حول إذاعة الشرق الأدنى (صوت بريطانيا) للمؤرخ الأميركي دوغلاس أ.بويد نشط البريطانيون بصورة ملحوظة في هذه الناحية وكانوا يبثون لأوروبا وأفريقيا وأميركا عبر موجة متوسطة مستخدمين هويات عدة.

قانون التجريم هذا تكرر في دول كثيرة وبينها هولندا التي حدث تحايل على اتفاق تقسيم بحر الشمال لديها من طريق ما عرف براديو القراصنة أو إذاعة الشواطئ المتعلق بالبث البحري خارج المياه الإقليمية، فالقوانين الصارمة جاءت نظراً إلى أهمية السيطرة على "الصوت" لأنه الأسهل انتشاراً والأيسر في الوصول إلى الجمهور مما يعني أنه سلاح فعال في إيصال الرسائل بعدما ذاقت بلدان كثيرة الأمرين منذ عشرينيات القرن الماضي ووصلت ذروتها إبان عصر النازية قبيل وأثناء الحرب العالمية الثانية، بعد انتشار الإذاعات السرية أو المعلنة غير القانونية متحايلة على اللوائح وساعية لنشر رؤيتها التي قد تجدها بعض الحكومات معادية أو مناوئة لها.

على أثر ذلك جاء التمرد على هذا الامتياز الحصري الذي حصلت عليه الحكومات التي جعلت جميع الإذاعات حتى الخاصة منها تدور في فلكها وتبث رسالة تخضع لرقابتها بصورة أو بأخرى. ولم تتوقف محاولات التمرد على هذا الامتياز ثم جاءت التكنولوجيا لتسهل تلك العملية، والبودكاست أحد أكثر بنودها تماشياً مع فكرة الإذاعات غير الخاضعة للرقابة، فأي شخص يمكنه عبر فضاء البودكاست أن يطلق أفكاره من خلال الوسيط الصوتي من دون موافقات وينشر رؤيته من خلال تطبيقات عدة في اللحظة نفسها.

وعلى رغم أن سقف الحرية المرتفع أمر تشترك فيه وسائط الـ"سوشيال ميديا" بصورة عامة، لكن البودكاست هو أقرب صورة لجدية الإذاعة ورصانتها، كما أن ميزة سهولة متابعته تجعله مؤثراً ومقلقاً بالنسبة إلى بعض المؤسسات الرسمية. وتشير أستاذ الإعلام سهير عثمان إلى أن فكرة كون البودكاست بديلاً لهذه النوعية من الإذاعات يمكن الأخذ والرد فيها، وبخاصة أن فضاء الإنترنت بصورة عامة عالم مفتوح، فهناك مساحات لجميع الآراء التي لا تخضع للرقابة الرسمية ولكنه يتشابه معها بالفعل بصورة أساسية في ما يتعلق بالتحرر من طبيعة السيطرة الحكومية التي تحدد طبيعة المواضيع التي يتم طرحها ومناقشتها من زوايا واتجاهات غير متداولة في الإعلام التقليدي.

سوق مزدهرة

بدأ التعرف إلى مصطلح بودكاست منذ عام 2004 بفضل شركة "آبل" حينما ابتكرت جهاز "آي بود"، ثم تم دمج كلمتي "آي بود" وكلمة "برودكاست"، وفي تلك المرحلة كان الأمر بدائياً تماماً يسمح بنشر بعض الملفات الصوتية للبرامج الإذاعية والمحتويات الصوتية عموماً وتحميلها على الإنترنت، لتمر التجربة بمراحل كثيرة وتتسع سلطة البودكاست على آذان محبي "حال الاستماع" الباحثين عن محتوى متخصص وهرباً من ازدحام الإنتاج المرئي بكثير من المنغصات.

وفقاً لموقع "بودكاست إنديكس" وصل عدد برامج البودكاست حول العالم إلى أكثر من 4 ملايين وذلك حتى العام الماضي فقط. إنه البحث عن الحميمية وخصوصية تجربة الصوت التي كانت توفرها الإذاعة على مدى نحو قرنين وربع القرن من الزمان منذ ابتكار الراديو، وجعلت الجميع يرتبطون بها، هذه المرة تعيد التكنولوجيا لهذا الجيل هذا المناخ بطريقة أكثر حداثة، وهي الفكرة التي تشدد عليها أستاذ الإعلام الدكتورة سهير عثمان، معتبرة أن خصوصية التجربة مع سهولة المتابعة من أبرز أسباب نمو سوق البودكاست أخيراً.

 

 

وتتابع أن جاذبية الأمر لا تتعلق فقط بمواكبة التطورات ولكن البودكاست يتضمن مساحات من المضامين غير موجودة في بقية الصور الإعلامية الأخرى، ومن الصعب أن توفرها بقية منصات الإنترنت بصورة عامة، فهو يعتبر الصورة الحديثة لمحطات الراديو.

وتضيف عثمان "يتميز أيضاً بأن جمهوره غير مقتصر على فئات عمرية معينة فالمتابعون هنا مراهقون وشباب وكبار سن وذلك نظراً إلى تنوع المحتوى واتساعه، لذا فالأعمار كافة يمكنها أن تجد ضالتها به".

جبهة جديدة

أيضاً صور السرد الصوتي متشعبة في هذا العالم وفقاً لما يليق بطبيعة المحتوى فهناك ما يصنف بوصفه حلقات وثائقية أو أخرى تعتمد على الحكي ورواية القصص وأخرى يكون قوامها الأساس المقابلات الحوارية، فيما يفضل بعض الدمج بين أكثر من نوعية لتخرج الحلقة كيفما اتفق وكأنها جلسة دردشة بين الأصدقاء، وعلى رغم تحقيق عدد من تجارب البودكاست الشعبية عربياً وزيادة الإقبال عليه من قبل شركات الإنتاج الإعلامي وكذلك في ما يتعلق بمقدميه وبينهم مشاهير في عالم الفن والإعلام، كما أنه تدريجاً يصبح صوت من لا صوت له، لذا فالبودكاست باعتباره البديل العصري للراديو بصورة عامة، من غير المستبعد أن يستعمل بوصفه جبهة إضافية في الحروب، ويعمل بوصفه إذاعة غير رسمية تجذب جمهوراً يبحث عن جانب مختلف للرواية بعيداً من الآراء التي تحاصره بها الموجات التقليدية للإذاعة التي تخضع لاعتبارات ولوائح كثيرة وتجعل هناك حساسية شديدة من مناقشة بعض الأمور.

الإعلامي إدغار مانهايمار من خلال تجربته في بودكاست "كلام"، يعتقد تأثيرات البودكاست في الغرب تبدو ملحوظة حتى لو على نطاق ضيق في البداية، خصوصاً في ما يتعلق بالجانب السياسي، فتعقد حلقات نقاشية وأبحاث لمناقشة الآراء المطروحة، لا سيما تلك التي تعرض وجهة نظر مختلفة عن أحداث الشرق الأوسط وبالطبع تأتي أزمة الحرب الإسرائيلية على غزة على رأسها فهناك زخم كبير أخيراً بين أوساط الشباب والباحثين والدارسين في هذا الجانب.

المزيد من فنون