ملخص
انتشرت في العراق برامج "بودكاست" متنوعة يقدمها أشخاص متمكنون ومتقدمون في الثقافة الشخصية على حساب البرامج التلفزيونية.
ربما يكون التوجه العراقي الجديد نحو إطلاق برامج "بودكاست"، تعبيراً عن تبدل في علاقة المشاهد بالتلفزيون ومستوى متابعة القنوات الفضائية وبرامجها، والتي كثير منها موجه ضمن نسق الجهات الممولة لهذه المؤسسات وما تفرضه من قيود ومحددات لا يمكن للعاملين تجاوزها.
في هذا السياق، أطلق الكثير من برامج "البودكاست" وفي مجالات متعددة، اقتصادية وثقافية واجتماعية ورياضية، إذ يميز معظم هذه البرامج أن معدها ومقدمها هو الشخص نفسه، بعكس كثير من البرامج التلفزيونية التي يتلقى فيها المقدم الإعداد كاملاً.
هنا يمكن القول إن مقدم "البودكاست" متمكن ومتقدم في ثقافته الشخصية أكثر على حساب مقدمي البرامج التلفزيونية، وهذا ما بينته تجارب "البودكاست" العراقية في الأشهر الماضية.
ساعد هذا الاندفاع الجديد ما لحق بتجربة الإعلام العراقي، وبالتحديد بعد عام 2014، من كم الدخلاء الذين تمكنوا من الولوج للمهنة، وهم سماسرة وبلوغرات وأصحاب محتويات بلا قيمة، وهبطت الفضائيات باستقطابهم وصار عدد غير قليل من برامجهم غير لافت للمشاهد، إن لم نقل محط استهجانه إزاء ما يقدم بين حين وحين.
بلا حوار رسمي ومتكلف
الفنان صلاح منسي، وهو مؤلف مسرحي ومعد برامج تلفزيونية مختلفة، يقدم حالياً "بودكاست" "شي منسي"، يعلل إطلاقه هذه الفكرة "للتخلص من وجود فواصل مزعجة للمشاهد وللضيف والمقدم في الوقت نفسه وأيضاً لتجاوز نظام توقيتات الفضائيات، إذ ترغمك القناة التي تعمل لديها أن يكون وقتك هو ساعة تلفزيونية، بينما البودكاست محتوى يتيح لك أن تكون حلقتك الواحدة ثلاث ساعات متواصلة وربما أكثر".
منسي ينوه بأن "فكرة وجود البودكاست أزاحت الحوار الرسمي والمتكلف مع الضيف وجعلته يتحدث بأريحية وكأنها جلسة أصدقاء قريبين لبعضهم بعضاً، وهذا ما يجعل الحلقات تمتاز بالحميمية الواضحة مع الضيوف، وإن أهم ميزة في وجود البودكاست هو أنه محتوى مسموع، فمعظم الشباب يمارس أعماله وهم يستمعون إلى البودكاست".
"لا أهتم إطلاقاً لما يكتبه الناس"، هكذا علق منسي على انطباعات المتابعين عما يعمل عليه حالياً، مضيفاً "هناك صفحات كثيرة نشرت عني كلاماً إيجابياً وسلبياً ولم أعلق على الحالتين، الشعب العراقي ينتقد كل شيء وله رأي في كل شيء، لذا لا توجد معايير حقيقية للانتقاد، ولا يعنيني من يعلق سلباً أم إيجاباً، أنا منشغل بما سأقدمه في الأيام المقبلة وهذا ما يهمني حقاً".
إزاحة مقدمي الابتذال
أما إذا كان "البودكاست" في منافسة مع برامج الإعلام التقليدي، يرى صلاح منسي بأن "العراق يحتاج إلى إعلام محترم، سواء على شكل برنامج تلفزيوني أو بودكاست، إذ يجب إزاحة الابتذال الذي يستشري بكثرة في الفضائيات والسوشيال ميديا، والتخلص من المقدمين الذي يسألون عن عمليات نحت الأجساد والخيانة وهل أنت تصلي أم لا وهل تشرب الكحول أم لا؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع، "العراق في حاجة لأن يزيح هذا النوع من الإعلاميين وأن يكون الحوار من دون أي مشكلات وغير خاضع لمعايير التريند والأهم من كل هذا أن تشاهده العائلة العراقية من دون توجس".
انعتاق من قيود الفضائيات
ثائر جياد، وهو مؤلف دراما ومعد برامج أيضاً، أطلق أخيراً بودكاست "جيم سين"، واستضاف فيه شخصيات متباينة التوجه وفي ميادين ثقافية وسياسية وإعلامية، وتبدو دوافعه لتأسيس هذه المساحة مقاربة لدوافع صلاح منسي، يوجزها بأنه "بث شخصي من مميزاته الانعتاق من سياسة وقيود القنوات الفضائية، مساحة الاختيار للضيوف واسعة، لا يوجد مقص رقيب بعد التصوير والعرض".
جياد ينظر للموضوع، بأن "البودكاست العراقي هو حديث نسبة للتجربة عالمياً"، ويتوقع "أن الأمر يشبه شكل المجتمع العراقي، تجد كل شيء من الأسوأ للأفضل"، وفي ما يتعلق بمحاولته الشخصية فإنها - كما يقول - لترميم الذائقة بعدما عصفت بها "رياح الطشة" (أي البحث المهووس عن الأضواء) وسباق الشهرة السريعة.
جردة "بودكاست"
في خريطة برامج "البودكاست"، يبدو "بودكاست عراقي" لشخصية يقدم نفسه بـ"وياكم فلان"، و"قصص بودكاست" لعلي كيتو، و"شنو القصة" لمهند مجيد، و"تجارب" لجميل، و"سالفة كاست" لميس عنبر، و"بودكاست فكر" لفتى القاموسي، و"بودكاست فانوس" لمجموعة من النساء العراقيات، و"تجوال" لإبراهيم خليل، و"بعد" لمنتظر.
وإذا ما أكدنا حقيقة الأريحية التي يتكلم فيها ضيوف هذه البرامج من "البودكاست"، فإنها قدمت تجارب وأسماء من خارج النسق المكرر من قائمة الضيوف المعتادين في الفضائيات العراقية، وهذا سببه بحث واضح عن تجارب اقتصادية وإدارية ناجحة في مجال القطاع الخاص، إضافة إلى استدارة ثقافية نحو أسماء شابة تطرح رأيها بثقة عن السينما والكتابة والقطاع الخاص والمجتمع، مع حضور للأسماء المؤثرة في مواقع التواصل.
هذه التوليفة من الضيوف بين شخصيات شابة ومؤثرة، يضاف إليها الأداء العفوي والخالي من بعض "الفذلكات" في الخطاب الإعلامي، وفرت مساحة جديدة في فضاء التواصل الاجتماعي بلغة أقرب إلى المتابعين وبطرح أبسط وأكثر صدقاً وحرية في القول.
تعزيز ثقافة الاستماع
الكاتبة والإعلامية العراقية سارة الصراف تصنف جمهور "البودكاست" بأنه "نوعي يحب أن يستمع أكثر من أن يشاهد وهذا تميز بحد ذاته لكن ذلك لا يعني عزوف الجمهور عن المشاهدة"، وتعتقد أن انتشار تجارب "البودكاست" شجع الناس على التعبير عن آرائهم وأسهم بشكل كبير في تعزيز ثقافة الاستماع.
الصراف التي عملت في الإعلامين المحلي والعربي (آخره في قناة CNBC Arabia وقبلها في قناة دبي الاقتصادية)، تنظر إلى أن برامج "البودكاست" في طريقها لأن تكون "ظاهرة تبدأ ويستنسخها الآخرون وهي نمط جديد من طرق التواصل الاجتماعي".
تفوق مقدمي "البودكاست"
الصحافية العراقية أمل صقر، عملت سابقاً مديراً إقليمياً لمكتب "بي بي سي" في بغداد، وحالياً مراسلة إذاعة "مونت كارلو"، تشير إلى أنه "في العراق لا يوجد إعلام مستقل إنما أغلبه خاضع لأحزاب وأجندات، وهذا ضمن نطاق المؤسسات الإعلامية التقليدية، وهناك عدد من الصحافيين والإعلاميين لديهم خبرة كبيرة ويرفضون الخضوع لاشتراطات الإعلام التقليدي، هؤلاء يمكنهم استثمار وسائل الإعلام الحديثة ومنها البودكاست من أجل التحرر وكسر القيود المفروضة على وسائل الإعلام في العراق بسبب طبيعة التمويل".
وتضيف، "محاولات البودكاست ما زالت قليلة وقاعدتها الجماهيرية محدودة، ومن الصعب الحديث بأن برامج البودكاست العراقي قادرة على تحرير الرسالة الإعلامية من سطوة المال السياسي والإملاءات الحزبية، فطالما رأس المال موجود طالما هناك إعلاميون قادرون على العمل ضمن السقف المفروض عليهم، وهذا مرتبط بالإعلامي وأخلاقيات المهنة".
أمل صقر في معرض التقييم والمقارنة ما بين المشتغلين في الإعلامين الحديث والتقليدي، ترى أن "مهارة العاملين في صناعة البودكاست وثقافتهم تتفوق على مقدمي البرامج بكثير وهذا واضح ليس من ناحية قدرتهم على إعداد المادة الإعلامية المقدمة، وإنما حتى في طريقة التقديم واستخدام المفردات وهذا يميزهم كثيراً عن مقدمي البرامج في وسائل الإعلام التقليدية".