تجربة فنيَّة مغايرة شكلاً ومضموناً، يقدِّمها الفنان السوداني الجنسية المصري المولد والنشأة أمادو الفادني، إذ يعتمد الرجل الأسود بطلاً للوحاته، مخالفاً النمط السائد والمسيطر على الفن التشكيلي منذ قرون، إضافة إلى بحثه في الميثولوجيا الأفريقية، وفي التاريخ غير المطروق، ليضع البسطاء والمهمشين في بؤرة الاهتمام، حتى وإن كان عبر لوحة.
مرحلة التجريب والخطأ
بمفردات بصريَّة وتكوينات فنية اعتمدت على وسائل متعددة، مثل الرسم والديجيتال والمونو برنت، قدَّم الفنان السوداني تجربته، وعن ذلك يقول "أهوى الفن منذ طفولتي، ووجدت تشجيعاً ودعماً كبيرين من الأسرة، وظلَّت الهواية مستمرة معي سنوات، دون أن يكون لديّ اتجاه أو تصوَّر لمشروع فني واضح، وهي مرحلة التجريب والتجربة والخطأ، والتعرف على الثقافات والمدارس الفنية المختلفة".
ويضيف، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، "أجمع بين ثقافتين، إذ إنني سوداني الجنسية، مصري المولد والنشأة، وهو ما منحني مزيجاً فريداً انعكس على رؤيتي الفنية بصورة كبيرة".
كنت ثائراً
وحول ثنائية الفن والسياسة والعلاقة الأزلية بينهما، وكيف يؤثر كل منهما في الآخر يقول الفادني، "العلاقة بينهما وطيدة، الفنانُ جزءٌ من المجتمع، ويتأثر بالتغيرات السياسية أو الاجتماعية، ولا يجب أن ينعزل عما يدور من حوله، إنما عليه أن يتفاعل، ويعكس ذلك على فنه، ولو فضَّل الفنان الانفصال عن الواقع المحيط فهو مدرك هذا الواقع، ويعبر عنه بطريقة معينة، هذا على المستوى العام".
وأضاف، "أمَّا عن تجربتي الشخصية فعشت أحداث الثورة المصرية عام 2011 في قلب ميدان التحرير، وشهدت هذه الفترة حراكاً سياسياً بالعالم العربي، انعكس على المجتمع بما في ذلك الفنون".
الوعي الاجتماعي
وعن تأثر الفن بالحراك السياسي أشار إلى أن الثورات العربية جعلت "مفهوم الفن اختلف عند الناس، ومتطلباتهم اختلفت، فلم تعد الفنون حكراً على الخاصة والعرض في المتاحف والقاعات الكبرى، إنما أصبحت جزءاً من المجتمع وآلية من أدوات التعبير، وظهرت أشكال جديدة مثل الغرافيتي والعروض الحيَّة بالشوارع، وجميعها لم يكن مألوفاً في مجتمعاتنا من قبل، وعموماً الحراك السياسي يخلق الوعي، والناس تحتاج إلى الدعم، والفن هو إحدى وسائل الدعم".
تيمة فنية
على عكس ما هو سائد فنياً اعتمد أمادو الفادني الرجل الأسود تيمةً أساسيةً في مشروعاته المتعددة، وقدَّمه بصورة مغايرة عن المألوف في الفن التشكيلي، وعن هذا يقول "تجربتي الأولى في هذا المجال كانت عن أحد معسكرات الهولوكوست في أفريقيا، وتحديداً في ناميبيا عام 1908، وكانت إبادة عرقية لجماعات أفريقية تسمّى قبائل الهيريرو، وكثيرون لا يعرفون شيئاً عن هذه الواقعة وغيرها، وهي أحداث تاريخية مفقودة، وواحد من أدوار الفن هو أن يسلّط عليها الضوء. على الفن أن يصدم المجتمع، ويدفع الأفراد إلى البحث والتفكير. لذا أسعى إلى تقديم موضوعات غير مطروقة، مستوحاة من أحداث تاريخية حقيقية، ووضع الحقيقة أمام الناس وحثهم على التفكير".
محاكاة مشروعة
حاكى الفنان السوداني لوحات عالمية شهيرة بمفردات مغايرة مثل لوحة (الخلق) لمايكل أنجلو، التي استبدل فيها الرجل الأبيض بآخر أسود، تحت عنوان (ماهنجو)، وعنها يقول "الأعمال العالمية ستظل لها قيمتها، باعتبارها تراثاً فنياً عالمياً، لكن يمكن محاولة تقديمها بصورة أخرى، ووجهة نظر مختلفة، وهذا ما قمت به عند محاكاتي لوحة الخلق، و(ماهنجو) هي أسطورة من تراث القبائل الأفريقية البدائية في الكونغو، وهي تشبه كثيراً قصة الخلق، إذ خلقت الآلهة ماهنجو ومنحته قوتها وطلبت منه عدم الذهاب إلى الشجرة المقدَّسة، فلم يمتثل، فغضبت عليه الآلهة، وانقسم بعدها إلى اثنين ذكر وأنثى، والقصة تشبه كثيراً خلق آدم في ثقافتنا، إلا أنها قادمة من الميثولوجيا الأفريقية، التي غالباً لا يعرف الكثيرون شيئاً عنها".
تأريخ فني
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قدم أمادو الفادني مشروعاً فنياً عن الجُندي في السودان، إذ عمل على توثيق شكل العساكر من فترات زمنية وحقب سياسية مختلفة في الفترة من عام 1890 وحتى الآن مع ذكر تفاصيل دقيقة للملابس والأسلحة والشارات والقبعات، وعن هذا المشروع الفني يقول "الفكرة ترتكز على تقديم صورة الجُندي السوداني من حقب مختلفة مع التركيز على العساكر في جيوش الحرب العالمية الثانية عندما كانت السودان وجزء كبير من أفريقيا خاضعين للاستعمار، فظهر شكل من أشكال العبودية، وهو ما يمكن أن يطلق عليه العبودية العسكرية، إذ ضُمَّ كثير من السودانيين والأفارقة إلى الجيوش المحاربة في الحرب العالمية، ودُفِعَ بهؤلاء الجنود في أتون معارك وحروب لا علاقة لهم بها، وهو شكل من أشكال الاستعباد".
هذه مصادري
ويضيف "اعتمدت على البحث في الكتب والمصادر التاريخية فترة طويلة عن تفاصيل حياة هؤلاء الجنود، وشكل ملابسهم وطريقة معيشتهم، وتوصلت إلى مراسلات عسكرية لاثنين منهم، ووجدت أحدهما كتب مذكرات تفصيلية عن هذه المرحلة وطبيعة الحياة، وأعتقد أن الاستناد إلى مثل هذه التفاصيل من خلال تجربة شخصية موثقة في مذكرات أصدق من المصادر الرسمية التي تتبنى وجهة نظر معينة ربما لا تعكس الواقع أو تقدم وجهة نظر وفق أيديولوجية معينة".
واختتم الفادني "حرصت في اللوحات على أن أقدم (العسكري) الخاضع لهذا النوع من العبودية في إطار ربما يبدو مغايراً لواقعه المؤلم، فقدمت العساكر بنظرات حادة واثقة وبهيئات قوية محاطين بما يشبه هالات القديسين لإضفاء التبجيل عليهم وعلى حياتهم التي تشبه حياة القديسين في جمعها بين ثلاثية المعاناة والاغتراب والموت".