ملخص
في نظر خبراء الـ "سوشيال ميديا" لا يوجد ما يسمي بالشخص العادي، فلابد من أن تكون مثالياً في كل شيء، فهل هذا معقول؟
صفحات لا تنتهي لخبراء، أو من يطلقون على أنفسهم لقب "coaches"، تلاحق الناس على وسائل التواصل الاجتماعي كافة، فكل تفاصيل الحياة الصغيرة والكبيرة أصبح لها "كوتش" متخصص فيها، فمن العلاقات العاطفية إلى تربية الأطفال إلى المسار المهني وتطوير الذات إلى التنمية البشرية التي أصبح مفهومها ملتبساً عند كثير من الناس إلى خبراء في تنظيم الموازنات وترتيب البيت والعناية بالبشرة والشعر.
الخبراء والـ"coaches" لديهم آلاف وفي بعض الأحيان ملايين المتابعين الذين ينتظرون النصائح ومقاطع الفيديو التي يقدمونها، ويذهب بعضهم للحصول على استشارات خاصة في مقابل مادي، سواء كانت افتراضية أو حقيقية، ليصبح الأمر ظاهرة تستحق إلقاء الضوء عليها مع ازديادها يوماً بعد الآخر.
سحر التكرار
الحديث هنا بالطبع ليس عن المتخصصين الحقيقيين والمؤهلين بالفعل لمساعدة الناس، والذين سلكوا الطريق الطبيعي لهذه المجالات من الدراسة والحصول على التراخيص اللازمة لمزاولة المهنة، إذ يحصل المتوجه إليهم بالفعل على مساعدة حقيقية، لكن ما أصبح ملاحظاً وشديد الانتشار هو أن إحداهن دشنت صفحة على "فيسبوك" لتقدم يوميات مع طفلها، لتبدأ لاحقاً في إلقاء النصائح باعتبارها شخصاً ذا تجربة وأصبح متابعوها بالآلاف، ليتغير شكل الصفحة إلى مدربة وخبيرة في التربية وتبدأ في تقديم استشارات مدفوعة للناس.
وهناك آخر قرر أن يقدم بعض المنشورات عن أسس التعامل بين الأزواج وبناء علاقة زوجية سعيدة ليتحول لاحقاً إلى خبير الإرشاد الأسري والزواجي، والأمثلة على ذلك كثيرة في المجالات كافة.
جزء آخر من الظاهرة يتمثل في إلقاء اللوم الدائم على الناس، ففي نظر خبراء تطوير الذات لا يوجد ما يسمى بالشخص العادي، وإنما لا بد من أن تسعى إلى تطوير نفسك وتحصل على دورات تدريبية وتكسب مزيداً من الأموال، ولا تكن شخصاً تقليدياً مثل السواد الأعظم من الناس، ولا بد من أن يكون بيتك الأفضل وحياتك الزوجية مثالية وأطفالك رائعين.
تكرار مثل هذه الرسائل والإصرار عليها والتعرض لها بشكل يومي على وسائل التواصل الاجتماعي وعبر شاشات التلفاز التي أصبح كثير من هؤلاء الـ"coaches" ضيوفاً دائمين عليها، أصبح أحد وسائل الضغط النفسي على كثير من الناس، وبات له مردود عكسي يتمثل في حال من عدم الرضا بالموجود والمتاح واللهاث الدائم نحو الكمال والمثالية التي لا وجود لها، فمن المفترض أن يسعي الخبراء والمدربون في أي مكان إلى تحسين حياة الناس وإمدادهم بالمعلومات والخبرات التي تنعكس عليهم بالإيجاب، لكن الواقع الحالي يؤكد أنه كثيراً ما يحدث العكس.
تقول صفاء (37 سنة)، والتي تعمل في أحد البنوك، "لفترة من الفترات كنت متابعة دائمة لكثير من هذه الصفحات، وبالفعل توجهت سابقاً للحصول على مشورة من أحد هؤلاء المدربين في مجال تطوير الذات، ولم تكن التجربة مفيدة على الإطلاق، لأنني شعرت وكأنها تقرأ شعارات من كتب التنمية البشرية ولا تقدم حلولاً، بل على العكس كنت أشعر بأنني أدفع أموالاً كثيرة وأخسر وقتي وطاقتي في مقابل سماع بديهيات وليس حلولاً منطقية مرتبة".
وتضيف، "في المقابل كانت لي تجربة رائعة مع متخصصة في العلاقات الزوجية، فذهبت إليها مع زوجي ونجحت بالفعل في مساعدتنا على تخطي المشكلات التي كنا نعانيها، والنظر بمفهوم مختلف لكثير من مواضع الخلاف، وكانت متخصصة بالفعل في علم النفس وحاصلة على الدكتوراه ولها مركز معروف وليست من نجوم الـ ’سوشيال ميديا‘ والفارق كان كبيراً في منهجية التعامل وطريقة تقديم الحلول".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مصطفي عبد الله (37 سنة)، يعمل في مجال الدعاية والإعلان، يقول "لفترة طويلة كنت حريصاً على متابعة أكثر من ’كوتش‘ في مجال دعم المسار المهني وتطوير الذات بشكل عام، ولا أنكر أن الأمر أصبح يسبب لي كثيراً من الإحباط، فأنا دائماً بنظرهم مقصر، وكأنه لو امتلك أحدهم جهاز كمبيوتر واتصالاً بالإنترنت فيمكنه أن يكون من عظماء العالم، فيحصل على دورات تدريبية ويجنى أموالاً طائلة من العمل ساعات إضافية مع أشخاص في آخر العالم، ولا أحد يخبرك بالكيفية أو بخطوات محددة تتبعها، ولكن في النهاية أنت مقصر وفاشل وغير مستغل للفرص".
ويضيف، "نقطة أخرى يركز عليها هؤلاء المدربون وأراها شديدة الخطر، وهي ترويج قاعدة النجاح السريع، وهذا ظاهر جداً في الأجيال الجديدة، فالكل يرغب في أن يكون له مشروعه الخاص ولا يعمل لدى أحد أو في إطار مؤسسي، وهذا في ظاهره ليس مشكلة، ولكن حتى يحدث هذا فلا بد من أن يبدأ الشباب بالعمل في مؤسسة لاكتساب بعض الخبرة في المجال الذي يرغبونه ومن بعدها يمكنهم الانطلاق في عالم المال والعمل الحر، وقد استعضت أخيراً عن متابعة هؤلاء المدربين بقراءة قصص نجاح حقيقية لأشخاص حقيقيين، وهي كثيرة ومفيدة للغاية لأنها تجارب من أرض الواقع".
المتخصص والمدعي
ربما يكون جزء من الأزمة أن عامة الناس لا يستطيعون التفريق بين المتخصص والمدعي في هذا المجال، بخاصة لو أرفق اسمه ببعض السطور البراقة من دبلومات أو دراسات حصل عليها من جهات غير معتمدة بالأساس، ومع وجود أعداد كبيرة من المتابعين على الـ "سوشيال ميديا" مما يوحي بقيمة وأهمية المضمون المقدم، وفي المقابل أصبحت إعلانات تنتشر من جهات غير معروفة للحصول على دبلومات في الإرشاد النفسي والتأهيل للـ "coaches".
ويقول استشاري الصحة النفسية وليد هندي إن "هناك فارقاً بين الطبيب النفسي المتخرج في كلية الطب والمنوط به علاج الاضطرابات النفسية، والمعالج النفسي الحاصل على مؤهل في علم النفس ولاحقاً على دورات تدريبية معتمدة ومؤهلة للعمل في مجال الإرشاد النفسي بالمراكز المتخصصة، وبين هذا المفهوم الأخير المنتشر حديثاً والذي يطلق عليه ’كوتش‘ فإن العلاقة بين طالب الخدمة ومقدمها لا بد من أن تكون مؤسسية حماية للمريض، فالطبيب يعمل في مستشفى أو عيادة ولديه تراخيص من جهات معتمدة مثل وزارة الصحة ونقابة الأطباء، وهي جهات يمكن اللجوء إليها في حال وقع ضرر على المريض".
ويضيف، "هذه الظاهرة وانتشار كل هذا الكم من مقدمي النصائح والإرشاد غير المتخصصين أصبح في غاية الخطر، لأن كثيراً منهم يعتمد على وسائل للجذب وتكرار الرسالة ومحفزات للناس بالحصول على الأفضل في كل شيء، وتكرار التعرض لهذا المضمون بهذه الكثافة يشكل ضغطاً كبيراً وقد يؤدي إلى الدخول في أمراض نفسية ناتجة من الإحباط الدائم نتيجة عدم الوصول إلى شكل الحياة المثالية التي يروج لها".
وإلى جانب التنمية البشرية وتطوير الذات نجد أن من أكثر المجالات التي تلقى رواجاً في ما يتعلق بالـ "كوتشينغ" العلاقات والأطفال، فهناك عدد ضخم من خبراء التربية وتنمية المهارات وتعديل السلوك والتربية الإيجابية، وكل هذه المصطلحات التي أصبحت جزءاً رئيساً من حياة الآباء والأمهات.
وبالكيفية نفسها نجد صفحات وخبراء لكيفية اختيار الشريك والتعامل معه خلال فترة الخطوبة، وحل المشكلات بين الأزواج مصحوبة بمنشورات مطولة عن أنماط الشخصية وعلامات الخطر، ليثير ذلك حالاً من الفوضى العارمة في ما يتعلق بالمصطلحات النفسية، فهذا نرجسي وهذه متطلبة وهؤلاء يعيشون في علاقات سامة، ويحدث هذا على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي من دون لقاء حقيقي بين الأطراف موضع الأزمة لتحليل شخصياتهم أو حتى التعرف عليها من الأساس.
تقول هبة الله خالد (34 سنة)، "لدي طفلان بعمر ثلاث وست سنوات، وكنت حريصة بشكل دائم على متابعة كثير من صفحات من يطلقون على أنفسهم خبراء في تنمية المهارات والتربية الإيجابية، وكل هذه المصطلحات التي دخلت حياتنا حديثاً ووجدت بعد فترة أنني أشعر بضغط شديد وأصبحت أكثر عصبية مع أطفالي لأنهم ليسوا بالصورة المثالية التي يقدمها منشئو هذه الصفحات، ووجدت أن كثيراً من النصائح التي يقدمونها لا تكون نتائجها مجدية لأن لكل طفل شخصية وطبيعة مختلفة، ولا توجد نصيحة واحدة تجدي مع جميع الأشخاص صغاراً أم كباراً".
وتضيف، "ألغيت متابعتي منذ أكثر من عام لكثير من هذه الصفحات، ووجدت أنني أصبحت أكثر هدوءاً وصبراً في التعامل مع أطفالي بعدما ابتعدت من المثالية المفرطة غير الواقعية، واتجهت إلى قراءة كتب متخصصة لخبراء حقيقيين في التربية وكانت أكثر فائدة بكثير، والمفاجأة أنه وقت بحثي عن الكتب وجدت كثيراً من أصحاب هذه الصفحات اقتحموا عالم الكتابة وأصبحت لهم كتب منشورة تحمل المضمون نفسه".
وفي هذا السياق يوضح استشاري الصحة النفسية وليد هندي أن "تحليل أنماط الشخصيات لا يمكن أن يتم بهذه الصورة، فهناك مقاييس متخصصة يعتمد عليها ولا يمكن لأي متخصص أن يقوم بهذا عبر منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه الظاهرة تشير بشدة إلى هذا الكم من الألقاب والمؤهلات التي يعتمد عليها كثير من الناس في شهرتهم وتسويقهم لأعمالهم، وهي من جهات غير معتمدة وغير معترف بها، فمن الدبلومات إلى شهادات الدكتوراه الفخرية إلى دورات تدريبية لا نهاية لها، لا يستطيع غير المتخصصين اكتشاف أنها لا تؤهل الشخص، ومن هنا لا بد من أن يسعى الناس إلى البحث الجيد عن مؤهلات وكفاءة مقدم الخدمة المطلوبة، وليس النظر إلى عدد متابعيه على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي".