ملخص
كيف يقيم النقاد والإعلاميون تجربة البودكاست العربي بسلبياتها وإيجابياتها؟ وكيف يتطلعون إلى مستقبلها؟ وماذا أضافت إلى تجارب من خاضوها؟ وهل استطاعت أن تحرر البعض من قيود العمل المؤسساتي وما يفرضه عليهم من ضوابط وشروط وخطوط حمراء؟
بدأت تجربة البودكاست في الوطن العربي أواخر العقد الأول من القرن الـ 21 مع بدايات انتشار الإنترنت، وواجهت في بداياتها صعوبات تتعلق بقلة الوعي بها وقلة المحتوى المتاح، ثم ما لبثت أن نمت وزاد عدد منتجيها ومتابعيها.
ويقدم البودكاست محتوى متنوعاً يشمل مختلف المجالات، لكنه يواجه تحديات مختلفة كنقص التمويل والمنافسة بين المنتجين، فضلاً عن صعوبات تتعلق بالرقابة في بعض الدول العربية، خصوصاً تلك التي تتبع لبعض المؤسسات.
وبينما تشير التوقعات إلى نمو وتطور هذه التجربة وتحولها إلى وسيلة مهمة لنشر المعلومات والأفكار يقلل آخرون من أهميتها ودورها ويعتبرون أنها مجرد موجة سيخف وهجها ودورها مع الوقت.
فكيف يقيم النقاد والإعلاميون تجربة البودكاست بسلبياتها وإيجابياتها؟ وكيف يتطلعون إلى مستقبلها؟ وماذا أضافت إلى تجارب من خاضوها؟ وهل استطاعت أن تحرر البعض من قيود العمل المؤسساتي وما يفرضه عليهم من ضوابط وشروط وخطوط حمراء؟
تكامل مع الصحافة
رئيسة مجموعة "النهار" الإعلامية اللبنانية نايلة تويني، التي استضافت في "بودكاست مع نايلة" شخصيات من مجالات مختلفة اختصرت تجربتها في ثلاث كلمات: "غنية، ممتعة، استثنائية".
وقالت تويني، في حديثها مع "اندبندنت عربية"، "غنية بالأسماء والشخصيات الرائعة التي استضافتها وحاورتها وتعلمت منها، ممتعة بكم القصص الحقيقية والصادقة التي أخبرنا بها الضيوف بكل ما تحمله من ذكريات حلوة ومرة ونجاحات ومطبات، واستثنائية لكونها ساعدتني على صناعة تجربة خاصة وجديدة في مجال الصحافة الرقمية التي نؤمن بمواكبة جديدها في النهار، وخوض التجارب التي تقربنا من رسالة مهنتنا ومن التفاعل مع متابعينا وقصص الإنسان والسرديات البناءة".
وعن التعاطي العربي مع البودكاست، أضافت تويني أن "انتشار ثقافة البودكاست اليوم، سواء المصور أو المسموع، هو دليل على أن الوسائط الإعلامية لا تموت وإنما تتحول وتتجدد. والبودكاست هو شكل جديد تكاملي من أشكال الصحافة، يواكب العصر، لكنه يعيد الاعتبار في الوقت عينه إلى الإذاعة أو الإعلام المسموع الذي ظن كثيرون أن زمنه انتهى، وثقافة الاستماع مهمة جداً، وكذلك الاستماع من خلال البودكاست المصور".
وأوضحت "مع أن السرعة هي إيقاع يسير حياتنا اليوم، وخصوصاً في الفضاء الإلكتروني، يأتي البودكاست ليعيد الاعتبار إلى الهدوء والانتباه، بدلاً من السرعة والتشتت، وعلى رغم رواج الفيديوهات السريعة وثقافة الريلز والدقيقة والدقيقتين، يتجه المتابع اليوم إلى مشاهدة أو سماع البودكاست لمدة ساعة وأحياناً ثلاث ساعات، وهذا يشكل بالطبع ظاهرة لافتة وجديرة بالاهتمام. والبودكاست اليوم تشكل مادة عميقة أساسية ومطلوبة في مواقع التواصل الاجتماعي، والتفاعل معها جيد جداً، خصوصاً في دول عربية معينة حيث تصل نسبة المشاهدات إلى أرقام مليونية ضخمة".
ويرى كثيرون أن البودكاست أسهمت بولادة إعلاميين جدد في الوطن العربي، كونها وفرت منصة للشباب العربي للتعبير عن أفكارهم ومشاركة مواهبهم مع الجماهير وأسهمت في كسر حواجز الدخول إلى عالم الإعلام، وساعدت في تنوع أصوات الإعلاميين العرب، وفتحت المجال أمام ظهور مواهب جديدة من مختلف الخلفيات والاهتمامات.
وتؤكد تويني أن "هناك صفات أو معايير معينة يجب أن يتحلى بها مقدم البودكاست، سواء كان إعلامياً أم لا، وهي أساس في نجاح أي برنامج بودكاست منها: الهدوء والبساطة والتلقائية والثقافة واحترام الضيف وعدم مقاطعته. وثمة تجارب لأشخاص هم اليوم حاضرون بقوة في المشهد الإعلامي عبر المنصات، منهم من هو إعلامي متمرس، ومنهم من هو من خارج المهنة، إضافة إلى متخصصين في مجالات معينة يقدمون البودكاست بحسب مجالات اختصاصهم من الطب إلى الثقافة أو السياسة. ولا يخفى على أحد أن هناك تجارب لشخصيات من خارج الصحافة ولا ينتمون إلى المدرسة الصحافية التقليدية، لكنهم حققوا نجاحاً في هذا المجال".
وفي المقابل، ثمة وجهة نظر تقول إن إقبال بعض الإعلاميين على تجربة البودكاست حررهم من العمل تحت سقف مؤسسات إعلامية تحد من حريتهم وتفرض عليهم الالتزام بضوابط وخطوط حمراء معينة. وهنا تعلق تويني "لا شك أن البودكاست أوجد مساحة بديلة عن الإعلام التقليدي، وهي مساحة تخف فيها الضوابط وتتسع لحوارات خارج الصندوق. وصار بإمكان الإعلامي أن يتواصل مع جمهور ومتابعين من دون أن يكون مرتبطاً بالضرورة مع مؤسسة إعلامية معينة، لكن البودكاست ليس خيار الشباب أو الإعلاميين المستقلين حصراً، وإنما يشكل اليوم هدفاً للمؤسسات الإعلامية نفسها ضمن برمجتها. وأظن أن المؤسسات الإعلامية العريقة والمهمة هي التي تعمل اليوم على أن يكون الإعلامي أو الصحافي الذي يعمل لديها متطوراً وشاملاً ومنفتحاً على الوسائط الجديدة والمتعددة ومن ضمنها طبعاً البودكاست".
ويتميز البودكاست العربي بتنوع محتواه ليشمل مختلف المجالات التي تهم المستمعين، ومن خلال تجربتها لا تفرق تويني بين نوع وآخر بل ترى أن البودكاست الأنجح هو الذي يقدم محتوى عميقاً بأسلوب بسيط. وتردف "السرد القصصي الممتع والمشوق أساس لنجاح البودكاست سواء كان فردياً أم حوارياً، ولا أظن أن نوع البودكاست هو الذي يحدد نجاحه، وإنما المحتوى نفسه، المعلومات المفيدة، الأسلوب الشيق، الجو المريح، اسم الضيف وأهمية تجربته، كلها عوامل تحدد نجاح هذا البودكاست أو ذاك، بمعزل عما إذا كان يعالج قضايا في الفن أو السياسة أو الاقتصاد أو ريادة الأعمال وغيرها".
إيجابيات وسلبيات
شهد المغرب في السنوات الأخيرة نمواً ملحوظاً في مجال البودكاست وظهرت العديد من البودكاستات التي تقدم محتوى متنوعاً يلبي حاجات وتفضيلات مختلف شرائح المجتمع من بينها "سم وعسل" للصحافي فهد الهاشمي الذي أكد على إيجابيات وسلبيات التجربة، قائلاً "برامج البودكاست أعطت الإعلام العربي نفساً جديداً وأخرجت الصحافيين والإعلاميين من رتابة البرامج الكلاسيكية، وأتاحت المجال لوصول المعلومة أو الخبر إلى المتلقي بأريحية بعيداً من ضخامة الاستوديوهات. وفي المقابل تتناول بعض التجارب مجالات لا علاقة لها بهذا النوع من البرامج وأبعدته عن هدفه الأساسي وهو التأثير الإيجابي على الجمهور وأخذ العبر من تجارب الضيوف" .
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويوافق الهاشمي الرأي الذي يرى في البودكاست ظاهرة إعلامية هامة في الوطن العربي، أسهمت في إثراء المشهد الإعلامي العربي وفتحت المجال أمام ظهور مواهب جديدة من الشباب العربي. ويوضح "أتمنى ألا تكون مجرد موضة لأن البودكاست في العالم جزء مهم من الإعلام وتأثيره قوي في المجتمع الغربي، وأنا أحترم جهد كل إعلامي صحافي أو صانع محتوى خاض التجربة، لأنه ليس بالأمر السهل الدخول في هذا العالم والنجاح فيه، ولكن البقاء للأقوى على مستوى المحتوى وقيمته وتأثيره في الجمهور. ولا شك في أن البودكاست أضفت انتعاشة جديدة على الإعلام كما أثرت بعض التجارب إيجاباً بالجيل الناشئ، الذي أتمنى أن يبحث على ما يفيده في حياته الشخصية والمهنية، وأن يأخذ منها العبر بما يتلاءم مع ظروف حياته وما يناسبه من أفكار تجعل كل واحد فيهم فرداً مفيداً لنفسه ومجتمعه ووطنه".
إقبال غير مسبوق
الإقبال الكبير على البودكاست في الوطن العربي يؤكده ازدياد عدد منتجيه وارتفاع معدلات الاستماع، وتنوع المحتوى بين الأخبار والسياسة، والثقافة، والترفيه، والتطوير الذاتي، والرياضة، وغيرها، نظراً لسهولة الوصول إليه من خلال الهواتف الذكية أو أجهزة الكمبيوتر. إلا أن الناقد خالد ربيعة لا يجد تفسيراً للإقبال الكبير عليه إذ يقول "لا أعرف سبب الهجمة الرهيبة من كل المجالات على البودكاست، هو موضة كأي موضة في العالم العربي تظهر ثم تنتشر وتخفت مع الوقت، كما هي حال أي شيء له علاقة بالإنترنت وظهور تطبيقات جديدة ستضعفه وتحل مكانه. فالناس يميلون بطبعهم إلى الجديد، وأنا تعرفت إلى البودكاست للمرة الأولى عام 1988 وكان مع ممثل أميركي فرحت به كثيراً، وكان لقاء مفتوحاً تميز بالعفوية والحميمية ورسخ في عقلي إلى أن بدأ بالانتشار في السعودية قبل 5 سنوات. نحن العرب نأتي دائماً متأخرين ولكننا نهمون مع أي صرعة جديدة".
وعلى رغم انتقاده لتجربة البودكاست إلا أن ربيعة لا يغفل إيجابياته، ويوضح "من ناحية هو يوثق اللقاءات مع الفنانين والمثقفين والمفكرين وغيرهم، ويسهم من ناحية أخرى في عملية التنمية لمختلف المجالات لأن اللقاء مع ممثل أو مخرج مخضرم يتيح الفرصة أمام الأجيال للتعلم من تجربته. حب الجمهور للمشاهير غريزي وقبل الإنترنت كنا نترقب ظهور الفنان في لقاء إذاعي أو تلفزيوني أما اليوم فتعددت الوسائل من بينها البودكاست، وهو يحظى بالمتابعة لأنه يتيح الفرصة أمام الجمهور للتعرف إلى الفنان بعيداً من أعماله وإلى السياسي بعيداً من السياسة، عدا عن أنه يعود بالمردود المادي على المحطات والأفراد، وهو يزيد كلما زاد عدد المتابعين. ومن ميزاته الأخرى أن الشخص لا يخضع لقيود المؤسسات التي تفرض إملاءات أو رقابة على نوعية الأسئلة بل هو يحاور على سجيته وهذا جانب مهم أيضاً، ولقد حاولت بعض البرامج في القنوات الرسمية التخلص من الجانب الرسمي الصارم ولكن ضمن أجندة معينة حيث تخضع الأسئلة للإشراف والرقابة والنقاش".
حوار بلا صورة
ويبدو أن المصريين لم يتقبلوا البودكاست ولا يتوقعون استمراره، مستشهدين ببعض التطبيقات التي ظهرت بقوة ثم ما لبثت أن تراجعت، ومن بينهم الإعلامية حنان شومان التي طرحت علامات استفهام حوله وحول ودوره. وقالت "هو يفترض أن يكون إذاعياً يعتمد على الصوت، وهذا ما فهمته عند بداية ظهوره، لكنه تحول إلى برامج تلفزيونية تعرض على المنصات وتغيرت الملامح الأولية التي كنت كونتها عنه. لكن لا يمكن أن ننكر أنه أضاء على بعض التجارب الراقية التي قدمت إضافة ثقافية وفنية إلى جانب تجارب أخرى غثة، كما هي حال كل مواقع التواصل الاجتماعي، والقدرة على تقديم المحتوى الجذاب هو الذي يقرر إمكانية استمراريته أم لا".
وعلى مستوى الحريات تفرق شومان بين بودكاست الإعلام الرسمي وغير الرسمي وبين بودكاست الأفراد، وتعتبره أكثر حرية. وتضيف "صحيح أن السوشيال ميديا تحولت إلى منبر للتافهين ولكن البودكاست شرع الأبواب أمام المواهب المخفية التي لا ترتبط بمؤسسات إعلامية وهي تخطت بنجاحها نجاح مؤسسات إعلامية كبيرة". وتؤكد أن نجاح الإعلامي في التلفزيون لا يعني بالضرورة نجاحه في البودكاست لأن غالبية مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي ليسوا من مشاهدي التلفزيون. وتضيف "لم أفهم الخطوة التي أقدم عليها عمرو أديب في برنامجه الرمضاني الأخير، ولا أعرف السبب الذي جعله يسميه بودكاست لأنه يشبه كل البرامج التي اعتاد على تقديمها في رمضان. وفي المقابل لا يمكن للبودكاست أن يلغي التلفزيون لأننا اعتقدنا عندما ظهر التلفزيون أن الإذاعة ماتت بينما هي مستمرة حتى اليوم، وأنها الوسيلة المفضلة عند المصريين الذين يستمعون إليها في سيارتهم بسبب شدة الازدحام على الطرقات، ولكن يمكن أن يصبح جمهوره أكبر لأن الأجيال الجديدة ليست مرتبطة بالتلفزيون ولا تلجأ إليه كوسيلة للمعرفة والترفيه".
أما الإعلامية ماجدة موريس، فترى في البودكاست صيغة جديدة للإذاعة أضاف العرب الصورة إليها مع أنه في العالم حوار بلا صورة. وتعقب "للصورة جاذبية لا تقاوم وأصبحنا نشاهد البودكاست وكأنه برنامج، وفي تقديري نحن في حاجة الآن للعودة إلى زمن الصوت لأهميته في موضوعات كثيرة لا يحتاج فيها الحوار إلى صورة".
الانتشار الواسع للهواتف الذكية أدى إلى زيادة استخدام الإنترنت وتسهيل الوصول إلى محتوى البودكاست رغبة في التعلم والترفيه. ويعرف الإعلامي جمال فياض البودكاست بـ"أنه حوار يجمع بين مذيع وضيف فهمه البعض بشكل صحيح واعتقد آخرون أنها مقابلة عادية، ولكنه جلسة فضفضة يتحدث فيها الضيف عن أشياء تخصه وتخص غيره ويعبر عن آرائه وأفكاره، وهو ليس تطوراً إعلامياً بقدر ما هو تغيير في الأسلوب. وكل المقابلات الإذاعية خلال 20 سنة الماضية كانت عبارة عن بودكاست تتخللها أغانٍ، والفرق الوحيد أن الأغاني لم تعد موجودة اليوم وهو ليس اختراعاً جديداً إلا بالاسم يفترض أن يبث على منصة بودكاست، لكن البعض ينشره على مواقع التواصل الاجتماعي".
وبين سلبيات البودكاست وإيجابياته ثمة من يحذر من المعلومات المضللة وغير الدقيقة كونها لا تخضع لمعايير صارمة للتحقق من صحة المعلومات والموضوعية، لكن فياض لا يرى من حيث المبدأ أي سلبيات فيه "هو مجرد حوار وفضفضة يروي فضول بعض المتابعين، ولكن يمكن أن يستخدمه البعض لترسيخ أفكار معينة من خلال الترويج لمبدأ معين معارض أو مؤيد أو كنوع من الدعاية لمواقف سياسية معينة". ويشير إلى أن البودكاست الفني هو الأكثر نجاحاً لأن معظم متابعي البودكاست هم من هواة الفن والفنانين والمشاهير ويعملون على نشر أخبارهم على وسائل التواصل الاجتماعي، أما البودكاست السياسي فلم يحقق إنجازات للأفكار التي تطرح عبره، ولذلك هو لا يعتبر قيمة مضافة لمن يرغب بالترويج لمبدأ أو حزب أو تيار أو فئة أو حركة سياسية معينة".