Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الكاتب السوري فؤاد حميرة يرحل في منفاه المصري

صاحب "غزلان في غابة الذئاب" حقق منعطفاً في الدراما التلفزيونية العربية

الكاتب السوري فؤاد حميرة (صفحة الكاتب - فيسبوك)

ملخص

رحل الكاتب السوري فؤاد حميرة، أحد رواد الدراما التلفزيونية السورية والعربية الجديدة ، في القاهرة التي لجأ إليها هرباً من الضغوط الكثيرة. أنجز حميرة عددا من المسلسلات المهمة التي تركت أثراً عميقاً في عالم الدراما العربية.

حتى يوم أمس كان من الصعب تجاهل اسم فؤاد حميرة (1965- 2024) عند ذكر أبرز كتاب الدراما التلفزيونية السورية، فالسيناريست الذي أحدث رجة قوية في عالم التأليف للتلفزيون، كان بدأ حياته مخرجاً ومؤلفاً وممثلاً في عروض المسرح الجامعي.

وقتذاك خاض ابن مدينة اللاذقية تحديات من نوع مختلف بعدما دخل كلية الصحافة في جامعة دمشق، وأصبح المسرح مقرراً أساسياً في حياته إلى جانب مقررات فنون التحرير والإخراج الصحافي، مما جعل من حميرة اسماً ثابتاً في عروض مسارح الجامعة والشبيبة والعمال، لكن هذا المختبر المفتوح في مسارح الهواة سيكون بمثابة التربة الملائمة لولادة كاتب درامي من عيار مختلف.

لم يتأخر حميرة بعدها عن دوره في زعزعة الصورة السائدة في الكتابة التلفزيونية، فحقق على التوالي نصوصاً لمسلسلات عدة، لعل أبرزها كان مسلسله "غزلان في غابة الذئاب" عام 2006 الذي أخرجته رشا شربتجي. في هذا العمل سمى حميرة الأشياء بمسمياتها، وافتتح بقوة نوعاً أطلقت عليه الصحافة الفنية وقتها "دراما العشوائيات"، وهي الدراما التي ذهبت للمرة الأولى إلى مناطق الهامش في المدن السورية، فرصدت أحزمة الفقر حول تلك المدن، وانسلت إلى عالم كاد أن يكون مجهولاً لكثيرين من عشاق الدراما البرجوازية التي اشتهرت في تصدير صورة معقمة وسياحية عن الواقع السوري، وحرصت على عدم تمرير أي لقطة أو كادر ينشر الغسيل الوسخ.

هكذا تخلص حميرة نهائياً من شاشة التسلية، ليصنع من المسلسل التلفزيوني السوري ما يشبه "ريبورتاج" ميدانياً عن صراع خفي بين رجال السلطة والمال وسكان الهامش. صراع كان صادماً حتى لمن كانوا يعيشونه، إذ شكّل "غزلان في غابة الذئاب" استعارة بليغة عن بلاد نخرتها مافيات الفساد، فتحكمت بقوت أبنائها واستعبدتهم تحت طائلة الاستزلام والعيش تحت نفوذ رجال السلطة والمال. معادلة خطرة كتبها حميرة من واقع حياته التي عاشها في غرفة كان استأجرها في منطقة الدحاديل، المنطقة العشوائية الواقعة في جنوب العاصمة السورية. من هناك عزز حميرة مهاراته الصحافية ككاتب ملتزم بقضايا الناس البسطاء الذين خرج من بين صفوفهم وخبر ظروفهم المعاشية القاسية عن قرب، فكان صوتهم الواضح في بلاد تمارس رقابة صارمة على الصحف ووسائل التعبير المختلفة.

وجد فؤاد حميرة في المسلسل التلفزيوني مساحة أكبر للتعبير من الصحافة بحكم الهامش الذي تركته السلطة مع مطلع الألفية الثالثة لمسلسلات الدراما التلفزيونية، فشرع يخط مشاهداته ويصيغها في ساعات درامية نهلت من أسلوب صفحات الحوادث في الصحف اليومية، مع حفاظها على الشرط الفني للقالب الدرامي، وتركيزها على مواجهات دامية بين شخصيات مستضعفة وأخرى للمسؤولين وأبنائهم وحراسهم. الطبقة التي تمتعت لأعوام بملكيتها للبلاد والعباد، ورسوخها كفئة فوق القانون ادعت حرية التصرف بمصير كل من يخالف رغباتها أو يقف في وجه مصالحها الشخصية.

من هنا جسّد الكاتب حسَّ الصحافي والكاتب المشاغب في صراع غابة تتواجه فيها غزلان الطبقات المُعدمة مع ذئاب في سيارات "مفيّمة" مموهة بالسواد، خالصاً إلى توظيف الساعة التلفزيونية للتنقيب في المسكوت عنه ونبش أرشيف دموي عاد إلى جذوره في مسلسله "الحصرم الشامي" الذي أخرج سيف سبيعي جزءين منه بين عامي 2007 و2008.

"حوادث دمشق اليومية"

كان فؤاد حميرة يقدم للمرة الأولى تاريخ دمشق متكئاً على كتاب "حوادث دمشق اليومية" للبديري حلاق، فابتعد بقوة من كل ما صدرته مسلسلات الحارة الشامية كمكان تسوده قيم الأبوة والطهرانية والتقية إلى مسرح التناقضات التاريخية في عهد الاحتلال العثماني لسوريا.

تكرس بعدها اسم حميرة في عالم التأليف الدرامي، وكان لا يترك فرصة لإثارة الجدل والسجال، سواء في عمله على نصوص جديدة، أو حتى عبر مداخلاته التلفزيونية وردوده المكتوبة على منتقديه في الصحافة الرسمية، إلى أن حقق أعمالاً أكثر حفراً في البنية الاجتماعية القائمة، وكان أبرز تلك الأعمال مسلسله "رجال تحت الطربوش"، وفي هذا المسلسل شرّح حميرة واقعاً ذكورياً غارقاً في أقنعة النفاق والتدليس، وقدم صورة واقعية لمكابدة نساء سوريات مثقفات وعاملات في ظل سيطرة الزوج والأب والأخ على حياتهن، ليعود بعدها في مسلسل "شتاء ساخن" لمخرجه فراس دهني إلى بيئة العشوائيات السورية، لكن هذه المرة من باب الخيانات الزوجية وسِفاح القربى، فابتعد من الهم الاجتماعي لاحقاً بمسطرة السوق، وما تمليها من مواصفات لرواج العمل التلفزيوني وتوزيعه على المحطات الفضائية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إلا أن حميرة على رغم متطلبات سوق العرض التلفزيوني الجديدة ظل مخلصاً لهاجسه الأساسي في جعل المسلسل أداة ضاربة في فضح لوبيات الفساد وتحالفاته المضمرة منها والمعلنة. فكتب أعمالاً عدة كان من بينها "ممرات ضيقة" و"الهيبة الرد"، إضافة إلى تأليفه مسلسلاً تاريخياً عن "الإمام الشافعي" بالاسم نفسه، وإشرافه على كثير من ورش كتابة السيناريو كان منها مسلسل "أيام السراب"، وصولاً إلى استعارة خطوط واسعة من نص مسلسله "حياة مالحة" الذي تحول إلى مادة للسجال بينه والشركة المنتجة (كلاكيت) التي قدمته عام 2022 تحت عنوان "كسر عضم" وأخرجته رشا شربتجي، وفي هذا العمل تجلى أسلوب الكاتب وطريقته في صياغة دراما مشوقة وحارة عن صراع داخل أجنحة من السلطة.

عام 2013 غادر فؤاد حميرة موطنه بعد تعرضه للاعتقال كمعارض للسلطة عقب اندلاع الأحداث الدامية في مارس (آذار) 2011، وتنقل بين باريس وإسطنبول والقاهرة خلال الأعوام الـ10 الأخيرة، إلى أن وافته المنية أمس الجمعة إثر نوبة قلبية حادة في منفاه الاختياري في مدينة الإسكندرية عن عمر ناهز 59 سنة، وكان الكاتب السوري كتب على حسابه الشخصي في "فيسبوك" قبل ساعات من رحيله متنبئاً بموته "نعم. الموت حلو يا ولاد". عبارة كانت بمثابة تلويحة وداع للرجل الذي خاض صراعاً سياسياً مع السلطة في بلاده، وأسهم في تنظيم مؤتمرات للمعارضة السورية في المنفى، لكنه خرج من الائتلاف السوري المعارض ودانه، مسجلاً ملاحظاته النقدية على أدائه السياسي.

كثير من المثقفين والفنانين نعوا الكاتب الراحل، فكتبت المخرجة رشا شربتجي على صفحتها في "فيسبوك"، "شراكتي مع فؤاد حميرة لم تكُن عابرة، فعندما قرأت ’غزلان في غابة الذئاب‘ تشجعنا معاً أن نقدم هذا العمل، فكان تحدياً لنا نحن الاثنين، وفعلاً كان نقلة نوعية في حياتنا المهنية، ونجح نجاحاً كبيراً (...) عزائي لنا وللوسط الفني بفقدان السيناريست فؤاد حميرة الذي قدم أعمالاً مهمة وخالدة في الدراما السورية". فيما كتبت الممثلة أمل عرفة التي قامت بدور البطولة في مسلسله "غزلان في غابة الذئاب"، "عملت معك دوراً من أجمل أدواري، وكنتَ نِعم الصديق والشريك والكاتب المبدع. لك رحمة الله الواسعة في ديار الحق. عزائي لأصدقائك وعائلتك".          

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة