Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

الايطالي إرّي دو لوكا يفسر الحياة بلعبة الـ "ميكادو"

روايته الجديدة حوار وجودي مثير بين عجوز ومراهقة

الروائي الإيطالي إري دو لوكا (دار غاليمار)

ملخص

تقوم لعبة الـ "ميكادو" على رمي مجموعة من العيدان ومحاولة تحرير كل واحد منها، من دون تحريك العيدان الأخرى. في رواية الكاتب الإيطالي إرّي دو لوكا، "قواعد الميكادو"، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "غاليمار"، لا يبدي البطل شغفاً ومهارة في ممارسة هذه اللعبة فحسب، بل يرى أيضاً في قواعدها سبيلاً لتفسير الحياة. من هنا عنوانها.

ليس بطل رواية الكاتب الإيطالي إرّي دو لوكا، "قواعد الميكادو"، طفلاً أو مراهقاً، بل هو ساعاتيّ عجوز اعتاد التخييم بمفرده في أحضان الطبيعة، صيفاً وشتاءً، والعيش بتقشف. هل لأنه يمقت جلبة البشر؟ أم لأنه يبحث عن شيء لا أمل في بلوغه إلا في المرتفعات الشاهقة والمقفرة التي يعشق التخييم في أرجائها؟ الصبر، الذي يشكّل قاعدة رئيسية للعبة الـ "ميكادو"، هو أيضاً مفتاح هذه الرواية التي لا ينقشع غموضها إلا في صفحاتها الأخيرة. لذلك، وكي لا نفسد أيضاً متعة قراءتها، سنُهمِل هذا السؤال ونبدأ من البداية، وتحديداً من تلك الليلة القدرية التي تباغت فيها فتاة غريبة الملامح هذا العجوز بدخولها فجأةً، ومن دون سابق إنذار، إلى خيمته التي نصبها في أعالي الجبال التي تفصل وطنه إيطاليا عن سلوفينيا.

عند الوهلة الأولى، يظن العجوز أن ساعته الأخيرة قد حلّت. لكن بسرعة يعي أن هذه الفتاة ليست "قابض الأرواح"، عزرائيل، بل مراهقة غجرية في سن الخامسة عشرة هربت من والدها الذي يريد قتلها لأنها رفضت زواجاً قسرياً على الجانب الآخر من الحدود. لقاء لا يلبث أن يفضي إلى علاقة فريدة من نوعها بين هذين الكائنين المختلفين، قوامها حوارات لا تنتهي حول البشر والحياة، وتبادُل مثير في الرؤى والمعارف.

لأنها غجرية، تؤمن هذه المراهقة بالقدر والعلامات، وتتقن قراءة خطوط الكفّ، وتعرف كيف تدرّب دبّاً على القيام بحركات بهلوانية، وكيف تجعل من غراب صديقاً وفياً، وكيف تدافع عن نفسها من الرجال عند الضرورة، أي دائماً. ولهذا السبب، ستتعلق بهذا العجوز الذي يوحي لها فوراً بالأمان، ويخفيها عن أنظار شرطة الحدود ووالدها، ثم يساعدها على بدء حياة جديدة، من دون أن يطلب منها أي مقابل.

ولأنه ساعاتيّ بماضٍ معتم يلفّه الغموض، يشعر هذا العجوز منذ فترة طويلة بأنه مجرد ترس في آلة الكون، ويفسّر هذا الكون وفقاً لقواعد لعبة الـ "ميكادو" التي يمارسها بمفرده كل يوم، كما لو أنها وسيلة لرؤية ترتيب أو نظامٍ ما في السديم الذي يحيط بنا، إضافة إلى إشرافه من بعيد على "مؤسسة ميكادو" الخيرية التي أنشأها بغية منح فرصة ثانية لأولئك الذين فقدوا كل شيء. لكن لعبة الـ "ميكادو" لم تكن دائماً مصدر متعة وسعادة له. ففي سن المراهقة، وإثر تلبيته دعوة صديق إلى منزله على شاطئ البحر، يقع في غرام فتاة. ولإغرائها، يتظاهر بالرعونة في لعبة الـ "ميكادو" ويتركها تفوز عليه مراراً، قبل أن تكتشف ذلك فيفقد صداقتها. لكن بعد سنوات طويلة، يلتقي بها مجدداً، ويظن أن القدر هو الذي شاء أن يجمعهما من جديد، فيتعلّق بها ويساعدها في حياتها الصعبة، ليكتشف لاحقاً أن لقاءهما لم يكن أبداً مصادفة سعيدة، بل خطة مدبّرة غايتها التجسس على نشاطه المشبوه بعد الحرب.

الغجرية والجبال

مع الفتاة الغجرية، يمضي هذا العجوز فترة في أعالي الجبال يعلّمها خلالها لعبة الـ "ميكادو" ويتحاور معها في كل شيء، قبل أن ينزل بها إلى شاطئ البحر الذي لم تره أبداً، ويتنقل معها من مكان إلى آخر. لكن ما أن نستقر بشكلٍ مريح داخل قصتهما، مستمتعين بمغامراتهما وحواراتهما الوجودية، حتى يقذف دو لوكا فجأةً بقطع لعبته في اتجاه آخر كلياً، فتقفز الرواية إلى الأمام داخل الزمن، وتصبح ذات طابع رسائلي ، قبل أن تحطّ بنا داخل دفتر غني بالأسرار تنبثق منه خاتمة مدهشة بقدر ما هي مبلبلة، غايتها ربط جميع أجزاء الرواية وكشف معانيها المختلفة.

"قواعد الميكادو" ليست إذاً مجرّد قصة بسيطة، بريئة، تنكشف فيها رقّة كائنين مستوحدين. ولهذا السبب، نشعر سريعاً بالحاجة إلى إبطاء قراءتنا لنصها المكثّف في صفحاته القليلة (نحو 160 صفحة)، وأحياناً إلى العودة إلى الوراء، للإمساك بفحوى الحوارات بين بطليها اللذين تبدد حكمة بليغة لدى كل منهما ذلك الفارق الكبير في السن والتجربة بينهما. فكل كلمة ينطقان بها تسيّر معاني عميقة متعددة، وكل جملة نقرأها فيها هي عبارة عن درب يقود إلى الذات والآخر على حد السواء. وداخلها، يدعونا صاحبها إلى "لعبة هادئة، صبورة وبصيرة، يمكن لأقل حركة غير محسوسة أن تغيّر مسارها".

ولم يبالغ أحد النقاد بملاحظته أن دو لوكا يستكشف في هذه الرواية "المحرّكات المعقّدة لإنسانيتنا المكوّنة من اختلاجات قلب ومخاوف بدائية وعقلانية محبَطة، راسماً بدقة صورة واقعية لرجال ونساء مرميين على هذه الأرض مثل عيدان لعبة "ميكادو" تحرّكها آلية مصادفات أو يد خفية لا تعرف الرجفة ولا الشفقة". ملاحظة تستمد صوابها من حقيقة أن لقاء بطليّ هذه الرواية، على رغم تشكيله منعطفاً في حياة كل منهما، ودفعه إياهما إلى اتّخاذ قرارات حرّة والالتزام بها، يتضمن في طياته فشل طموح كل منهما في اختيار قدره.

اقرأ المزيد

باختصار، رواية مسارّية وجودية تشكّل في موضوعاتها خير امتداد لأعمال صاحبها السابقة، إذ يحضر فيها اهتمامه المعتاد بالمنبوذين، وبالحوار بين الأجيال، ومقابلته الثابتة آلة النظام الاجتماعي الجهنمية بالمشاعر البشرية، وعنف العالم بالحكمة، وأيضاً قناعته بإمكانية أن يفضي لقاء حقيقي بين شخصين إلى بداية تغيير جوهري في حياة كل منهما، خصوصاً حين يتحكّم الكرم بأفعالهما. تحضر أيضاً تلك الكتابة التي ينتفي فيها أي تفصيل غير ضروري، وتذهب نحو الجوهري من دون التفاف أو مناورة بلاغية. كتابة تقوم على جُمَل قصيرة، موزونة، تتألف من كلمات معدودة، وتتطلب من القارئ استخلاص نسغها وفكّ رسائلها الكثيرة الموجّهة إليه.

لكن بخلاف أعمال دو لوكا السابقة التي تجعل منه أحد ألمع كتّاب زمننا، يمكننا تسجيل تحفّظين على هذه الرواية. الأول يتعلق برمزية لعبة الـ "ميكادو" التي لا ينجح الكاتب دائماً في إقناعنا بقدرتها على إنارة مختلف جوانب الحياة، فتتسّم محاولاته أحياناً بالالتباس. والتحفّظ الثاني يتعلق بالتطور المفاجئ في الجزء الثاني من الرواية الذي يبدو متعمَّداً وغير محتمل. وإذ نلاحظ أيضاً تراجعاً طفيفاً في الألق الشعري الذي اعتدناه في لغته، لكن روايته تبقى ممتعة ومهمة سواء بطبيعة العلاقة التي يتخيّلها بين بطليها، أو بطريقة تشييده إياها على صورة لعبة الـ "ميكادو" التي تمنحها عنوانها، أو بقدرته على تغيير أشكالها الكتابية مع تقدّم سرديتها.

المزيد من ثقافة