ملخص
عدم تمكن السوريين من الاصطياف ليس مقتصراً على سكان قرى الحرب في ريف دمشق، فالأمر يبدو أكثر اتساعاً وشمولية بمراحل كلما تم التوسع بسؤال.
مع كل بداية لعطلة موسم الصيف في سوريا تتجدد أحلام سكان البلد بزيارة شواطئ البحر وقضاء أوقات هناك كما كانت الحال المعتادة قبل الحرب، لكن تلك الشواطئ خضعت بمجملها أو في الأقل غالبيتها للخصخصة المعلنة أو غير المعلنة وسيطرة رؤوس الأموال الناشئة خلال الحرب في الأعوام الماضية حتى بات سعر الليلة الشاطئية الواحدة يصل إلى أضعاف راتب الموظف.
ما عادت شواطئ البلد للفقراء
يقول السوريون منذ سنين طوال إن البحر ما عاد للفقراء في بلد بات يعتمد على مداراة أثريائه ومن ثم القضاء على أبسط رفاهيات فقرائه، في موطن يمتد الشاطئ فيه من جنوب إسكندرونة في تركيا إلى شمال لبنان ضمن ساحل سوري كبير هو من بين الأجمل في حوض المتوسط من حيث السباحة وتمازج خطوط الجبال مع شواطئه، وما بينهما كم أنهار وتضاريس ومشاهد خلابة.
وبالحديث عن السكان الأساسيين لهذا الشريط الساحلي أي جواره القروي اللصيق فهم مجموع النظام البشري المؤيد من الفقراء الذين حتى هم أنفسهم بات يتعذر على معظمهم حجز ليلة على البحر وصار الاصطياف لديهم حلماً، علماً أن هؤلاء السكان الحالمين بالاصطياف قدم مئات الآلاف من بينهم الضحايا على درب الحرب الطويلة، فكيف الحال إذاً بسكان الداخل السوري الذين كانوا ينتظرون الصيف لقضاء أيام على البحر يوم كان ذلك متاحاً؟.
أجيال لم ترَ البحر يوماً
فعلياً صارت زيارة البحر حلماً وكذلك الاقتراب منه. ويكاد يكون جرى حصر الجيد منه للاصطياف بالأثرياء فتم حرمان أجيال بأكملها من زيارته، أجيال كادت تنهي عقدها الثاني من العمر ولم ترَ البحر مرة.
تقول أم عمر، سيدة من مدينة دوما بريف دمشق، "لدي ثلاثة أولاد، تبلغ أعمارهم 16 و12 وتسع سنوات، ولم يروا البحر في حياتهم إلا عبر شاشة التلفزيون أو في الصور والمقررات المدرسية وأحاديث الناس والرفاق".
السيدة التي فقدت زوجها خلال المعارك الضارية عام 2017 قبل أن يستعيد الجيش السوري السيطرة على المنطقة أواسط 2018، إذ كانت واحدة من أعنف بؤر النزاع وأكثرها تعقيداً على صعيد الداخل السوري بأكمله، وكان الدخول إليها أو الخروج منها طوال سنوات الحرب أشبه بالمستحيل، فكان يسيطر "جيش الإسلام" بقيادة زهران علوش الذي قتل لاحقاً بغارة روسية، وكانت تسيطر كذلك "جبهة النصرة" على جيوب هناك.
كل ذلك أدى إلى عزل المنطقة على مستويات متعددة، منها التواصل الفعلي والمباشر مع الخارج في ظل إحكام الجيش النظامي طوقه حولها، ودوما ليست سوى جزء من الغوطة الشرقية لدمشق التي تضم عشرات القرى والمزارع التي تخضع للاعتبارات العسكرية ذاتها.
كل هذه الاعتبارات فرضت وقائع متجددة بينها أسلوب الحياة المتغير والمناهج الدراسية المختلفة والحصار المطبق مع منافذ سرية وخاصة (موغلة في الضيق)، إضافة إلى امتلاك من هم في الداخل لآلاف الأسرى من الطرف المقابل، على ما بيّنته الاستعراضات التي كانت تقوم بها الفصائل المعارضة عبر التجول بالأسرى في الطرقات، فضلاً عن الاستعراضات العسكرية المهيبة التي تتضمن دبابات وصواريخ متنوعة.
سوريا كلها
الحديث كان عن دوما وبدأ منها لما تمثله من عشرات قرى ريف دمشق، ومئات وآلاف قرى الداخل السوري من دير الزور شرقاً إلى حلب في الشمال ثم درعا في الجنوب، يكاد يكون واحداً فكلها مناطق حرمتها الحرب من زيارة البحر السنوية، ويوم انتهت الحرب في معظم المدن الكبرى أفاق السوريون على بلد لا يعرفونه.
استعاد الجيش السوري سيطرته على حمص فحلب ثم دير الزور والبادية ودرعا وصولاً إلى ريف دمشق، وهناك كان ختام فصل الحرب الأكبر. وعلى رغم انقضاء تلك السنين وهدوء المدن ومحاولة الناس العودة لحياتهم وطي صفحات الماضي، لكن أزمات اقتصادية ألمت بهم وحولت حياتهم جحيماً فاق جحيم الحرب وخسائرها، ومن بين تلك المصائب امتلاكهم واحداً من أكبر شواطئ المتوسط وأجملها، ولكن ذلك الشاطئ لم يعُد ملكاً لهم منذ حرب 2011.
السلاح لا البحر
رفيدة، سيدة من مدينة داريا في ريف دمشق، تسخر من حلم زيارة البحر نفسه، مبينة صراعها الموسمي مع ولديها خلال طلبهما الاصطياف ولو ليوم واحد، وهي زوجة رجل عاجز تلقى رصاصة أثرت في سيره ونطقه.
تقول، "عن أي رفاهية محتملة علينا أن نتحدث في هذا البلد وعن أي غد، وعن أي تصور سأطلع عليه ولدَيْ وهما طالبا مدرسة تربيا ونشآ في الحرب، يعرفان عن أنواع الأسلحة أكثر من دروسهما ومستقبلهما، هل سأقول لهم إن أمهم التي تعمل في مسح أدراج الأبنية عليها أن تجني ما تحصل عليه عاماً كاملاً لتتمكن من تأمين رحلة الاصطياف تلك في ظل الغلاء الفاحش الشاطئي".
ليس الأمر في عدم التمكن من زيارة البحر مقتصراً على سكان قرى الحرب في ريف دمشق، فالأمر يبدو أكثر اتساعاً وشمولية بمراحل كلما تم التوسع بسؤال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول المهندس جعفر حلوم، أحد سكان حي المزة الأشهر في دمشق، إن "الحكومة السورية لا تعرف معارضاً ومؤيداً، مضحياً ومتخاذلاً، هي تعترف فقط بمن يمتلك المال. معك أموال كثيرة تعال واصطاف وابني منتجعاً لو شئت، أما إن كنت فقيراً ولو قضيت ردحاً من عمرك تدافع عن وجودهم الشرعي، فهذا لا يعنيهم لأن الامتياز في النهاية لن يذهب إليك".
ويضيف أن "راتبي كله كمهندس لا يكفي لقضاء ليلة واحدة في شاطئ شعبي بعدما صارت الشواطئ الجميلة ملك الأثرياء، والشعبية فوق طاقة الشعبيين والفقراء والموظفين ومن بقي من المتوسطين إن بقي أحد منهم".
طبقية الشواطئ
تاريخياً اشتهر المجتمع السوري بتباينه العرقي والديني والطائفي، واستمرت الحال كذلك خلال الحرب، مما سمح بإبقاء بضعة شواطئ أجورها غير مرتفعة للغاية، وعلى رغم ذلك فهي أيضاً مكلفة إذا ما قيست على الموظف ودخله، ولكنها أيضاً صارت محسوبة بصورة مباشرة على شريحة قد لا تكون السباحة مقبولة معها من شرائح أخرى، حتى لو كانت تلك الشرائح تنتمي إليها طائفياً.
فمثلاً شاطئا رواد السياحة والنورس جنوب طرطوس صار روادهما حصراً على الفئة المجتمعية التي ترتدي خماراً كاملاً وتنزل به البحر، فيما ينزل الرجال بملابسهم أيضاً، مما يشكل إزعاجاً لرواد استغنوا عن هذين الشاطئين وإن كانوا ينتمون للفكر الشرعي نفسه.
وأبرز ذلك بدوره شواطئ متوسطة لطوائف أخرى لا تدخل إليها الملابس الشرعية الكاملة كعشتار والشراع شمال طرطوس، ولكن يصطدم الناس هناك بأن الليلة الواحدة تبدأ من 30 دولاراً وصعوداً، مما يفوق قدرة معظم الناس، وتشترك شواطئ شمال طرطوس وجنوبها الشعبية تلك بانعدام الخدمات من كهرباء وماء على مدار الساعة وغير ذلك.
البحث عن المشكلات
في كل موسم صيفي يشتعل بين وقت وآخر صراع "البوركيني"، إذ تتساءل كثير من السيدات إن كان يمكنهن النزول إلى البحر في الشاطئ الفلاني بـ"البوركيني" (لباس شرعي يتضمن الحجاب)، وكان آخر تلك الأحداث منشور عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي لسيدة سألت عن الأمر وحول إمكان نزولها إلى البحر بلباسها في أحد أبرز منتجعات مدينة اللاذقية لتنهال التعليقات التي تطلب منها اختيار شاطئ آخر يراعي الحرمة الإسلامية ولا يشجع على "الفسوق".
إحدى المعلقات قالت، "هذه المنتجعات باتت لشبه العراة وهي لا تناسب قيمنا، اقصدي شواطئ المحجبات، هناك لن تري تلك المناظر المقرفة".
فيما كتبت أخرى، "اختاري مكاناً يناسبك، لست مضطرة إلى اختيار مكان متحرر والسؤال عنه". واتفقت معظم التعليقات على سبّ المنتجعات والشواطئ بصورة متجددة.
من يهيمن؟
في حين تهيمن الشواطئ والمنتجعات الراقية المصممة خصيصاً للطبقة المترفة في كل مكان، إذ تبدأ أسعار الليلة فيها من 100 دولار وصعوداً، وصولاً إلى أرقام أعلى بكثير تناسب حجم الخدمات المرفقة من كهرباء وطعام وخلافه.
وبالبحث بين مواقع الحجز السياحية على الإنترنت خارج سوريا نجد أن معظم منتجعات شرم الشيخ والغردقة ومرسى مطروح السياحية والدولية في مصر أسعار الحجوزات فيها أقل من نظيرتها السورية، وكذلك الحال في بعض منتجعات المالديف وماليزيا.
وكأمثلة على ذلك فإن قضاء ليلة في منتجع "راديسون بلو" أو "لونا شرم" أو "سول واي مار" أو "نعمة باي" أو "دومينا" أو "دريمز فاكشن" في شرم الشيخ سيكلف فقط 50 دولاراً لليلة الواحدة، وكذلك عشرات المنتجعات الأخرى هناك، فيما المساكن البسيطة في المالديف تأتي بمتوسط 75 دولاراً، بينما حجز ليلة في أحد المنتجعات الطرطوسية الشهيرة يتجاوز 200 دولار وصعوداً، مع العلم أنه لا يمكن إطلاقاً مقارنته برفاهية وخدمات المنتجعات حول العالم.
زيارة وحيدة وأخيرة
يغص في قلب أهل الساحل عدم تمكنهم من زيارة أي شاطئ يريدونه، فيعمدون أحياناً إلى "الدخولية" أي دخول الشاطئ واستئجار طاولة أو خيمة قصب لساعات معدودة من دون استئجار شاليه، وكذلك فعلت أخيراً عائلة المحامي علي محمد، فاستأجروا طاولة مع ثمانية كراسي بـ 100 ألف ليرة سورية (سبعة دولارات).
ويقول، "دفعنا 100 ألف لنرى البحر الذي ورثه أهلنا مجاناً أباً عن جد منذ أيام الفينيقيين قبل آلاف السنين إلى أن جاءت حكومات متعاقبة مريضة خصخصته وحرمتنا منه".
ويتابع أن "100 ألف إيجار طاولة و200 ألف تسال، في النهاية بضع ساعات في مكان يبعد من منزلي 10 دقائق كلفتنا (20 دولاراً) راتب موظف، وهذه الرحلة الأولى والأخيرة للبحر هذا الموسم، إذ إننا منذ أعوام نكتفي برحلة سنوية واحدة".