ملخص
الإسلاميون وموجات الهجرة واللجوء وأخيراً حرب غزة أمور تصاعدت وتراكمت على خلفية إرث من الأفكار القومية التي دأبت على الوجود لو على استحياء في المشهد السياسي الأوروبي طوال عقود.
كم مذهل من القلق العارم بين مسلمي أوروبا من فوز اليمين المتطرف جرى تداوله منذ اللحظات الأولى لإعلان نتائج الانتخابات الأوروبية، في المقابل ثمة من دعم من كل قلبه ذلك الفوز.
الحليف غير المتوقع يمارس تشجيعه خلف الأبواب المغلقة ويؤيد بدون مجاهرة، ويتمني المزيد من الهيمنة والسيطرة لأقصى اليمين على حساب اليسار من أقصاه إلى وسطه. الحليف الساكن الخافت عربي يستحوذ مصريون فيه موقع الصدارة، على الأقل من حيث التدوين العنكبوتي.
تشجيع انتقامي
بعضهم يقول إنه تشجيع انتقامي، والآخر لا يعيره اهتماماً معتبراً إياه خليطاً من "فشة الخلق" ونوعاً من الشماتة من منطلق "طباخ السم يذقه". الغريب أن قطاعاً ثالثاً ضمن الحليف غير التقليدي يرى في فوز اليمين المتطرف علقة ساخنة ومستحقة لتيارات الإسلام السياسي.
الإسلاميون وموجات الهجرة واللجوء وأخيراً حرب غزة المتفجرة من رحم العملية التي قامت بها حركة "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أمور تصاعدت وتراكمت على خلفية إرث من الأفكار القومية التي دأبت على الوجود لو على استحياء في المشهد السياسي الأوروبي طوال عقود.
ما استجد هو درجات التأييد المتزايدة للأفكار والمعتقدات الشعبوية في دول أوروبية عدة، وهي الأفكار المرتكزة على دغدغة مشاعر الخوف جراء تهديد عرقي أو ديني (ثقافي) أو كليهما على أصحاب الهوية الوطنية "الأصليين" مصدره "الآخر".
"الآخر" المنتمي إلى الجيل الثاني أو الثالث أو الرابع لمهاجرين، أو الآتي بحراً على ظهر مركب هرباً من صراع أو قتال، أو الذي وصل براً مجتازاً حفنة من الحدود ليحظى بفرصة الحياة الأفضل، أو الحاصل على صك الجنسية عبر أوراق رسمية أهلته ليكون مواطناً كامل الحقوق والواجبات، لكنه قدم من مكان غير المكان وينتمي إلى شعب غير الشعب. "الآخر" يعني التنوع، والتنوع لدى اليمين المتطرف مكروه، وحبذا لو أصبح ممنوعاً.
الممنوع لم يعد مرغوباً
الممنوع لم يعُد مرغوباً، في الأقل حين يتعلق الأمر بتوقعات شبه مؤكدة لمزيد من صعود نجم اليمين المتطرف في أوروبا وانعكاسات ذلك على الأقليات، لا سيما العرب والمسلمين، وفي القلب منهم المنتمون والمتعاطفون مع جماعات الإسلام السياسي على اختلاف أنواعها وتراوح درجات تشددها العقائدي وانغلاقها الفكري وإيمانها بفوقية دين وأتباعها على الآخرين.
آخرون قرصهم حنش الجماعات الإسلامية، أو طاولهم الضرر من صعود بعضها إلى سدة الحكم مثل مصر وتونس، أو تسبب لهم الفكر الخالط بين الدين والسياسة وطموح تحويل دول عربية هبت عليها رياح ما يسمى "الربيع العربي" في صدمة عصبية (تروما) جراء محاولات التأسيس لدولة دينية فوجئوا بأنفسهم داعمين أو مؤيدين لـ"الانحراف" الأوروبي جهة أقصى اليمين.
أقصى اليمين يتبلور حالياً، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حل الجمعية الوطنية (البرلمان ومجلس الشيوخ)، ودعا إلى انتخابات جديدة في الـ30 من يونيو (حزيران) الجاري بعدما حصد اليمين المتطرف نحو 40 في المئة من الأصوات في الانتخابات الأوروبية.
وفي ألمانيا، حل التحالف المسيحي (يمين وسط) في المرتبة الأولى ضمن الانتخابات الأوروبية، وتبعه حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي في المركز الثاني.
وفي النمسا، تصدر حزب الحرية "أف بي أو" اليميني المتطرف نتيجة الانتخابات، محققاً الفوز الأول في انتخابات وطنية.
وفي إيطاليا، تزعم حزب "إخوة إيطاليا" اليميني المتطرف الذي تتزعمه رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني نتائج الانتخابات الأوروبية بعدما حصل على نحو 27 في المئة من الأصوات.
وفي إسبانيا، تصدر اليمين المحافظ نتائج الانتخابات الأوروبية أيضاً، متقدماً على الحزب الاشتراكي بزعامة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز، والمفاجئ أن حزب "انتهى الحفل" المثير للجدل والمتطرف جداً حقق فوزاً لافتاً، إذ حصل على 4.5 في المئة من الأصوات، ليضمن بذلك ثلاثة مقاعد نيابية.
وفي هولندا، عضد الناخبون من وضع اليميني المتطرف خيرت فيلدرز الذي جاء حزبه "الحرية" اليميني المتطرف في المركز الثاني خلف ائتلاف "الديمقراطيين الاشتراكيين" و"الخضر".
وكان فيلدرز المعروف بعدائه للهجرة وانتقاداته اللاذعة للإسلام الذي حقق فوزاً كبيراً في الانتخابات العامة الهولندية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، أعلن عن تشكيل أول حكومة ائتلافية تضم وزراء يمينيين قبل أيام.
تأثير "الدومينو"
تأثير "الدومينو" الحاصد لأصوات داعمة لتيارات اليمين المتطرف مستمر في بقية دول أوروبا، إذ إن غالبية أسباب صعود اليمين معروفة أو متوقعة، فمن معدلات بطالة مرتفعة إلى تنامي وتغذية الشعور بأن الفرص القليلة المتاحة يتنافس عليها المواطنون مع الوافدين الجدد إضافة إلى من قدموا من قبل وأصبحوا مواطنين، والقلق على ضياع الهوية جراء تدفق المهاجرين واللاجئين، فضلاً عن تململ من توجيه جزء من أموال هذه الدول ودافعي الضرائب لدعم أوكرانيا، وأخيراً أتت حرب غزة بما لا يشتهي اليسار والوسط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وسط هذا المشهد الملتبس، وبينما الغالبية المطلقة ترى في حراك الجامعات الغربية، لا سيما الأوروبية والأميركية حراكاً طلابياً نابعاً من مشاعر إنسانية متضامنة مع أهل غزة الذين يدفعون دماءهم وأبناءهم وبيوتهم وأمنهم وأمانهم ثمناً لرد إسرائيل على العملية التي قررت حركة "حماس" أن تباغت بها الجميع في السابع من أكتوبر، تعتبر الحراك الطلابي الغاضب الذي انضم إليه بعض الأساتذة رد فعل طبيعياً لدعم الضعيف والمظلوم في وجه القوي الظالم.
وجهة نظر أخرى، تشير إلى ضلوع دول وجماعات وجهات ذات صلة أو علاقة وثيقة بجماعات الإسلام السياسي، لا سيما جماعة الإخوان المسلمين التي ينتشر أعضاؤها على مدى عقود في كل هذه الدول، في دعم وتشجيع جانب من هذه التظاهرات، والعمل على إبقائها مشتعلة وفي صدارة المشهد.
وسواس الإسلام السياسي
الخوف تارة والحرج أخرى من الاتهام بالمبالغة أو النعت بوسواس الإسلام السياسي القهري جعل بعضهم في مصر والمنطقة العربية يحتفظ بعلامات استفهام وتعجب عدة حول تظاهرات الجامعات لنفسه، ودوائر نقاش مغلقة تساءلت عن سر هذا الزخم الطلابي، ومنصات حوار خاصة طرحت فكرة دعم جماعة الإخوان المسلمين، ومعها دول ما زالت تحتضنها لجانب من هذه التظاهرات.
هذه الحلقات المغلقة على نفسها تتداول كتابات وأفكاراً تعضد من شكوكها، فعلى سبيل المثال دار نقاش مكثف بين أعضاء صفحة خاصة مغلقة على المشتركين فيها على "فيسبوك" موضوعه مقالة كتبها الصحافي الفلسطيني أيمن خالد تحت عنوان "تعبئة أوروبية صامتة في مواجهة الإخوان".
الكاتب، بعدما أقر بالعوامل التي يجري تداولها لتفسير صعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية، رأى أن هذا الصعود اللافت يحتاج إلى قراءات مجهرية خارجة عن السياق المألوف.
ويقول، "نحن أمام مشهدية لا تبدو مألوفة في العقل الأوروبي، فهناك وقبيل الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة تأتي قصة التظاهرات الطلابية التي حملت عنوان الحرب في غزة، وهي التظاهرات التي جاءت كامتداد لما وقع في الجامعات الأميركية قبل ذلك بشهر. وبغض النظر عن الجهات التي ساندت أو دعت إلى هذه التظاهرات، غير أن قدومها إلى الجامعات الأوروبية لم يكُن وفق التقويم الأوروبي، بقدر ما بدت على تماس من موعد الانتخابات البرلمانية الأوروبية، مما ترك أسئلة في غاية الحساسية".
نقطة فاصلة
ويضيف أن "الجديد القريب المتعلق بتظاهرات الجامعات، يذهب بعيداً جداً نحو ما يعيد التذكير بدور النخبة المثقفة في الثورة الفرنسية وأيضاً النشاط الطلابي في ألمانيا النازية خلال ثلاثينيات القرن الـ20 ونشاط الطلبة الجزائريين في الجامعات الفرنسية إبان أعوام الاستقلال، ثم الأبرز من ذلك كله أحداث ربيع 1968 في فرنسا التي تصدرها الطلبة آنذاك، ونتج منها ظهور الحركات الاجتماعية التي كان لها بالغ الأثر في حياة الفرنسيين وبذلك غيرت وجه فرنسا".
وأشار أيضاً إلى أن الحراك الطلابي الأخير في الجامعات الفرنسية جاء بمثابة صدمة للساسة، وليس لليمين فقط. ومن ثم طرح السؤال، "ماذا لو حدثت قضايا مشابهة في الشرق الأوسط أو غيره؟".
رأى أيمن خالد أن "النقطة الفاصلة في ما حدث بالجامعات الفرنسية هي نشاط حركة الإخوان المسلمين بشراكة يسارية واضحة، وضعت المعادلة السياسية في مأزق".
وأضاف أن "الإخوان الذين بنوا مؤسساتهم وإمبراطورياتهم المالية في المهجر، بات مشروعهم الخاص بهم مكشوفاً بوضوح والذي يهدفون من خلاله على المدى البعيد ليس أسلمة أوروبا كما يرى اليمين، ولكن إحداث قطيعة بين أوروبا ودولهم".
الإخوان والدولة الوطنية
استند الكاتب في وجهة نظره إلى ما يصفه بـ"عداء الإخوان لفكرة الدولة الوطنية في العالم العربي" التي يعتبرونها "المعيق الرئيس لمشروعهم الفكري والسياسي" "وهو ما يجعل جماعة الإخوان المسلمين واحدة من الحركات الشعبوية التي تحاول اختراق عمق الثقافة الأوروبية، وتتماهى في انتهازية ظاهرة مع بعض أشكال القوانين التي تبدو سقفاً يحميها".
المقالة المتداولة لا تأتي بجديد في ما يتعلق بشكوك وتساؤلات حول دور الإخوان المسلمين في تأجيج الحراك الطلابي من جهة، والعمل على صعود اليمين المتطرف بطرق غير مباشرة من أجل جني مكاسب تتعلق بفكر الجماعة، منها ما يتصل بإضعاف الدولة الوطنية العربية، أو بالإسهام في هدم أساسات الاتحاد الأوروبي من أجل تحقيق مآرب الجماعة، والجديد الذي أتت به هو المجاهرة بالشكوك وإشهار التساؤلات عبر الكتابة وطرحها للنقاش.
لكن النقاش الدائر والمتسائل حول حقيقة دور جماعات الإسلام السياسي (إن وجد)، والإخوان المسلمين في القلب منها، في تحريك التظاهرات الطلابية بالجامعات الغربية، لا سيما الأوروبية، يقابله نقاش آخر أكثر احتداماً عنوانه "الكيد السياسي" وحجته الدعم الأوروبي الذي حظي به الإخوان المسلمون على حساب خروج ملايين المصريين عام 2013 للمطالبة بإنهاء حكم المرشد وأعضاء الجماعة.
خلطة الديمقراطية والإسلام السياسي
يرى قطاع من المصريين الرافضين لجماعات الإسلام السياسي والمناهضين لتأسيس دولة دينية في مواقف كثير من الدول الأوروبية عقب التظاهرات الشعبية الجارفة لإنهاء حكم الجماعة عام 2013 ما يعكس خلطاً بين مبادئ الديمقراطية التي تقدس الصندوق ولا ترى غير نتائجه، حتى إن كانت صنيعة الترويع الديني، وبين مفاهيم جماعات الإسلام السياسي التي تجعل من الخروج عليها خروجاً على الدين وتعتبر المطالبة بإنهاء حكمها دعوة إلى هدم المعتقد.
وهناك من اعتبر الجهود الأوروبية التي عمد بعضها إلى إعادة حكم الجماعة باسم الديمقراطية والشرعية، أو رفض بيان الجيش المصري في 2013، أو اعتبار ما حدث انتكاسة للديمقراطية، أو وصف ما جرى بالانقلاب العسكري، وغيرها من جهود مستميتة لإعادة حكم الجماعة رغماً عما يصفه مصريون بـ"اختيار الغالبية"، ضغطاً على الدولة المصرية وعلى المصريين لقبول حكم جماعة إسلام سياسي رغم أنف أصحاب الشأن.
"الأيام دول"
بين هذا القطاع من المصريين من يرى في صعود اليمين المتطرف في أوروبا "عقاباً إلهياً"، أو تطبيقاً عملياً لمبدأ "الأيام دول"، أو فرصة ذهبية ليذوق الآخرون ما ذاقه المصريون في ظل "اليمين الديني المتطرف"، ولكن بتصرف.
وانصراف كثيرين عن متابعة تفاصيل الانتخابات الأوروبية، أو معرفة مزيد عن أسباب صعود اليمين المتطرف لا يعني عدم الاهتمام بـ"اليوم التالي" لهذا الصعود، فبين المصريين سواء المقيمين في دول أوروبية تشهد هذا الصعود، أو ممن يعيشون في بلدهم مصر من يستدعي مشاهد ومشاعر التصويت العقابي بالأمس القريب.
بعضهم استحضر طوابير الانتخابات الرئاسية عام 2012، تحديداً جولة الإعادة بين مرشح الإخوان وتيارات الإسلام السياسي محمد مرسي والمرشح المدني والمنتمي لنظام مبارك أحمد شفيق.
وربط كثيرون بين التصويت الانتقامي الذي كان سيد الصناديق في ذلك الوقت والتأييد الانتقامي الذي ينتاب بعضهم في ما يختص بالانتخابات الأوروبية وصعود اليمين.
ففي طوابير الانتخابات في مصر في ذلك العام، صوت بعضهم لمرسي انتقاماً من شفيق، وصوت الآخر لشفيق انتقاماً من مرسي والجماعة والإسلام السياسي.
التأييد من باب النكاية
التصويت أو التأييد نكاية في الآخر أو درءاً لخطر ثالث أو كيداً من جماعة حاضر بقوة في الانتخابات الأوروبية الحالية، وصعود اليمين المتطرف الذي يضع ضمن برامجه الانتخابية ووعوده المستقبلية تقويض شوكة المسلمين وتقليص أعداد الوافدين منهم وتحجيم مظاهر التدين بينهم، لا سيما تلك التي يعتبرونها مناقضة للثقافة الغربية أو غير متوافقة والهوية الأوروبية، يجد لدى عدد من المسلمين آذاناً مصغية، وربما نفوساً مرحبة.
هؤلاء يرون في الإسلاميين وليس المسلمين المصدر الأكبر لمناطحة قواعد الغرب الثقافية والسياسية والمعيشية التي وصل بعضها إلى حد تحذير المواطنين الأوروبيين المسلمين من المشاركة في الانتخابات لأن "الديمقراطية حرام" كما كان يفعل منتمون إلى "حزب التحرير" الإسلامي المتطرف في الدنمارك مثلاً.
كل يدق على أوتاره
أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا تدق على أوتار فقدان دولها السيطرة على حدودها، وفتح أبوابها من دون قيود على "أجانب" لا يشبهون المواطنين وينعزلون في "غيتو" ثقافة معادية للغرب الذي لجأوا إليه، ومنافسة حامية من الأجانب على فرص العمل والسكن والصحة الآخذة في التضاؤل، وحصول الوافدين "المختلفين" على أموال دافعي الضرائب، وتعريض التركيبة الديموغرافية ومن ثم الثقافية وبذلك الهوية الوطنية لأخطار التغيير الجذري ضمن ما تدق.
أما الأصوات أو القلوب أو العقول العربية التي تتمنى فوز هذه التيارات، فغالبيتها تدق على وتر عقاب اليسار الذي دعم الإسلاميين، وانتظار نهاية غير سعيدة لأنصار وأتباع ومحبي الإسلام السياسي الذين لجأوا إلى الغرب ليتمكنوا من التفرغ لمعاودة التخطيط لتأسيس دولة الخلافة في الشرق، عبر تمني "حظاً سعيداً" لليمين المتطرف.