ملخص
يتساءل الكاتب إن كان جيف بيزوس و"واشنطن بوست" مستعدين لمواجهة ولاية ثانية محتملة لدونالد ترمب الذي أظهر ازدراء واضحاً لبيزوس وصحيفته، وإذا ما كان بيزوس، المشتت انتباهه الآن بمشاريع شخصية، يظل ملتزماً مهمة الصحيفة المتمثلة في دعم النزاهة الصحافية والديمقراطية ضد ميول ترمب الاستبدادية
هل هناك صحيفة أكثر رومانسية من "واشنطن بوست"؟. فكر في روبرت ريدفورد وداستن هوفمان في دور الثنائي- المناضل [في فيلم "كل رجال الرئيس" حول فضيحة "ووترغيت" والتحقيق الصحافي الذي أنجزته صحيفة "واشنطن بوست"]، صاحبي الجهود الحثيثة اللذين أسقطا رئيساً أميركياً بتشجيع كبير من رئيس تحريرهما الذي يدخن السيجار ويلعب دوره جيسون روباردز.
أو فكّر في توم هانكس الذي قام بدور رئيس التحرير نفسه (بن برادلي) في فيلم آخر من أفلام هوليوود التي تحتفي بكفاح الصحيفة في سبيل الحقيقة [فيلم "ذا بوست"]، بدعم كامل من الناشرة كاثرين غراهام التي قامت بدورها ميريل ستريب، وقد وقفت بثبات [خلف] صحيفتها بينما كانت تستهدف ريتشارد نيكسون، وتكشف بتحدٍ عن حقائق خفية عن حرب فيتنام وسط محاولات غاضبة لإسكاتها.
إن قصصاً مثل هذه لا تتلاشى، بل على العكس، لقد تنامت الهالة التي تحيط بها على مدى نصف قرن منذ أن بدت صحيفة "واشنطن بوست" مهيمنة على عالم الصحف، ماضية في القيام بالضبط بما وُضع الصحافيون على هذا الكوكب للقيام به، وليس فقط في النسخة التي تم صقلها [من عملهم] وقدمتها هوليوود لاحقاً. إذا كانت هناك نسخة صحافية من جبل راشمور [جبل شهير يحمل وجوهاً منحوتة لأربعة رؤساء]، فسيكون بوب وودوارد وكارل بيرنشتاين أول وجهين يُنحتان في حجارته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جاء في الشعار الجذاب للصحيفة خلال الأعوام الأخيرة أن "الديمقراطية تموت في الظلام"، ووصلت مرة أخرى إلى مستويات تحريرية عالية في ظل رئاسة التحرير المشاكسة لمارتي بارون الذي احتفى به ليف شرايبر في فيلم "ضوء كاشف" Spotlight عام 2015 الذي تحدث عن حملته للكشف عن الاعتداء الجنسي المنتشر على نطاق واسع ضمن الكنيسة الكاثوليكية في أبرشية بوسطن.
مع حلول الوقت الذي جرى فيه عرض الفيلم، كان هناك مالك جديد لصحيفة "واشنطن بوست"، نظراً إلى عجز عائلة غراهام عن دعم الصحيفة خلال الاضطرابات المالية التي أصابت تقريباً جميع المؤسسات الإخبارية، إذ سُحق العالم القديم للطباعة تحت وطأة الاندفاع العاجل نحو الرقمية.
ربما كان ناشرو الأخبار في أيام زمان يتمتعون بسحر معين، لكنهم لم يتمكنوا من التنافس من الناحية المالية مع الحماسة الباردة المبنية على البيانات التي يتحلى بها أولئك الأثرياء ممن يستخدمون التكنولوجيا في العصر الحديث. كان هؤلاء هم أسياد الكون الجدد الذين كانوا يكتسحون كل ما هو أمامهم.
لكن من بينهم من كان يشعر أحياناً بالقلق إزاء هدفه الاجتماعي الذي يتجاوز تجميع الثروات على طريقة روكفلر وميديشي. وهكذا حدث أن اشترى جيف بيزوس، مالك "أمازون" الثري، صحيفة "واشنطن بوست" مقابل 250 مليون دولار عام 2013. لا يعدو المبلغ بالنسبة إليه أكثر من مصروف الجيب.
وكانت لديه طموحات كبيرة، إذ عمل مع بارون على مضاعفة عدد العاملين الصحافيين عملياً إلى أكثر من ألف محرر ومراسل. كما كانت هناك ست جوائز "بوليتزر" أخرى [للصحيفة] في ظل إدارة سالي بازبي، وهي كانت رئيسة التحرير حتى وقت قريب.
وتراكمت الخسائر، إلا أن الجميع افترضوا أن من يتمتع بعبقرية تجارية مثل بيزوس كان توقع ما يحب جمهور التكنولوجيا أن يطلق عليه "الوصول [إلى العميل أو الزبون] يأتي قبل تحقيق الإيرادات". ففي نهاية المطاف، هو كان نموذج أعمال "أمازون" الذي لم يحقق أي أرباح على الإطلاق خلال أعوامه التسعة الأولى. الى جانب ذلك، كان [ما رصده] مصروف الجيب، أليس كذلك؟.
ليس صحيحاً. فمع وصول خسائر "واشنطن بوست" السنوية إلى 77 مليون دولار (61 مليون جنيه استرليني) العام الماضي، لجأ بيزوس إلى سلاحه الخاص الذي تمثل في تعيين رئيس تنفيذي جديد هو السير ويليام لويس، رئيس التحرير المقدام السابق لصحيفة "ديلي تلغراف" (بريطانية الإيقاع للغاية) والمساعد السابق المقرب من مردوخ. هل يمكن أن تسير الأمور بصورة خاطئة؟.
حسناً، من الوارد جداً. بداية، رفض لويس باستمرار معالجة الادعاءات القائلة إنه تصرف بطريقة لا أخلاقية أثناء عمله كرجل يقوم بـ"ترتيب الأمور" لروبرت مردوخ بعد فضيحة اختراق الهواتف التي كلفت رئيسه السابق مليار جنيه استرليني وما زال المبلغ يزداد.
ثانياً، يبدو في نظر بعض زملائه الجدد أنه تجاوز الحد في التعبير عن شيء من الاستياء تجاه بازبي بسبب نشرها قصة عن هذه الأسرار المحرجة المزعومة، قبل وقت قصير من إزالتها فعلياً واستبدالها بصديق قديم لها من صحيفة "تلغراف".
أخيراً، حاول أن يقنع مراسلاً إعلامياً يحظى باحترام كبير، هو ديفيد فولكينفليك من "الإذاعة الوطنية العامة" الأميركية (أن بي أر) National Public Radio، لثنيه عن الاقتراب من تلك الأسرار المحرجة المزعومة، ثم هاجمه على أنه "ناشط وليس مراسلاً" عندما كتب عن ذلك. وكان هذا بمثابة صفعة لمردوخ، وليس لغراهام.
وكانت النتيجة حدوث بعض الاضطراب داخل صحيفة "واشنطن بوست" وتصميم في أوساط الصحافيين الأميركيين الآخرين على الاستمرار في البحث عن مزيد من الأسرار المحرجة.
لماذا يهم هذا؟. حسناً، عد بفكرك إلى رئاسة دونالد ترمب الأولى، عندما أعلن الحرب على كثير من المؤسسات الأميركية، وربما خصوصاً على ما أسمته سارة بالين "وسائل الإعلام العتيقة الساذجة". لقد كانوا [في نظر ترمب] أخباراً كاذبة، كاذبين، وأعداء للشعب. استولى ترمب على مجلسي النواب والشيوخ وكذلك المحكمة العليا. وكانت بعض وسائل الإعلام، مثل شبكة "فوكس نيوز" التابعة لمردوخ، تنظر إلى نفسها على أنها مشجعة [له]. فهل ستنحني بقايا الصحافة الأميركية للضغوط؟.
يتذكر ديفيد ريمنيك من مجلة "نيويوركر" هذه الفترة بقشعريرة قائلاً "ربما كرس ترمب قدراً من طاقته العقلية لتحطيم الصحافة، من خلال الدعاوى القضائية والتهديدات ومئات التغريدات، أكبر من أي قضية أخرى. ووصف المراسلين بـ’الفاسدين‘ و’الحثالة‘ و’بعض أسوأ البشر الذين يمكن أن تقابلهم على الإطلاق‘. وأثارت هذه الكلمات قاعدته الانتخابية، إلى درجة أنه في مسيراته، كان المراسلون يتعرضون للتوبيخ والتهديد في كثير من الأحيان".
لكن حفنة من المؤسسات الإعلامية لم تستسلم. ومن أهمها صحيفة "واشنطن بوست" التي احتفظت بقائمة من ادعاءات الرئيس الكاذبة أو المضللة [التي بلغ عددها] 30573 كذبة على مدى أربعة أعوام. ومما يُحسب له أن بيزوس ظل صامداً حتى عندما خسرت شركة "أمازون" عقداً ضخماً للحوسبة السحابية الحكومية بقيمة 10 مليارات دولار، وألقى باللوم في اتخاذ القرار على كراهية ترمب لـ"واشنطن بوست".
ولم يخفِ ترمب ازدراءه لبيزوس وصحيفة "واشنطن بوست"، إذ ندد ذات مرة بعبارات تهديدية. وقال "إن صحيفة ’واشنطن بوست‘ مملوكة كلعبة لجيف بيزوس الذي يسيطر على ’أمازون‘... إنه يستخدمها كأداة لقوة سياسية ضدي وضد الآخرين. ودعوني أخبركم: لا يمكننا أن نسمح له بالإفلات من دون عقاب بفعلته".
والآن تخيل ولاية ترمب الثانية، إذا كان هذا هو ما سنصل إليه في نوفمبر (تشرين الثاني). في الواقع، ليس علينا أن نتخيل، باعتبار أن الأمر واضح سلفاً بتفاصيل صارخة. وذكرت هذه الصحيفة هذا الأسبوع أن "تدمير الضوابط والتوازنات من شأنه أن يمنح ترمب سلطة تنفيذية مركزة وغير مسبوقة على الوكالات الفيدرالية".
وهذا يثير قلقاً كبيراً، إذ إن "مشروع 2025 هو أكثر من مجرد فكرة"، كما قال جاريد هوفمان، نائب من كاليفورنيا. وأضاف "إنها مؤامرة بائسة جارية بالفعل لتفكيك مؤسساتنا الديمقراطية وإلغاء الضوابط والتوازنات والتخلص من الفصل بين الكنيسة والدولة وفرض أجندة يمينية متطرفة تنتهك الحريات الأساسية والإرادة العامة".
هل صحيفة "واشنطن بوست" مناسبة لهذا المجيء الثاني المحتمل؟، سألتُ أنا وليونيل باربر، المحرر السابق لصحيفة "فايننشال تايمز"، هذا السؤال لبن سميث، وهو رئيس تحرير "سيمافور" Semafor وكاتب العمود السابق حول الإعلام في صحيفة "نيويورك تايمز".
وتساءل عما إذا كان بيزوس - وهو الآن [يعمل] مع شريك جديد ومبهور بهوليوود – ما زال يحتفظ بالارتباط نفسه بالمهمة الأساسية للصحيفة. وأضاف "إنه ضمن دائرة من مليارديرات الساحل الغربي الذين يبدون نوعاً ما فضوليين تجاه ترمب، وودودين حياله هذه الأيام… لا أعرف. هل هذا الرجل مستعد لجولة أخرى؟، هذه أسئلة بينه وويل لويس [الرئيس التنفيذي الجديد لواشنطن بوست]".
لذلك، على أحد المستويات، هذه قصة ذات اهتمام إنساني حول صراع الثقافات الصحافية وخطأ أو اثنين من قبل الرئيس التنفيذي الذي يُنصح بمعالجة أي أسرار محرجة مزعومة، ولو فقط لتنقية الأجواء.
لكن على مستوى آخر، لا يمكن أن يكون الأمر أكثر خطورة. كانت صحيفة "واشنطن بوست" حاضرة عندما برزت الحاجة إليها [للتعامل] مع نيكسون. إنها في حاجة إلى أن تكون موجودة هناك من أجل ولاية ترمب الثانية، إذا كان هذا ما نحن على وشك الحصول عليه.
لا ينبغي لنا أن نطرح هذا السؤال، ولكن ها نحن نفعل ذلك: هل بيزوس مستعد لخوض جولة أخرى؟.
© The Independent