ملخص
مع تعهد الحزب بوضع سقف للاقتراض السنوي لا يزيد على 4.5 مليار دولار لن تجد حكومته سبيلاً لتمويل الإنفاق العام سوى فرض الضرائب
منذ الأزمة الكارثية التي نتجت من إعلان الموازنة التكميلية لحكومة رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس عام 2022 وحزب المحافظين الحاكم يحاول استعادة ثقة الأسواق والمستثمرين الأجانب في الاقتصاد البريطاني، ومع أن حكومة تراس لم تمض سوى ستة أسابيع في السلطة فإن إعلانها تخفيضات ضريبية وسبل إنفاق أخرى من دون توفير تمويل لها أضر بثقة الأعمال والمستثمرين في الاقتصاد والحكومة لفترة طويلة.
وربما يكون برنامج حزب العمال المعارض الانتخابي استمراراً لجهود رئيس الوزراء ريشي سوناك ووزير خزانته جيريمي هانت لتجاوز آثار أزمة ليز تراس، ويعد الحزب سواء في بيانه الانتخابي أو التصريحات المتتالية لزعيمه كير ستارمر ووزيرة خزانة الظل راتشيل ريفز بتحسين المعايير الأخلاقية وانضباط السلوك في الحكومة وإدارتها. وبحسب مراجعة من "معهد الحكومة" وهو مركز أبحاث واستشارات شبه رسمي فإن تعزيز الانضباط ربما يعيد بعض الثقة إلى الأسواق، وبخاصة أن عدم الانضباط والتجاوز والاخلال بالقوانين كان من أهم ما أضر بحزب المحافظين الحاكم في الأعوام الأخيرة، لكن هل يكفي ذلك لجذب بريطانيا الاستثمارات وإغراء الأثرياء ورجال الأعمال وأصحاب الثروة الأجانب بوضع أموالهم في الاقتصاد البريطاني؟ أم أن الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر يحتاج إلى مزيد لضخ الأموال في البلاد.
الضرائب وتشجيع الاستثمار
ويعد حزب العمال بأن هدفه الأهم إذا فاز في الانتخابات وشكل الحكومة هو تشجيع النمو الاقتصادي وتراكم الثروة مما يتطلب استثمارات كبيرة في مختلف قطاعات الاقتصاد، ومع ضبط الإنفاق الحكومي الذي تعهد به الحزب في برنامجه ووضعه سقفاً للاقتراض السنوي لا يزيد على 3.5 مليار جنيه استرليني (4.5 مليار دولار) لن تجد الحكومة سبيلاً لتمويل الإنفاق العام سوى فرض الضرائب.
وإذا كان برنامج الحزب تضمن تعهداً بعدم زيادة الضريبة على الدخل أو مستقطعات التأمينات الاجتماعية أو ضريبة القيمة المضافة – باستثناء فرض ضريبة قيمة مضافة على رسوم المدارس الخاصة – فإن المصدر الآخر لزيادة حصيلة الخزانة من الضرائب هو الشركات وثروات رجال الأعمال، وبما أن رأس المال يفر من أي مكان به زيادة في الضرائب أو يقلل من هامش الأرباح فإن ذلك لا يشجع الاستثمار.
ومن مصادر تمويل الموازنة التي تضمنها البيان الانتخابي لحزب العمال سد الثغرات في نظام الإعفاء الضريبي للأثرياء المقيمين وعنوانهم الضريبي خارج البلاد، أي إن حزب العمال سيزيد العبء الضريبي على أصحاب الثروات وهم المصدر الأهم لتمويل الاستثمار إضافة إلى زيادة ضريبة الدمغة العقارية على المشترين الأجانب، علاوة على ما يتوقعه كثر من لجوء حزب العمال إذا شكل الحكومة إلى فرض مزيد من الضرائب وبخاصة على أرباح رأس المال.
وسيعدل الحزب ضريبة أرباح شركات الطاقة بهدف توفير التمويل لبرنامج تحول نحو الطاقة الخضراء، لكن مشروع الطاقة الخضراء سيكون عبر شركة حكومية وبالتالي هو استثمار حكومي وليس للقطاع الخاص بما فيه الاستثمار الأجنبي.
وكل ذلك يمكن أن يحد من تدفق الاستثمارات الأجنبية على البلاد وتمويل توسع النشاط الاقتصادي لتحقيق النمو الكبير الذي يراهن عليه حزب العمال.
الاستثمار في الدين
وسيسعى حزب العمال إذا فاز بالانتخابات وشكل الحكومة إلى التفاوض مجدداً مع الاتحاد الأوروبي على بنود اتفاق الخروج التي وقعتها حكومة بوريس جونسون مطلع هذا العقد، ويأمل الحزب في أن يسهل تعديل الاتفاق تدفق الاستثمارات على بريطانيا، إلا أن أكثر من اقتصادي ومعلق يشككون في أن يؤدي إعادة التفاوض مع أوروبا إلى تعديلات كبيرة في اتفاق (بريكست)، فزعيم الحزب كيير ستارمر وضع خطوطاً حمراء في العلاقة مع أوروبا تتضمن عدم التفكير في الانضمام مجدداً إلى السوق المشتركة أو النظام الضريبي الأوروبي، وفي المقابل لا يتوقع أن يقبل الاتحاد الأوروبي بتوفير مزايا جديدة لبريطانيا في العلاقات المالية والتجارية من دون مقابل، وبالتالي فإن فرص تحسين العلاقة مع أوروبا وإن كانت ضئيلة فإنها لا تعني بالضرورة تدفقات استثمارية إلى بريطانيا.
ومع برامج حزب العمال المعلنة وخطط الإنفاق التي تتجاوز 100 مليار جنيه استرليني (127 مليار دولار) على مدى البرلمان المقبل فإنها لن تكفي الموارد التمويلية للدولة لتلبية هذا الرقم الضخم، ولن يكون أمام الحكومة سوى الاقتراض وتلك ربما الفرصة الأكبر للاستثمار الأجنبي عبر شراء سندات الدين السيادي البريطانية.
وفي ظل نسبة العجز الكبيرة وارتفاع مستوى الدين العام يرفع المستثمرون علاوة الأخطار على السندات السيادية مما يعني زيادة نسبة العائد على السندات ويوفر ربحاً للمستثمرين فيها. وفي ظل مشكلة دين عالمي متفاقمة تجد السندات البريطانية منافسة قوية على الاستثمار الأجنبي فيها سواء من سندات الخزانة الأميركية أو بعض السندات الأوروبية مثل السندات الألمانية وغيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وذلك فضلاً عن أن سوق لندن المالية تشهد في الآونة الأخيرة خروج غالب الشركات الكبرى من مؤشرها والذهاب للتسجيل في بورصة "وول ستريت" بنيويورك أو غيرها. وعامة بصورة تاريخية يرى المستثمرون الأجانب بورصة لندن أقل جاذبية من البورصات الكبرى الأخرى فتحرك مؤشرها بطيء جداً والعائد من الاستثمار في الأسهم المسجلة غير مغر.
مخاوف التأميم
ويعد حزب العمال بإعادة النظر في القواعد واللوائح المنظمة للاستثمار والنشاط المالي وربما يكون ذلك مشجعاً للاستثمار الأجنبي الذي ينشد الاستقرار، على عكس الاضطراب الذي شهدته الأعوام الأخيرة من حكم حزب المحافظين، لكن بيان "العمال" الانتخابي يتضمن أيضاً إعادة تأميم كل شركات النقل بالسكة الحديد تقريباً ويتوقع بعض المعلقين أن يضطر الحزب وهو في السلطة إلى تأميم بعض شركات الخدمات العامة، في محاولة لتخفيف أعباء كلفة المعيشة على المواطنين فضلاً عن أن شركات الطاقة الكبرى العاملة في مجال النفط والغاز ليست مرتاحة لخطط الحزب المعلنة بتكوين شركة حكومية للاستثمار في الطاقة الخضراء، ومع ذلك تظل هناك فرصة في هذا المجال للتوريد من شركات خاصة واستثمار أجنبي لمكونات إنتاج الطاقة من الرياح والشمس وغيرهما.
وبالطبع يستغل "المحافظون" مسألة التأميم لتخويف رأس المال والمستثمرين من سياسات "العمال" إذا فازوا وأصبحوا في السلطة، لكن ممارسات "المحافظين" الأخيرة لم تكن أكثر إيجابية تجاه الاستثمار الأجنبي، إذ غلبت نزعة الوطنية المغالى فيها على قواعد السوق الحرة لتوقف حكومة "المحافظين" استثمارات أجنبية مثل الاستثمار الخليجي في الإعلام، كما حدث مع صحيفة "ديلي تلغراف" ومجلة "سبيكتاتور" وحتى في مجال الاتصالات مع صفقة "فودافون".
ومن غير الواضح إن كانت التعديلات التي يستهدفها "العمال" للقواعد والقوانين ستزيد من القيود على الاستثمار الأجنبي أم ستسهل له الوصول إلى الأصول البريطانية، لكن الأرقام التي أعلنها الحزب حتى الآن لا تشير إلى إمكانية تحقيق الحكومة كثيراً من الوعود من دون دخول استثمار أجنبي، سواء بالإقراض أو الاستثمار المباشر في المشروعات، وحتى برنامج تحول الطاقة عبر شركة حكومية عامة سيحتاج إلى مستثمرين أجانب لتتمكن الحكومة المنتظرة من تنفيذ وعودها.
ويبقى الأهم هو ما لم يرد في بيان حزب العمال ولا تصريحات مسؤوليه في الحملة الانتخابية وهو إمكانية فتح قطاعات هائلة أمام الاستثمار الأجنبي، وينظر هنا تحديداً إلى خدمة الصحة الوطنية (أن أتش أس) التي حاولت حكومات سابقة عمالية ومحافظة فتحها أمام الاستثمار الأميركي ولم تستطع.