فقد عبد اللطيف وعيه عندما رأى ولده جثةً هامدة ملقاةً على طاولة في مشرحة، مضرّجاً بدمائه ومذبوحاً من العنق. لم يكن يدري أنّ ابنه في عداد الذين لقوا مصرعهم في التّفجير.
"استغرقني التعرّف إلى الجثة بعض الوقت. كنتُ أظنّ أنّ ابني أُصيب في الحادثة ولم يمت... بهذه الطريقة. حاولتُ البقاء واقفاً على قدميّ، لكنني لم أستطع. كنتُ أرتعش من الصدمة وسرعان ما هويتُ أرضاً مُغشياً عليّ"، وفق ما أخبرني عبد اللطيف.
وأفاد الرجل أن نجله عبد الجميل (31 عاماً) كان أحد ضحايا الهجوم الإنتحاريّ الذي استهدف حفل زفاف في صالة "شار دبي" للأعراس غرب كابول وأسفر عن مقتل 63 شخصاً وإصابة 188 آخرين بجروح. وقد أعلن تنظيم "الدولة الإسلامية" مسوؤليته عن الحادثة التي تُعدّ جزءاً من سلسلة من الأحداث الصارخة التي تطاول أرجاء مختلفة من أفغانستان، وسط استمرار تصاعد وتيرة العنف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي اليوم الذي تلا تعرّفه على جثة عبد الجميل في المشرحة، اصطحب عبد اللطيف حفيده سمير البالغ من العمر ستّ سنوات لإلقاء نظرة أخيرة على أبيه. "قد يبدو هذا الأمر غريباً، لكنّ والدي تُوفي عندما كنتُ في السادسة من عمري وظلّ الناس فترةً طويلة يُخفون عنّي حقيقة ما جرى له... لم أرِد لسمير أن يعيش التجربة نفسها؛ هو يستحق أن يعرف الحقيقة. وبالطّريقة التي تجري بها الأمور في هذا البلد، أخشى أنّه سيرى المزيد من الجثث فيما يكبر"، بحسب شرح قدّمه عبد اللطيف.
في خلفية ذلك المشهد، ثمة نزاع مستمر في أفغانستان منذ عقود ولا دلائل على حلٍّ وشيك يضع حدّاً نهائياً له. وفي جولة إراقة الدّماء الأخيرة في 22 سبتمبر (أيلول) الجاري، أُفيد عن مقتل ما يزيد على 40 شخصاً، بعضهم بسبب انتحاريٍّ فجّر سترته النّاسفة إثر مداهمة القوات الأفغانية مصنع متفجرات في بلدة "موسى قلعة" في جنوب إقليم هلمند.
وفي هذا الصدد، أعلنت الإدارة العسكرية الأميركية عن سقوط 22 من مسلّحي طالبان، فيما ذكر حاكم الإقليم أنّ ستة من الضحايا أجانب. في المقابل، أصر عضو مجلس الإقليم عبد الماجد أخاند، على أنّ الحصيلة الفعليّة أعلى بكثير، مشيراً إلى أن غالبية القتلى من النّساء والأطفال الذين كانوا متواجدين في حفل زفاف. وكذلك باءت المفاوضات بين الولايات المتحدة وطالبان في قطر بالفشل واقعياً، ولم يُكتب لها النّجاح. وقد دارت بمنأى عن الحكومة الأفغانية بين فريقٍ أميركي بقيادة زلماي خليل زاد، السّفير الأفغاني- الأميركي السابق في كابول من جهة، ووفد طالباني يتخّذ من الدّوحة مقراً له ويحظى بدعم كبار القادة في باكستان من جهة اخرى.
وفي وقت سابق، تحفظ مسؤولون وسياسيون أفغان، بمن فيهم الرئيس أشرف غني ومسؤولين من دول اخرى ضمت صفوفهم شخصيات أميركية بارزة، على مسودة الاتفاق التي آلت إليها المحادثات، وحذّروا من أنها تُحقّق لطالبان مطالب كثيرة من دون مقابلٍ كاف.
في مقلب آخر من ذلك المشهد، يظهر أنّ الرئيس دونالد ترمب الذي يستميت في سبيل إعادة قواته إلى بلادها قبل الإنتخابات الأميركية العام المقبل، قد وافق على منح الضوء الأخضر للتسوية، ضارباً عرض الحائط بإعلانه في وقت سابق من الشهر الجاري تعليق المحادثات مع طالبان بسبب مقتل جندي أميركي في تفجيرٍ انتحاري. وكذلك يصح القول بأنّ هجمات التنظيم لم تتوقف طوال مدة المحادثات، لكنّ معظم الضحايا كانوا من الأفغان ولم يدخلوا على ما يبدو في حسابات الرئيس الأميركي وعملية صنع القرار عنده.
وفي 16 أغسطس (آب)، غرّد السيد ترمب على صفحته الخاصة على منصة التواصل الاجتماعي "تويتر" قائلاً "لقد أنهيتُ للتو اجتماعاً بناءً بشأن أفغانستان. نحن وعدد من الأطراف المعارضة لهذه الحرب المستعرة منذ 19 عاماً، نتطلّع للتوصل إلى اتفاق... لو أمكن!"
في سياق متصل، تؤكّد الأرقام الصادرة عن "بي بي سي" ومجموعات الرقابة الأفغانية مصرع حوالى 110 أشخاص في غضون الساعات الـ36 الماضية و112 شخصاً خلال السبعة أيام الأخيرة، ما يرفع معدل خسائر الأرواح لأعمال العنف المستمرة هذا الشهر إلى 74 شخصاً تقريباً في اليوم الواحد.
وبالعودة إلى الهجوم الذي طال زفافاً في "شار دبي" في اليوم التالي لتغريدة ترمب، تجدر الإشارة إلى إنّه كان طائفياً واستهدف منطقة ذات غالبية شيعيّة. لقد كان عبد الجميل عازفاً محترفاً في فرقة موسيقية تُحيي حفلات أعراس. لكنّ مشاركته في هذا العرس بالذات لم تكن بداعي العمل أو بصفته موسيقياً، بل بصفته أحد المدعوين.
"سمعتُ أنه كان بجانب المسرح حينما أقدم الإنتحاري على تفجير نفسه وأنّ صديقه، أحد أعضاء الفرقة الموسيقية، مات على الفور، وصديقه الآخر توفي بعد أيام. قيل لي إنّ عبد الجميل تعرّض لكسور في ساقه ولهذا صُدمت جداً عندما رأيته جثةً هامدة..."، روى عبد اللطيف بصوتٍ مخنوق. وفيما يضع رأسه بين يديه، تخونه الدموع لتأخذ مجراها على خديه ويعتذر عنها.
وتجدر الإشارة إلى أن عبد الجميل كان المعيل الرئيسي لزوجته وأطفاله الثلاثة وأهله، ويكسب حوالى 30 ألف أفغاني (أي ما يعادل 308 جنيهات إسترلينية) في الشهر، بينما لا يتقاضى والده الذي يعمل حارساً في إحدى المدارس، سوى 5 آلاف أفغاني. "الوضع غاية في الصّعوبة. علينا أن نفكر في كلّ قرش نصرفه وفي كلّ طعام يمكن أن نتحمّل كلفته، حرصاً على منح الأطفال كلّ ما نقوى عليه"، علّق عبد اللطيف.
وأضاف، "يا لها من خسارة كبيرة حلّت بنا. كنّا نحبّ ابننا جداً. الحقيقة أنّ الجميع أحبّه لكنّه قُتل على يد رجلٍ لا يعرفه. ما أصابنا يُصيب كل العائلات الأفغانية في مختلف أنحاء البلاد. نحن نخشى الآن على أطفالنا إن لم نعثر عليهم أو إذا طال غيابهم عنّا. نحن نرغب في أن نضمن لهم مستقبلاً زاهراً، لكننا قلقون جداً بشأنهم".
وعاد سمير الطفلٌ اللطيف والمهذّب، من المدرسة فيما كنتُ أتحدّث إلى جدّه. أخبرني أنّ اللغة الإنكليزية تشكّل المادة المفضلة لديه وحاول أن يُثبت لي ذلك من خلال كتابة الأحرف وبعض الجمل. قال لي إنه يريد أن يصبح طبيباً حتى يكون قادراً على تقديم "المساعدة للناس المتألمين".
وبالنّسبة إلى حركة طالبان التي قد تُشارك في حكومة مستقبلية أو ترأسها، فتعتبر نفسها داعمة للتعليم ما دام مضمونه لا يتعارض مع المعتقدات الإسلامية، وما دامت الصّفوف المدرسية تفصل بين الفتيان والفتيات والرجال والنساء من مختلف المستويات. وفي المقابل، تجدر الإشارة إلى ان تلك الحركة تسببت في مقتل عشرات الأساتذة والمعلمين بتهمة التجسس أو الترويج لأفكار وعقائد غير إسلامية خلال سنوات التمرد، وكذلك استهدفت مدارس للفتيات مُحرِقَةً مدرستين في لوغار قبل أربعة أشعر من اليوم لاستعانتهما بخدمات معلّمين ذكور. وحتى الآن، تمكّنت تلك الحركة من إقفال 62 مدرسة في لوغار و29 اخرى في تاخار و22 في قندوز. وقد بررت فعلتها باحتياجه إلى المدارس لتكون مراكز اقتراع في الانتخابات المرتقبة.
وصحيح أنّ طالبان من أشدّ المطالبين برحيل كافة "الغزاة المسلّحين" عن الأراضي الأفغانية، إلا أنها تُرحّب بالمساعدات الأجنبية وتنخرط في الديبلوماسية الدولية. لكنّ موقفها هذا لم يمنعها يوماً من استهداف مدنيين أجانب.
وفي وقتٍ سابق من الشّهر الجاري، وبعد ساعاتٍ على وضع السّيد خليل زاد مسودة الاتفاق الناتج عن محادثات الدوحة في يد الرئيس غني، انفجرت شاحنة مفخّخة على مشارف "القرية الخضراء" في ضواحي كابول، تلاها دخول رجال مسلحين المخيّم عنوةً وإطلاقهم النار عشوائياً على المقيمين فيه ومعظمهم من الأجانب. أسفرت هذه العملية عن مقتل 16 شخصاً، ستة منهم من الأجانب، وإصابة 119 آخرين بجروح.
وأثناء تبادل إطلاق النيران، سقط خمسة من المعتدين وأُخلي 400 أجنبي من المخيّم. وعلى الأثر، بادر عدد من الدول الغربية إلى سحب الموظفين التابعين له من أفعانستان.
وتعليقاً على هجوم "القرية الخضراء"، صرّح ذبيح الله مجاهد، المتحدث باسم حركة طالبان، "نحن نتفهم أنّ محادثات السلام تجري على قدمٍ وساق... لكنّهم بحاجة أيضاً لأن يفهموا بأننا لسنا ضعفاء وأننا دخلنا المحادثات من موقع قوة. لا بد أن يعرفوا أن ليس بإمكانهم إيقاف طالبان".
وفي مشهدية معبّرة، كان مجيب رحمان يشاهد التلفزيون في منزله في الجانب الآخر من الشارع حين أقدم إنتحاري على تفجير الشاحنة المفخّخة عند نحو السّاعة العاشرة مساء. "كان الصوت مدوياً جداً لدرجة أنني اعتقدت بأنه ناتج عن قصف من طائرة. انتشر الدخان والغبار في كلّ مكان. شعرتُ بنفسي أطير نحو الجهة الاخرى من الغرفة، ثم فقدتُ الوعي".
أُصيب مجيب بجروح قطعيّة في صدره ويده اليمنى بسبب الشظايا والزجاج المتطاير، فمكث في المستشفى لمدة أسبوع. ولمّا عاد إلى عمله كسائق عربة من نوع "ريكشو"، لم يكن بكامل قوّته. وتوجّب عليه أن يتوقف بعد بضع ساعات في اليوم بسبب الألم. "أفترض أنه عليّ أن أفكر بأننّي محظوظ لأنني لم أمت في ذلك اليوم على غرار عديد من الناس. ولكنّ هذه الحادثة قد تتكرر في كل لحظة. لا يمكن للمرء أن يخطط للمستقبل في (أفغانستان)، إذ لا يعلم ما الذي ينتظره"، على حدّ تعبير مجيب رحمان.
وبحسب رواية عين الدين، والد مجيب (55 عاماً) الذي يستخدم اسماً واحداً على غرار عديد من الأفغان، فقد أقفلت المدارس أبوابها باكراً في ذلك اليوم وأرسلت الأطفال إلى المنازل لاعتقاد المعلّمين فيها أنّ تفجيراً سيطاول المنطقة. وآنذاك، "طلبتُ من عائلتي ومعارفي النّوم في الخارج. وقد منعتهم كثرة التفجيرات في كابول في الآونة الأخيرة من الإنصات إلى كلامي. ولمّا لم يحدث شيء خلال النهار، ظننا أنّ الوضع آمن. إنّ المشاكل مع مخيم "القرية الخضراء" المملوء بالأجانب ليست بالأمر الجديد"، قال لي مستذكراً.
وفي اليوم التالي للهجوم، خرج السكان المحليون بتظاهرة سيّارة سرعان ما تحوّلت صداماً مع السلطات التي لامت المحرّضين المندسّين على ما آلت إليه الأمور. إذ فتحت الشرطة النيران على المتظاهرين وأصابت ثلاثة منهم بجروح استدعت نقلهم إلى المستشفى، وفق ما جاء على لسان بعض السكان المحليين. وعلى الرغم من كلّ ما جرى ويجري في أفغانستان، يرى بعض المتابعين أنه من غير المجدي التفكير بتشاؤم.
وبرأي أحمد أوراكزاي الذي كان على بعد 200 متر من تفجيرٍ استهدف كابول الأسبوع الفائت وأودى بحياة 22 شخصاً، "مَن فينا يملك المال سافر إلى الخارج ومَن يحبّ المخاطرة حاول الرحيل عبر طرق التهريب. لكنّ أكثريتنا لا تملك سوى خيار البقاء. إنها بلادنا. ولا بد أن نبذل الغالي والنفيس في سبيلها".
وتابع رجل الأعمال البالغ من العمر 38 عاماً، "الإنتخابات على الأبواب ولا بد لجميع الأطراف المشاركة فيها. نحن سعداء لأنّ ترمب لن يسحب قواته وإلا فستربح حركة طالبان حتماً. قواتنا تنهض بمعظم عمليات القتال، لكنها بحاجة إلى الأميركيين كي يؤمنوا لها (الدعم) الجوي المهم. إنّ الغرب جزء مما نحن عليه اليوم وهذا أمر موثّق في التاريخ. ولذا ينبغي عليه تحمّل بعض المسؤولية. وكذلك ينبغي على القوات الأميركية المكوث في بلادنا وقتاً أطول، لكن ليس لوقت طويلاً جداً. نحن نعلم أنّ وجودهم هنا يكلّفهم المال الكثير، ولكننا نحن من يكتبّد معظم الخسائر البشرية".
© The Independent