Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الإيطالي لوسيو فونتانا حدق إلى المستقبل من ثقوب لوحاته

معرض فرنسي يستكشف ثمار بحثه المحموم عن جوهر الكينونة

الرسم وعلاقته بالفضاء (خدمة المعرض)

ملخص

لوسيو فونتانا هو فنان إيطالي يضارع بأهميته موديلياني ودو كيريكو، وإن كان أقل شهرة منهم. مؤسس الحركة التشكيلية "الفضائية" عام 1948، ورائد الفن البيئي، ورث عن المستقبلية الإيطالية هوس المستقبل الذي دفعه إلى ممارسة فن محرر من فئاته التقليدية (رسم، نحت، حفر...)، يتمثل بفعل غير مادي، ذهني وروحي. ولاستكشاف ماهية هذا الهوس وثماره، ينظم "متحف بيار سولاج" في مدينة روديز الفرنسية معرضاً ضخماً لهذا الفنان، يضم رسوماً ولوحات ومنحوتات وخزفيات وتجهيزات ضوئية تتوزع وفقاً لمسار تتحكم به فكرة التعارض الجدلي بين المادي وغير المادي، الفاعلة في عمله، ومفهوم اليوتوبيا الذي يفسر علاقته المتضاربة بالواقع الملموس.

تجدر الإشارة بداية إلى أن الفنان الإيطالي لويس فونتانا (1899 ــ 1968) عاش حياة صاخبة مارس خلالها النحت، ثم صناعة الخزف، فالرسم، قبل أن يقفز إلى داخل الإبداع الطلائعي. في أعماله الضوئية (néons)، التي كان يعدها كتابات، منح شكلاً وحجماً للضوء وحوله إلى هندسة داخلية. وفي سلسلة "مناخات فضائية" أو "بيئات"، خرج من فضاء اللوحة لبلوغ وتجسيد البعد الجديد، الرابع، بعد الزمن والفضاء. ولذلك فإنه قبل أي شيء فنان عصر الفضاء وغزو الكواكب وتكنولوجيات المستقبل.

ولا عجب في هذا التوجه، فمنذ طفولته افتتن فونتانا بروايات جول فيرن، وبلور رؤية شخصية خيالية للفضاء الكوني كإمكانية وجود "مكان آخر". ومباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، روج لحركة طلائعية أعادت تفسير ليس فقط مفهوم الفضاء، بل أيضاً "الحركة" و"العلامات" كتعبيرات عن أصل هو أساس كل فعل مستقبلي ممكن. وداخل الأهداف التكنولوجية والعلمية لزمنه، عثر على توكيد لحدسه الخاص. حدس بالتناقضات الأبدية بين المادي وغير المادي، حثه على التأمل طويلاً في فكرة اللانهائي، وحدس بأن الإنسان سيجد يوماً نفسه في مواجهة كون لا حدود له، ويتألم من محدوديته. بالتالي، من مستقبل متخيل، بلغ مستقبلاً واقعياً.

عصامي، أسس فونتانا منذ 1926 مجموعة "نيكسوس" التي ابتكرت جمالية طلائعية تقع بين النقائية والتعبيرية والتكعيبية والمستقبلية، وشكلت رداً على التقليد الانطباعي للجيل الفني السابق، وعلى مختلف تجارب عصره. ومع رفاقه في هذه المجموعة، خط بياناً عام 1928، صدر في مجلة "الآن"، ويتضمن أفكاراً رافقته طوال مسيرته وحددت مقاربته الإبداعية: الحرية باعتبارها تحريراً للغرائز، العقل الباطن كمرجع استلهام، البعد الكوني كاستعارة لتوتر وانشداد نحو المتعالي، "الروحي"، إضافة إلى مفهوم "بربري" للفن يتعارض مع واجب كمال "الأسلوب" الذي كان يتسلط على تاريخ الفن منذ قرون.

وفعلاً، تتسم المرحلة الثانية من عمل فونتانا بـ"بربرية" غايتها بلوغ ذلك "المكان الآخر" الذي هجس به، وحدده كعودة إلى النقطة الصفر، إلى بعد غرائزي، خيالي، إلى ما قبل التاريخ. مرحلة تشكل نقطة انطلاق خيط أحمر متواصل في بحثه حول العلاقة الجدلية بين المادة والضوء واللون، بين المنحوتة ونقيضها، بين التصوير ونقيضه. وضمن هذا البحث، وقبل جاكسون بولوك بأكثر من عقدين، أنجز لوحته "الرجل الأسود" (1930) برشق واحد من الطلاء كفعل تمرد على تجارب الأسلوب، وعلى الفن المعاصر عموماً، كما أنجز خزفيات تشكل تعبيراً عن "بدائية تعبيرية" غايتها اكتشاف الجوهر.

مفردات حداثية

ولا شك في أن ريبة فونتانا مذاك من مهنة النحات التي كان يمارسها، هي التي قادته إلى بلورة مفردات حداثية جديدة غايتها "تطوير" و"تثوير" العمل التشكيلي، ضمن استمرارية واعية وواثقة في إرث الحركة المستقبلية. وفي هذا السياق، انتهك القواعد الفنية الراسخة بحفره علامات بدائية داخل المادة التشكيلية، واستخدامه ألواناً صافية، وحشية، "كهربائية" وفقاً لوصف النقاد لها، بغية تحليل الحجم، وبلبلة الشكل، وإسقاط داخل الرسم نفسه عنصر الضوء الاصطناعي، الذي غالباً ما يغطي العمل بكليته، كما لو أن بقعة من الضوء الملون تنير مادة جامدة وتحييها. تشكيل يقع بين رسم ونحت، لكنه لا ينتمي إلى أي منهما.

وفي جمعه بين الشكل واللون والضوء وفقاً لتأويل وثني للطبيعة، بالتالي وفقاً لإعادة قراءة "تجريدية" لها، عثر فونتانا على مصدر إلهام لا ينضب في فن الخزفيات، الذي لم تقتصر ممارسته له على إنتاج أوعية وصحون، بل قارب بواسطته أسئلة وجودية وتشكيلية، وسعى إلى الارتقاء به وإضفاء صبغة نبيلة عليه. وعموماً، تجب قراءة تجربة هذا الفنان بكليتها كتأرجح جدلي واع بين لغة عليا ولغة سفلى، بين فن طلائعي وفن "كيتش" أو دوني. وفي هذا السياق، تعكس الألوان "الاصطناعية" أو "الكهربائية" التي لجأ إليها آنذاك، ثم أعاد استخدامها لاحقاً، استيعابه أمثولات رواد الفن التجريدي: أرشيبنكو، كالدر وكاندينسكي، بالتالي ذلك التجريد في عمله الذي اتخذ معنى الاستباق الخيالي، اليوتوبي، لقدوم مجتمع مستقبلي يكون الإنسان فيه قد حل صلاته بالمادة وقلص ارتهانه لحاجاته الأساسية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن منذ عام 1946، تطلع فونتانا إلى تجديد راديكالي للفن بحيث لا يعود تصويرياً أو تجريدياً. وضمن استيعابه فتوحات أينشتاين في علم الفيزياء، نظر إلى فن قادر على تمثيل البعد الرابع، أي الفضاء ــ الزمن، ويقوم على حصيلة من الأشكال والألوان والأصوات والحركة، غايتها تجسيد فكرة النواة الأولية للمادة والحياة. ومن هذا التنظير انبثقت "منحوتة فضائية" (1947)، وهي شكل دائري أنجزه بالجبس المطلي بلون أسود، ويستحضر التخلخل البطيء لسحابة فطر ذرية، أو رؤية افتراضية لرجل في الفضاء، أو وعورة كوكب مجهول تنتشر فيه عناصر غامضة في حالة غازية. وبين 1948 و1949، حقق خزفيات شبه متآكلة ومحترقة، عرضها كشذرات من كواكب ميتة، وتعكس الحركة اللولبية فيها فعلاً أولياً لطاقة، يردنا إلى ظاهرة فلكية فيزيائية، أو إلى علامة محفورة على الرمل منذ فجر الكون. أما سلسلة "مناخات فضائية" التي بدأها عام 1949، فتستبق بعقد من الزمن التعريف اللاحق للفن المفاهيمي. أعمال تجريدية في ظاهرها، رسمها على أوراق كبيرة بيضاء مثبتة على قطع قماش، ومارس على هذه الأخيرة ثقوباً بواسطة مخرز، محولاً إياها إلى شاشات تعبرها أضواء اصطناعية، بالتالي إلى تعبير عن الفضاء ــ الزمن.

وفي الخمسينيات، كانت أعمال أخرى لفونتانا تكشف جدلية بين لون سطحي على شكل بقع صغيرة منفذة بحركة تشكيلية صافية، وثقوب تعتري هذا اللون وتوقع النظر في عمق الفراغ. وقبل رحيله، استبدل بهذه الثقوب شقوقاً حملت معنى مشابهاً في البداية، ثم اكتسبت قيمة مستقلة وتحولت إلى نوافذ على الفضاء الآخر، الخفي، الذي نحدس بوجوده، لكن يتعذر علينا بلوغه قبل الانعتاق من كينونتنا المادية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة