Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرب الأهلية شكلت الأمة الأميركية فهل تحدد مصيرها؟

الكنديون يخشون صراعاً داخلياً في الولايات المتحدة وكثر يعدون أن ثقافة العنف وانتشار السلاح تؤسس لمصير مرير

تزايدت المخاوف من اندلاع حرب أهلية بعد اقتحام أنصار دونالد ترمب مبنى الكابيتول في 2021 (أ ف ب) 

ملخص

مصطلح الحرب الأهلية في حد ذاته مصطلح مخيف لا للداخل الأميركي فحسب بل للعالم برمته، وعلى رغم أن أميركا ومهما وجه العالم إليها الاتهامات حول دورها السياسي الخارجي المختلف عليه فإنها تبقى في كل الأحوال "رمانة الميزان" في الاستقرار الدولي، ولا يمكن للمرء أن يتصور سيناريو كارثياً أسوأ كثيراً جداً مما جرت به المقادير في الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود، إذ سيكون الأمر وبالاً على المجتمع البشري برمته.

ما الذي يزعج كندا الملكية الفيدرالية الدستورية من جارتها الولايات المتحدة الأميركية، الجمهورية العظمى، التي تعد قائدة العالم الليبرالي حتى الساعة؟

 المؤكد جداً أن القرب الجغرافي والاختلاط الديموغرافي بين الجارتين يجعل إحداهما فاعلة ومؤثرة في مسيرة الأخرى، سياسية كانت أو اقتصادية أو أمنية أو مجتمعية، ومن هنا يبدو واضحاً أن الكنديين ينظرون بعين ملؤها القلق لما يجري في الداخل الأميركي أخيراً، وباتوا يتحسبون من تبعاته بصورة كبيرة.

 لم يعد في الأمر سر، ذلك أن الداخل الأميركي ترتفع درجة حرارة خلافاته السياسية ومن ورائها العرقية وربما العقائدية والإيمانية ويقترب الأمر من درجة الغليان.

هل يمكن أن يحدث انفجار قريباً في أميركا مالئة الدنيا وشاغلة الناس، وبخاصة على هامش انتخابات الرئاسة المقبلة في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل؟

هذا هو السؤال المخيف للأميركيين أنفسهم، وربما الأكثر إثارة لجيرانهم، خصوصاً الكنديين الذين باتوا يناقشون الأمر بصورة علنية، وفق تقرير صدر أخيراً عن أحد المراكز البحثية الكندية.

والشاهد أن مصطلح الحرب الأهلية في حد ذاته مصطلح مخيف لا للداخل الأميركي فحسب بل للعالم برمته. وعلى رغم أن أميركا ومهما وجه العالم إليها الاتهامات حول دورها السياسي الخارجي المختلف عليه فإنها تبقى في كل الأحوال "رمانة الميزان" في الاستقرار الدولي، ولا يمكن للمرء أن يتصور سيناريو كارثياً أسوأ كثيراً جداً مما جرت به المقادير في الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود، إذ سيكون الأمر وبالاً على المجتمع البشري برمته.

 وهنا تبدو القراءة المحققة والمدققة لمشهد الحرب الأهلية الأميركية كما يراها البعض، أمراً مطلوباً ومرغوباً بهدف تبيان الحقائق وكشف الغموض، وبخاصة في المنطقة الفاصلة بين تمنيات كارهي العم سام والديالكتيك الأميركي الفعلي في الداخل.

 تاريخ لم ينسى

هل نسى الأميركيون الحرب الأهلية الأولى؟ أم أن تاريخها لا يزال قائماً في عقولهم وضمائرهم ومكتوباً في اللوح الأميركي المحفوظ، فيما الواقع المعاش يجعلهم يراجعون ما كتب قبل نحو 150 عاماً تقريباً؟

وفي كتابه "الحرب التي شكلت أمة: لماذا لا تزال الحرب الأهلية مهمة" يرى مؤلفه المتخصص في زمن الحرب الأهلية الأميركية المؤرخ الأميركي جيمس ماكفرسون أن فكرة التصالح مع الحرب الأهلية الأميركية ليست بالمهمة السهلة، فحجم الدمار لا يزال صادماً، إذ تشير التقديرات التاريخية الجديدة إلى أن عدد القتلى بلغ نحو 750 ألف جندي أي 2.4 في المئة من السكان الأميركيين عام 1860، وهو ما يوازي اليوم نحو 7.5 مليون أميركي.

هل يلقي الماضي بظلاله على الحاضر؟

 نعم ولا شك أن رؤية ماكفرسون هذه في كتابه تكاد تطلب من الأميركيين أن يفتحوا عيونهم، ويشحذوا أذهانهم في عقد المقاربات بين الماضي والحاضر.

 

 

وهنا تبدو الجزئية الأكثر خوفاً بل وهلعاً التي تتمثل في الفارق الإمكانات التي كانت متوافرة للمتحاربين في ذلك التوقيت، وأنواع ومستوى الأسلحة المتوافرة لدى الأميركيين في الوقت الحاضر. وبالطبع لا توجد مقارنة عادلة، مما يعني أن الخسائر ستكون مضاعفة على صعيد البشر غير أن هناك جزئية أخرى تتعلق بالولايات المتحدة كقائد للعالم الليبرالي الحر وإمكانية بقائها في ذلك الموضع، حال عرفت الجمهورية الأميركية مثل هذه الكارثة.

المؤكد أن كثيراً من إرث الحرب الأهلية الأميركية الغابرة بما في ذلك الحكومة الفيدرالية المتحولة والتحول من اقتصاد العمل الزراعي العبودي نحو الرأسمالية الصناعية، والنقاش الدائم حول سيادة الدولة والمنافسات الإقليمية التي لم يتم حلها والأسئلة الدائمة حول العرق والمواطنة، هذه جميعاً لم يتوصل إلى إجابات حاسمة وحازمة في شأنها بعد.

 ومن هنا يبدو النقاش المخيف، السائر والدائر حقاً، ماذا سيكون شأن البلاد والعباد حال الدخول في موجة عنف أهلية جديدة وبأدوات فائقة القوة تدعمها الأسلحة المتوافرة في أيدي عموم الأميركيين قبل الدخول في دائرة صراع الأجهزة أو القوات المسلحة، هل هذا ما يخيف الكنديين حقاً؟

لماذا يقلق الكنديون الآن؟

في تقرير ربيعي بعنوان" الاضطرابات في الأفق" اقترح مركز دراسات كندي يدعى "آفاق السياسة الكندية" أن حرباً أهلية يمكن أن تحدث في الداخل الأميركي، وأن مثل هذا السيناريو يجب على أوتاوا أن تفكر في الاستعداد له.

وبدت هذه الفرضية وكأنها مدسوسة في عمق التقرير الذي يبلغ نحو 37 صفحة، ورسمت هذا الاحتمال في عدد من الكلمات جاءت على النحو التالي "الانقسامات الأيديولوجية في الولايات المتحدة والتآكل الديمقراطي والاضطرابات الداخلية تتصاعد، مما يؤدي إلى إغراق البلاد في حرب أهلية".

لم يكن هناك نقص في التنبؤات المروعة في شأن السياسات الأميركية منذ عقد تقريباً في الداخل الأميركي، فقد انغمست المنظمات غير الربحية ذات الميول اليسارية والمستشارين السياسيين والأكاديميين في تكهنات لا نهاية لها وتمارين لعب الأدوار، ظاهرياً لمساعدتهم في الدفاع عن الديمقراطية ومن الناحية العملية كان المثير من هذا بمثابة الانغماس في الذات.

وتضمنت إحدى الحلقات الهستيرية عام 2020 محاكاة لألعاب الحرب التي انتهت بتشجيع جو بايدن وحلفائه الساحل الغربي على الانفصال عن الاتحاد.

واستطلع التقرير الكندي مئات الخبراء والمسؤولين الحكوميين حول الأحداث التخريبية التي يتعين على كندا الاستعداد لها، وبعد ذلك صنف المؤلفون هذه السيناريوهات بناء على احتمالية حدوثها ومدى سرعة حصولها، وحجم الفوضى التي تسببها.

 غير أن العبارة المهمة في التقرير تتعلق بتصنيف هذه الحرب على أنها حدث غير محتمل ولكنه شديد التأثير، وقد شملت السيناريوهات الأخرى في هذه الفئة العامة انتشار الأسلحة البيولوجية محلية الصنع، وظهور مسببات الأمراض المقاومة للمضادات الحيوية مما يؤدي إلى الوفيات الجماعية ونقص الغذاء واندلاع الحرب العالمية الثالثة.

هل تاريخ كندا الداخلي والحركات الانفصالية التي جرت هناك تجعل مخاوف حرب أهلية أميركية أمراً قابلاً للحدوث بالفعل؟

يرى التقرير أن هناك سيناريو واحداً جديراً بالثقة لحرب أهلية أميركية وهو سيناريو ليس من الماضي البعيد أو من بعيد، بل من مثال قريب وقريب جداً يتمثل في كندا عينها، فكيف ذلك؟

 لم تكن معركة كيبك الانفصالية في الستينيات حرباً أهلية شاملة ولكنها كانت هجوماً عنيفاً ومستمراً على الولاية، نفذه مسلحون اعتقدوا أن النظام الفيدرالي تغير بطريقة غير مقبولة، واستمرت القلاقل والاضطرابات حتى عام 1970 حين اختطف الانفصاليون في كيبك وقتلوا نائب رئيس المقاطعة بيير لابورت.

وكانت هذه فترة حرب أهلية وحشية ومؤلمة، وفي فترة ما بعد محاولة الاعتداء على الكونغرس في يناير (كانون الثاني) 2021 لم يعد من قبيل التكهنات الجامحة أن نتصور سلسلة مماثلة من الأحداث في الولايات المتحدة، وبخاصة أنها دولة مدججة بالسلاح ولها نظام فيدرالي متنازع عليه وهويات إقليمية فخورة، وبعض ولايات مثل تكساس وكاليفورنيا أصبحت كيانات شبه وطنية بالفعل.

وفي هذا السياق يبدو من الطبيعي أن الرئيس المقبل سواء جرى اختيار دونالد ترمب مرة ثانية أو جو بايدن سيكون مكروهاً من قبل قسم كبير للغاية في البلاد، ومن المرجح أنه سينظر إليه على أنه رئيس غير شرعي من قبل أقلية كبيرة في الأقل.

ولا يتطلب الأمر خيالات متنوعة ليدرك القارئ ما الذي ينتظر الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل.

وما الذي يجري في كندا خلال هذه الآونة على رغم القول إن السيناريو بعيد من التحقق بالفعل؟

كندا وتراجع أميركا الليبرالية

هل كندا حقاً تعيش حال خوف من تراجع الليبرالية الأميركية وفقدان الولايات المتحدة لموضعها فوق جبل التطويبات الخاصة بالعالم الحر، إن جاز التعبير؟

 

 

عبر مجلة "نيوزويك" الأميركية وفي العدد الصادر بتاريخ الـ18 من أغسطس (آب) 2023 نشرت المجلة مقالاً يتضمن تفاصيل متعلقة بآراء وزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي، والتي اعترفت فيها علناً بحقيقة أن الحكومة الكندية خائفة من تبعات انتخابات الرئاسة 2024، خصوصاً في ظل احتمالات عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض مرة أخرى وهو من قرر تفجير اتفاق التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) واستبدال الاتفاق الحالي بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا بها، فقد فعل ذلك من خلال التفاوض بقوة وربما بصورة أكثر دقة أو ترهيب أو تجريف مع كندا والمكسيك، وعلى حساب العلاقات الثنائية الودية الموجودة مسبقاً.

هل الخوف من شخص ترمب؟

 بالقطع مخاوف الكنديين تتجاوز شخص ترمب إلى التيار السياسي اليميني الناهض في الداخل الأميركي، ذاك الذي يكتسب أرضية يوماً تلو الآخر، سواء فاز ترمب أم لا.

 وتشعر كندا بالقلق من أن جارتها الجنوبية المهيمنة قد تخرج عن مسارها وتتجه نحو اليمين المتطرف غير الديمقراطي، ولعل ما حدث في انتخابات 2020 كان السبب الرئيس في هذه المخاوف، فقد اعترف رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو بأن كندا في ذلك اليوم الصعب السادس من يناير 2021 كانت تستعد لاحتمال حدوث "بعض الاضطرابات"، وكل الاحتمالات إذا حاول ترمب البقاء في السلطة بصورة خارج القانون.

 وكان مصدر القلق الخاص لكندا هو حقيقة أن عدداً متزايداً من الأميركيين المتحمسين كانوا على استعداد تام لتأييد أعمال العنف السياسي، في حال فوز الحزب السياسي المعارض في الانتخابات.

وفي حين ينبغي أن يكون الأمر مثيراً للقلق بصورة غير عادية فإنه ليس من المستغرب خصوصاً أن الحكومة الكندية تتخذ خطوات للاستعداد للعواقب المحتملة لتراجع الديمقراطية في الولايات المتحدة، إذا وجدت نفسها موقتاً دون المظلة الواقية من سياستها، سياسة الشريك الأميركي المهيمن.

 وتم التعبير عن هذا الشعور بصورة جيدة في مقال نشرته صحيفة "هاميلتون سبكتاتور" في السادس من يناير 2022، أي بعد عام واحد بالضبط من الهجوم المروع على مبنى الكابيتول في الداخل الأميركي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 ويتساءل ثقات الأميركيين عما جرى في ذلك النهار المثير الذي يعده كثير منهم بداية انحدار الديمقراطية الأميركية، فعلى رغم أنه تم سحق محاولة التمرد لكن السيناريو الأكثر رعباً تجلى في أفق واشنطن في ذلك اليوم، وخيل للعامة أن الآلاف سيموتون من جراء الصدام المسلح المتوقع، ويضطر المشرعون الأميركيون المهانون إلى الفرار إلى بر الأمان.

وفي ذلك التوقيت ظل العالم يتساءل عن مدى اقتراب الولايات المتحدة من الفوضى السياسية والحرب الأهلية، وهل يمكن أن تتم محاولة انقلاب ثانية في يوم آخر طال الزمن أم قصر، على أن الخوف الكندي الأعظم كان ولا يزال يتمثل في جزئية أكثر رعباً.

القوات المسلحة الأميركية والتمرد

عرفت القوات المسلحة الأميركية بأنها قوات نظامية منضبطة إلى أبعد حد ولا يمكن بحال من الأحوال تغيير طبيعتها، غير أن المكالمة الهاتفية التي جرت بين رئيس أركان الجيش الأميركي في نهار السادس من يناير 2021 الجنرال مارك ميلي ونظيره الصيني ليزوتشينغ، ومن وراء ظهر ترمب، باتت تؤرق مضاجع الكنديين والأميركيين بل وبقية أرجاء العالم خوفاً من حدوث مضاعفات لهذا المشهد في المستقبل.

وبرر ميلي لاحقاً اتصاله مع الطرف الصيني بأن المخاوف العسكرية الأميركية وصلت حد قيام الصينيين بضربة نووية استباقية للولايات المتحدة، وخوفاً من أن تقوم الميليشيات التي رفعت أعلام الكونفيدرالية في ساحة الكونغرس بالاستيلاء على المواقع النووية في البلاد، وتوجيه الرؤوس النووية شرقاً وغرباً.

 والتبرير له وجاهته الدفاعية إن جاز القول لكن الكارثة وليس الحادثة تمثلت في أن الأمر على هذا النحو يجعل الجنرال ميلي متخطياً للقائد العام للقوات المسلحة الأميركية، أي الرئيس ترمب في ذلك الوقت.

وهنا يبدو أن الكنديين يضعون في الاعتبار احتمال حدوث انهيار داخل القوات المسلحة الأميركية، إذا مضى المرشح الجمهوري دونالد ترمب في مخاطبة الأميركيين بعد الانتخابات حال خسارته، بأنه تعرض لخسف وعسف شديدين من الدولة الأميركية العميقة مما أدى إلى خسارته.

وعبر صحيفة "واشنطن بوست" وقبل نحو عامين حذر عدد من الجنرالات الأميركيين المتقاعدين من حدوث مثل هذا السيناريو، خصوصاً أنه حال حدوثه ستكون الولايات المتحدة انزلقت بالفعل إلى حرب أهلية، وفي مثل هذا السيناريو الفوضوي ليس هناك من يستطيع أن يجزم بمن سيصل إلى القمة، والسؤال ماذا لو صعد الزعيم الخطأ إلى السلطة؟ من المؤكد حتماً أن الأمر سينتهي بإراقة الدماء.

ولعل الأمر الأكثر قلقاً للكنديين يتمثل في تحقق المخاوف من حدوث انهيار داخل القوات المسلحة الأميركية، ففي حال جرى الأمر على هذا النحو فهل ستتمكن الحكومة الأميركية الشرعية من تأمين البنية التحتية العسكرية الأساس؟ قد تقع مستودعات الأسلحة الفردية في أيدي العناصر المتمردة في الجيش التي تنطلق من مفاهيم أيديولوجية لأي رقيب عشوائي موجود في ذلك الوقت.

وهنا تكون الخسائر هامشية، لكن ماذا حال وقوع مروحيات وطائرات "أف–16" وكيف يمكن أن يضحى حال الداخل الأميركي في ذلك الوقت؟ وما مدى الخسائر التي ستحيق بالأمة الأميركية التي ستبدو خسائر الحرب الأهلية الأولى بالنسبة إليها نزهة لا حرب؟ وهل من احتمالات مريعة وشنيعة أكثر من تسرب أسلحة يدوية إلى أيدي المتمردين؟

 

 

 نعم، هناك الأسوأ العالمي الذي يمكن أن تجري به المقادير ويتمثل في تلبس الأيديولوجيات اليمينية الضارة لأولئك القائمين على حراسة وصيانة وتشغيل وتجهيز الصوامع النووية، والتي يعني الاقتراب منها أو التعامل معها دخول العالم برمته في حرب نووية لا محالة.

الديمقراطية الأميركية ومخاوف الحلفاء

ولعل من العبارات المهمة للغاية في سيرة ومسيرة الأنظمة الديمقراطية أنها لا تحارب بعضها بعضاً، بل تتعاون سعياً في طريق أكثر رحابة لشعوبها، وربما كان درس النازية والفاشية في النصف الأول من القرن الـ20 كافياً لكي تدرك الشعوب فداحة خيارات التطرف.

ومنذ عام 1945 والولايات المتحدة تتسنم العالم ديمقراطياً وحقوقياً وأدبياً وأخلاقياً حتى باتت تعرف بأنها قائدة العالم الليبرالي الغربي، غير أن واقع الحال يكاد يقودنا إلى منطقة ملتبسة تتهدد فيها الديمقراطية الأميركية في الداخل، مما يزعزع الأساسات الصلبة التي قامت عليها الولايات المتحدة الأميركية.

وعلى عتبات الانتخابات الرئاسية الأميركية المخيفة وغير المسبوقة يسترجع الكنديون مقالاً مثيراً كتبه الباحث في عالم الصراعات العنيفة البروفيسور توماس هومر الأكاديمي بجامعة ريال رودز في كندا، ونشر في صحيفة "الغارديان" البريطانية في الثالث من يناير 2022، وفيه تحذيرات جدية من أنه "بحلول عام 2025 يمكن أن تنهار الديمقراطية الأميركية مما يؤدي إلى عدم استقرار سياسي داخلي شديد، بما في ذلك العنف المدني على نطاق واسع، وبحلول عام 2030 إن لم يكن قبل ذلك يمكن أن تحكم البلاد ديكتاتورية يمينية".

ومن بين مخاوف البروفيسور ديكسون العديدة تحذره من أن قيادة الدولة الجمهورية قد ترفض قبول فوز الديمقراطيين في 2024 أي بعد أربعة أشهر تقريباً ظاهرياً، وهنا سيكون الصدام قادماً لا محالة.

ولعله من نافلة القول وما يخيف الكنديين أنه حال انتصار الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ربما سيكون التوجه المسيطر عليهم متمثلاً في أمرين لا ثالث لهما " التبرئة والانتقام".

 يعني وبعبارة واضحة تمام الوضوح أن ترمب وإدارته الجديدة سيلاقون دعماً جماهيرياً من أكثر من 75 مليون أميركي يؤيدونه لإعادة عجلة الزمن إلى الوراء، ومحاولة تصويب ما يعدونه خطأ كارثياً جرى في حقهم، أي نتيجة انتخابات عام 2020،= وإظهار التلاعب الذي جرى فيها، بحسب دعواهم.

 الأمر الآخر هو الانتقام من الذين تسببوا في قطع الطريق على ولاية ثانية للرئيس ترمب، وهذه الخطوة تحديداً ستكون كأعواد الثقاب التي تشعل الداخل بصورة غير مسبوقة، وبما يجعل إرهاصات الصراع الداخلي أقرب ما تكون إلى الحقائق التي تجب مواجهتها.

 وهذا ما يمكن أن يحول الديمقراطية الأميركية إلى نظام شمولي وكما يفعل أي رئيس في منطقة منبتة الصلة بعالم الحريات والديمقراطيات، مما يعني أن واشنطن ربما تكون على موعد قولاً وفعلاً من "الكرة النارية المدمرة للديمقراطية".

ويتفق مع رأي البروفيسور هومر رأي آخر يعود للبروفيسور روبرت دانيش من جامعة واترلو، الذي نشره في مجلة "The Conservation" بتاريخ الـ13 من فبراير (شباط) 2022، وجاء فيه "الولايات المتحدة على وشك أن تصبح دولة ديمقراطية فاشلة"، إذ يسلط الضوء على استطلاع للرأي أجرته مؤسة "زغبي" أظهر أن 46 في المئة من الأميركيين يعتقدون أن الولايات المتحدة تتجه نحو حرب أهلية أخرى، وحذر دانيش من أن "الخطاب العنيف يميل إلى تأجيج أعمال العنف"، وذكر أنه "كلما أصبح الخطاب المتطرف العنيف هو القاعدة زاد احتمال رؤية الخطر والعنف".

وأعرب دانيش كذلك عن مخاوفه من مزيج وسائل الإعلام مثل "فوكس نيوز" التي لها تأثير بعيد المدى، كما أن الخطاب الاستبدادي المناهض للديمقراطية هو بالضبط وصفة للانتشار المعدي لأنواع السلوكات التي يمكن أن تهدد الديمقراطية في كندا.

وحث البروفيسور دانيش المجتمع الدولي وكندا بصورة أكثر تحديداً على متابعة "تحليلات منهجية وموضوعية لما سيحدث عندما تنتهي التجربة الأميركية مع الديمقراطية".

 ويسأل دانيش كندا والعالم عما سيفعلانه لمواجهة تصرفات الولايات المتحدة إذا صحا الأميركيون ذات يوم على إدارة تتظاهر بأنها ديمقراطية، بينما تتبنى الفاشية في واقع أمرها.

على أن الموضوعية تقتضي معنا التساؤل هل كل الآراء تجمع بالفعل على أن أميركا تقترب من الحرب الأهلية؟ أم أن الأمر مجرد فرضية هلامية لا أساس لها من الصحة؟

لا للرهان على حرب أهلية أميركية

تقدم لنا الكاتبة الأميركية كيتي هولستون من صحيفة "نيويورك تايمز" رؤية مغايرة لما جاء في التقرير الكندي الذي أخاف كثيرين، وعندها أن هناك عدداً من أسباب التفاؤل التي تجعل كل ما تقدم لغو كلام ورطانة لغوية غير حقيقية.

وبحسب هولستون، يشعر كثير من الناس بالانكسار في الولايات المتحدة هذه الأيام ولكن بغض النظر عن المشاعر فإن كثيراً يعمل بهدوء أيضاً.

 

 

ولا ينسجم الأميركيون مع وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن في العالم الحقيقي يبدو أنهم ينسجمون بصورة أفضل أو في الأقل أقل سوءاً من أي وقت مضى.

وتنصح هولستون الباحثين عن الحقيقة بقولها "قم بإيقاف تشغيل التلفزيون والخروج وسيكون من الصعب جداً رؤية حرب أهلية تلوح في الأفق". وتقدم بيانات متفائلة على العكس من كثير من الاستطلاعات التي يتم الترويج لها أخيراً، فعلى سبيل المثال تتوقف عند معدل الجريمة وهو ما يمكن أن يعد مدخلاً لقياس فكرة نشوب صراع مجتمعي داخلي.

ولا تزال الولايات المتحدة مكاناً ترتفع فيه معدلات الجريمة لكنها ومع ذلك ظلت في انخفاض منذ ثلاثة عقود، إذ كان عدد جرائم القتل عام 2023 نحو نصف عدد جرائم القتل التي حدثت خلال أسوأ أعوام الثمانينيات وأوائل التسعينيات.

 وكان هناك ارتفاع خلال الوباء لكنه تراجع بصورة مؤكدة، وهذا ما صرح به محلل الجريمة جيف آشر أخيراً لشبكة (NBC NEWS)، من أنه عندما يتم الانتهاء من أرقام عام 2023 "سنشهد على الأرجح أكبر انخفاض سجل في جرائم القتل لمدة عام واحد على الإطلاق".

ولا تقلل هولستون بحال من الأحوال من شأن الأخطار الكامنة في السياسة الأميركية، فالناخبون منقسمون بشدة ويواجه الحزبان متمردين من أقصى اليمين وأقصى اليسار. ومن السهل طرح نصوص حول حرب أهلية مستقبلية، إذ يتسم الخيال بنكهة المعقولية لأن جزءاً كبيراً من تاريخ الولايات المتحدة تميز وصنع بالعنف السياسي.

لكن تجربة قريبة منذ أقل من عامين وخلال انتخابات التجديد النصفي للكونغرس صاح اليمين الأميركي بأن "موجة حمراء" ستغطي البلاد من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، بمعنى الفوز الكاسح للجمهوريين.

غير أن الرهان على ذلك لم يفلح ولم ينفع فقد انتبه الناخب الأميركي لما اعتبره "فخاً محتملاً" يدخل البلاد في أزمة ومواجهة، وجاءت النتائج بالفعل متقاربة من دون سيطرة كلية لواحد تجاه الآخر، وهنا يبدو التساؤل المستقبلي هل ستتجاوز أميركا مخاوف الكنديين في نوفمبر المقبل؟ دعونا ننتظر ونرى.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير