Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

طلبة الأدب "الإمبرياليون" في الـ"سي آي أي"

في كتابه "الاستخبارات المركزية الأميركية: تاريخ إمبريالي" يكشف هيو ويلفورد كيف تم تكليف أساتذة من نخبة الجامعات الأميركية بتوجيه طلبتهم المتفوقين إلى العمل بالاستخبارات

تقدم وكالة الاستخبارات الأميركية نفسها بالقول "نحن أول خط دفاع عن الأمة"   (أ ف ب)

ملخص

في حين أن تاريخ الوكالة على موقعها الإلكتروني لا يكاد يتألف إلا من بضع عشرات من الكلمات، فإنه يفيض في أحدث كتاب تناوله ما يزيد على 380 صفحة، وهو كتاب "الاستخبارات المركزية الأميركية: تاريخ إمبريالي" لمؤلفه هيو ويلفورد.

تتساءل طرفة شهيرة: لماذا لا تحدث انقلابات عسكرية مطلقاً في الولايات المتحدة الأميركية؟ وتجيب: لأن الولايات المتحدة ليست فيها سفارة أميركية. لعل هذه الطرفة الشهيرة توجز غالب تاريخ العالم الحديث والمعاصر، بخاصة لو استبدلنا بالسفارة الأميركية السفارتين البريطانية والفرنسية في عصر أسبق، ولو ضممنا إليها السفارة السوفياتية في فترة وجود الاتحاد السوفياتي وقوته.

 قد تزداد الطرفة تلخيصاً لتاريخنا المعاصر لو أننا جمعنا إلى الانقلابات أشكالاً أخرى من ممارسة النفوذ والتدخل من القوى العظمى في شؤون بقية العالم. غير أننا نكتفي بما تكتفي به النسخة الشائعة من الطرفة، بل ونزيدها تحديداً، بأن نشير إلى مكتب ما في كل سفارة أميركية، يمثل علناً أو سراً وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي).

تقدم الوكالة نفسها لمن يبحث عنها عبر محرك "غوغل" البحثي بكلمات قليلة "نحن أول خط دفاع عن الأمة". وتقدم نبذة تاريخية تقول فيها إن الوكالة بنيت على أكتاف "مكتب الخدمات الخارجية" الذي أسس خلال الحرب العالمية الثانية وكان أول منظمة أميركية للاستخبارات العالمية.

تاريخ إمبريالي 

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية أثبت نجاح ذلك المكتب في مهام التجسس ومكافحة التجسس أن لعمل الاستخبارات أهميته الاستراتيجية في السلم كما في الحرب، فوقع الرئيس الأميركي هاري ترومان قانون "الأمن الوطني" عام 1947 مؤسساً جهاز الاستخبارات الأميركي. غير أن خط الدفاع الأول عن الأمة الأميركية لم يكن طوال الوقت زعماً صادقاً، أو أن مفهوم الدفاع عن الأمة يتسع بعض الشيء في نظر الولايات المتحدة ليبرر للوكالة أعمالاً كثيرة قد لا يجد لها كثر مبررات أخلاقية كافية.

وفي حين أن تاريخ الوكالة على موقعها الإلكتروني لا يكاد يتألف إلا من بضع عشرات من الكلمات، فإنه يفيض في أحدث كتاب تناوله ما يزيد على 380 صفحة، وهو كتاب "الاستخبارات المركزية الأميركية: تاريخ إمبريالي" لمؤلفه هيو ويلفورد.

والكتاب بحسب ما يشهد تيد كوشنر، الضابط السابق في الاستخبارات الأميركية، "مكتوب للقارئ العام، فبوسع القراء من غير الباحثين المحترفين أن يجدوه يسيراً عليهم. والكتاب أيضاً بمثابة تذكرة للقراء المحدثين بنطاق الأنشطة في فترة الحرب الباردة ـ ومنها التأثير في وسائل الإعلام والنشر، مما لا يرجح التسامح معه اليوم. وعلى رغم أن ويلفورد يرغب بوضوح أن يبين أن كثيراً من أنشطة "سي آي أي" مشكوك في أخلاقيته ونجاعته على المدى البعيد، فهو كاتب منصف التفكير يستند إلى المعلومات لا إلى الأيديولوجيا".

هيو ويلفورد باحث ومؤرخ، درس في بريطانيا ويدرس في جامعة ولاية كاليفورنيا، سبق أن كتب عن الـ"سي آي أي" وعن الحرب الباردة، وبعض كتبه السابقة من قبيل "لعبة أميركا الكبرى: المستعربون السريون في وكالة الاستخبارات المركزية وتشكيل الشرق الأوسط الحديث" (الصادر عام 2017) يتماس مع تيمات في كتابه الحديث.

ولعل من أهم هذه التيمات ما ينطوي عليه العنوان الفرعي للكتاب الحديث أي التاريخ الإمبريالي. فقد سبق لويلفورد في كتبه السابقة أن ناقش صلات تربط أنشطة الوكالة الأميركية بالتاريخ الإمبريالي البريطاني.

يبدأ كالدر والتون استعراضه الكتاب بـ"ديلي تلغراف" في السادس من يونيو (حزيران) الجاري بقوله، إنه "ليس جديداً أن الولايات المتحدة الأميركية أصبحت بعد عام 1945 إمبراطورية بكل معنى الكلمة، لا ينقصها من سمات الإمبراطوريات إلا الاسم دون غيره، وبوسع أي شخص من (الجنوب العالمي) أن يؤكد لك هذه الحقيقة اليوم، لكن الجديد هو أن وكالة الاستخبارات الأميركية أصبحت هي الأخرى وكالة إمبريالية"، أو لعل الجديد هو كتابة تاريخ الوكالة من زاوية طابع نشاطها الإمبريالي.

"وهذه هي الأطروحة المركزية في كتاب هيو ويلفورد القائم على بحث محكم يعرض من خلاله تاريخاً جديداً للوكالة الأميركية". ويمضي والتون في استعراضه قائلاً "على رغم أنني بدأت مطالعة هذا الكتاب متشككاً في فرضيته بعض الشيء ـ وهي الفرضية القائلة بوجوب النظر إلى الـ(سي آي أي) وفهمها باعتبارها مماثلة لأجهزة الأمن والاستخبارات الأوروبية الاستعمارية ـ فمن الواضح أن ويلفورد لم يغفل عن أن قراءه سيتشككون. فقدم لكتابه آخذاً ذلك في الاعتبار، ومع المضي قدماً في الكتاب، كنت أزداد اقتناعاً بالفرضية".

سجلات أرشيفية 

"تعتمد السردية التي ينسجها ويلفورد على سجلات أرشيفية وسير شخصية، تكشف عن أن ضباط الوكالة كانوا من مثل نسيج نظرائهم في العالم القديم، وبخاصة البريطانيين منهم. ويبدو أن آلن دوليس أحد مديري الوكالة الأوائل قد مات وعلى الطاولة المجاورة لسريره نسخة من رواية (كيم) الكلاسيكية لروديارد كيبلنغ، وتلك رواية تدور أحداثها في فلك الإمبراطورية والاستخبارات"، والحق أن من رجال "سي آي أي" من أخذوا من رواية كيبلنغ الكولونيالية ما هو أكثر قليلاً من التسلية كما سيتبين.

 

يقول والتن إن وجود تلك الرواية بجوار سرير دوليس "لم تكن من قبيل المصادفة. لأن عدداً غير قليل من ضباط (سي آي أي) المؤسسين تخرجوا في مدارس نيوإنغلند التي أسست على غرار شبيهاتها البريطانية ومن كليات النخبة الأميركية. وقد غرست تلك المعاقل الثقافية في تلاميذها إيماناً بالخدمة العامة، والإمبراطورية أيضاً، شأن المدارس العامة وجامعتي أوكسفورد وكمبريدج في بريطانيا. فكان جيمس أنغلتن كبير ضباط مكافحة التجسس في (سي آي أي) منتمياً إلى الثقافة الأنغلوفونية انتماءً صريحاً راسخاً، وهو لم يتجاوز قط تجربة دراسته في مدرسة داخلية إنجليزية في مالفيرن".

يكتب دانيال إيمروار أستاذ التاريخ بجامعة نورثوسترن في استعراضه المسهب للكتاب (ذي نيويوركر – 10 يونيو الجاري)، أن "ويلفورد يلاحظ أن ضباط الاستخبارات الأميركية كانوا في أول عهدهم بالوكالة يتشبهون بالأوروبيين المخضرمين. وبسبب توزيعهم على بيئات غريبة عليهم، كانوا ينزعون إلى تبني أنماط حياة المستعمرين السابقين، فيلحقون أبناءهم بالمدارس الأوروبية، ويستعينون في القصور الكولونيالية بخدم محليين، ويمارسون لعبة البولو".

يتمهل والتن عند هذه النقطة من كتاب ويلفورد فيكتب أن "تاريخ ويلفورد الاجتماعي الثقافي لضباط (سي آي أي) يلقي ضوءاً جديداً على عمليات شهيرة للوكالة في الخارج من قبيل اشتراكها مع الاستخبارات البريطانية في انقلاب بإيران عام 1953، وعمليتها السرية في غواتيمالا في السنة التالية، ومغامراتها التي لا نهاية لها في كوبا ضد فيديل كاسترو، وفي فيتنام".

ويحظى بالصدارة في قصة "سي آي أي" مثلما يرويها ويلفورد ضابط الاستخبارات كيرمت روزفلت الفاعل الرئيس في الانقلاب الأنغلوأميركي عام 1953 في إيران الذي أرجع الشاه صديق الغرب إلى العرش.

كان كيرمت روزفلت، حفيد الرئيس الأميركي تيدي روزفلت، معروفاً باسم (كيم)، في إشارة أخرى إلى الماضي الإمبريالي الذي كان هو نفسه يعيد خلقه. وفي كوبا يصف ويلفورد بالتفصيل جهود "سي آي أي" لإطاحة فيدل كاسترو، بدءاً بفضيحة خليج الخنازير وغزو 1961، إلى مؤامرات اغتيال تضمنت أصدافاً بحرية زائفة مليئة بالمتفجرات في شاطئ الغوص المفضل لكاسترو. وعلى رغم أن كثيراً من هذه الوقائع مشهور في تاريخ الوكالة، لكن سرد ويلفورد يضعه في سياق جديد وقوي.

تجارب شخصية 

يكتب تيد كوشنر مستعرضاً الكتاب (واشنطن اندبندنت رفيو أوف بوكس- 17 يونيو الجاري) أن ويلفورد في معرض تأريخه للوكالة من زاوية استعمالها تكتيكات مماثلة لتكتيكات أجهزة التجسس الاستعمارية التي اتبعتها الأجهزة الإمبريالية السابقة في السيطرة على مستعمراتها، يختار لكتابه بنية ذكية، إذ يجعل كل فصل من فصول الكتاب (في ما عدا الفصل السادس عواقب غير مقصودة) وفق نوع من أنواع عمليات الجهاز.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 ويرسم ويلفورد كل أسلوب من أساليب نشاط الوكالة بعرض تجارب شخصية أسطورية مرتبطة به. فعلى سبيل المثال، كيرمت روزفلت، الذي لعب دوراً أساساً في إطاحة نظام مصدق الإيراني ـ هو الشخصية الذي يعرض بها ويلفورد دراسة تغيير أنظمة الحكم. وبالمثل، من خلال عرض تجارب جيمس ألينغتن، الضابط الماهر في استئصال الجواسيس الأجانب، يعرض لجهود مكافحة التجسس. وتستعمل فصول أخرى مثل هذا المنهج لإيضاح أنشطة الـ(سي آي أي) المتعلقة بصيانة نظام الحكم، وتحليل المعلومات، والدعاية الداخلية".

يرى تيد كوشنر أن حكي قصة "سي آي أي" من خلال التجارب الشخصية لشخصيات أساسية فيها منهج عظيم الفعالية. "فهو يبث الروح في الحكاية بإظهاره العوامل البشرية، من قبيل الثقافة والهوية والعاطفة، ويبرز أثرها المهم في النتيجة.

ويؤكد ويلفورد أن ثقافة "سي آي أي" تشكلت من خلال خلفية الطبقة العليا لقادتها الأوائل، ونزوعهم إلى (نمط الحياة الإمبريالي) وذكوريتهم المتطرفة، وتماهيهم مع أدب الإمبراطورية من قبيل رواية كيم لروديارد كيبلنغ. ويتوصل القارئ إلى أن الشخصيات الخرافية في تاريخ الوكالة المركزية هي على رغم سمعتها المدوية ـ شخصيات بشر عاديين لهم نقاط قوة ونقاط ضعف".

والحق أن ويلفورد لا يتردد في تحطيم بعض الأساطير، أو في الأقل تخفيف أسطوريتها بعض الشيء، كأن يكتب أن "القول إن كيم روزفلت ظهر في طهران وحده، ودبر لإسقاط مصدق دونما معين، وهذه هي السردية المهيمنة لا في أساطير وكالة الاستخبارات المركزية وحدها وإنما في الفهم اليساري الشائع للانقلاب ـ هي هراء واضح".

الاستخبارات السوفياتية 

ولا يخلو الكتاب من مشكلات بحسب ما يرى كالدر والتن ـ فحتى القارئ المتعاطف لا يملك إلا أن يلاحظ إغفالاً لما كان إدراجه كفيلاً بأن يجعل الكتاب أفضل. "وقبل عقدين من الزمن، طرح عميد تأريخ الاستخبارات كرستوفر أندرو تحدياً حينما نبه إلى أن الكتب التي تصف عمليات (سي آي أي) السرية الخارجية ـ من انقلابات وتزوير انتخابات وما إلى ذلك ـ مغفلة عمليات جهاز الاستخبارات السوفياتي (كيه جي بي) السرية المناظرة ـ أو ما يعرف في لغة الكرملين بـ(التدابير النشطة) ـ إنما هي المعادل التأريخي لمحاولة التصفيق بيد واحدة".

 

"يمارس ويلفورد أحياناً هذا التصفيق بيد واحدة. فلا تظهر عبارة (التدابير النشطة) إلا مرة واحدة في الكتاب، ويأتي ظهورها في أمر له علاقة بشؤون داخلية في الولايات المتحدة. وواقع الأمر أن العالم الثالث، وهو مركزي في كتاب ويلفورد، هو الذي شهد غالب تدابير الاستخبارات السوفياتية النشطة، وفيه تسببت (كيه جي بي) و(سي آي أي) في أكبر ما ألحقا من أضرار. وفي بعض الأحيان كان تأثير تدابير (كيه جي بي) النشطة يتجاوز كثيراً أنشطة سي آي أي المناظرة".

غير أن كوشنر، وهو ضابط استخبارات أميركي سابق، يختلف في تقييمه للحضور السوفياتي في الكتاب مع تقييم كالدر والتن، فيكتب أن "ويلفورد تأثر بكتاب (الحرب الباردة العالمية)، لأود آرني ويستاد الذي يذهب إلى أن السبيل الأمثل لفهم الحرب الباردة هو بالنظر إلى ما جرى من أفعال في العالم النامي وكان دافع الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي فيها هو الكولونيالية". ولعل هذا الاختلاف طبيعي، فالقليل في عيني كاتب مثل والتن يصبح كافياً تماماً في نظر ضابط استخباراتي سابق لا يروق له كثيراً تضخيم دور جهاز منافس لجهازه أو حتى إنصافه.

في مقاله عن الكتاب يلفت إيمروار النظر إلى جانب مثير للغاية في تاريخ الوكالة فيكتب أن الولايات المتحدة تخلفت كثيراً عن الإمبراطوريات السابقة في عملها التجسسي، ولما شرعت في ذلك بحثت عن ألمع العقول:

"تم تكليف الأساتذة في نخبة الجامعات الأميركية بتوجيه طلبتهم المتفوقين إلى العمل في الاستخبارات. يقول روبين وينكس الذي مارس التدريس لعقود طويلة في جامعة يال إن (وضع الأيدي) على العقول النابغة كان يجري في قاعات الدرس والندوات وفي أثناء تناول الشاي، والمثير أن هذه الأيدي كانت توضع أكثر ما توضع على طلبة الأدب. فمدير مكافحة التجسس العتيد في الوكالة جيمس جيسوس آنغلتن كان قد أسس خلال دراسته في جامعة يالى مجلتين للأدب جيدتين على نحو مدهش، نشرت إحداهما في العدد الأول منها أعمالاً أصلية لإزرا باوند وكمنغز ووليم كارلوس وليمز".

 ويعلق إيمروار بقوله إن "شيئاً ما في ألفة الغموض والمفارقة والمعاني الخفية كان يجهز الطلبة للتجسس"، غير أن إيمروار يستدرك قائلاً "ولكنك لكي تحلل نصاً عليك أولاً أن تحصل على النص" وهذا ما كان طلبة الجامعات أقل براعة فيه ولذلك لزم للتأسيس نوع آخر من الخبراء.

في معرض تفسير الكتاب لسر قوة جهاز الاستخبارات الأميركي، تظهر مفارقة مريرة. كانت نهاية الإمبريالية وحضور الإمبراطوريات القديمة في الجنوب العالمي هي التي فتحت الباب للنفوذ الإمبريالي الجديد، سواء الأميركي أو السوفياتي، فقد كانت كل دولة تحصل على استقلالها تمثل في نظر واشنطن فرصة لكسب النفوذ (أو خسارته).

وكانت هذه البلاد بطبيعة الحال وقد تخلصت للتو من قيود إمبريالية قديمة تمقت أي محاولة خارجية للتحكم فيها، فكانت هذه المقاومة لليبرالية هي التي فرضت على وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أن تتحرى القوة، إذ كلما قوي رفض التدخل، ازداد القادة الأميركيون شعوراً بالحاجة إلى المزيد من إخفاء أعمالهم، وبذلك أصبحت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية هي القوة الجديدة للإمبراطورية في عصر القضاء المزعوم أو الظاهري أو حتى الحقيقي على الاستعمار.

العنوان: The CIA: An Imperial History 

تأليف: Hugh Wilford 

الناشر: ‎ Basic Books

اقرأ المزيد

المزيد من كتب