Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

هل هجوم داغستان ذئاب منفردة أم قمة جبل تطرف أصولي؟

أعلن الرئيس ميليكوف عن مراجعة الملفات الشخصية للمسؤولين والنواب في الجمهورية

رئيس داغستان سيرغي ميليكوف يزور موقع الهجوم الإرهابي على كنائس ومعبد يهودي (رويترز)

ملخص

وصف رئيس الشيشان رمضان قديروف الحادثة الإرهابية التي وقعت في محج قلعة ودربنت بأنها "استفزاز حقير ومحاولة لإثارة الفتنة بين الأديان"

أثار الهجوم الإرهابي المسلح الذي وقع في داغستان في الـ23 من يونيو (حزيران) الماضي وأدى إلى مقتل 21 شخصاً وجرح أكثر من 40 آخرين، مسألة صعود المتطرفين الإسلاميين في شمال القوقاز مجدداً. وبينما تحاول موسكو تركيز جهودها على حربها في أوكرانيا ومقارعة الغرب الذي تتهمه بالتخطيط لإلحاق هزيمة استراتيجية بها، وجه الأصوليون المتطرفون صفعة قاسية للعيش المشترك بين القوميات والأعراق والطوائف والمذاهب المختلفة في هذا البلد الشاسع والمتنوع والمتعدد الأهواء والانتماءات.

والمفارقة الغريبة تكمن ليس فقط في طبيعة الأهداف التي هاجمها الإرهابيون، بل في أن جميع المهاجمين تقريباً هم أقارب مسؤولين محليين رفيعي المستوى ينضوون في حزب السلطة "روسيا الموحدة"، لذلك يحذر المراقبون من أن تغلغل الإسلام الراديكالي بعمق لم يقتصر على صفوف عامة المواطنين في المجتمع فحسب، بل تعدى ذلك ليصل إلى قلوب وعقول نخبته أيضاً، لكن رغبة موسكو المستمرة في تحميل قوى خارجية ما يحصل على أراضيها، ومحاولاتها تحميل مسؤولية هذا الهجوم الإرهابي الدموي لأعداء خارجيين تجعل من المستحيل مواجهة التهديد الحقيقي بصورة فعالة.

رد فعل السلطات

أعلن رئيس داغستان سيرغي ميليكوف في كلمة ألقاها خلال اجتماع لمجلس الشعب في الجمهورية، عن مراجعة الملفات الشخصية للمسؤولين والنواب في البلاد. واقترح معرفة ما إذا كان هناك في الحكومة من "يخلقون بصورة مصطنعة هذا الواقع المضطرب الذي تعرضت الجمهورية بسببه للانتقاد لسنوات عديدة، أي العشائرية، وأنهم لا يميزون التقاليد العائلية والسلالات عن العشائر".

ووصف رئيس داغستان الأهداف الرئيسة للمسلحين بأنها زرع للذعر والخوف، "الذعر والخوف هما ما كان هؤلاء غير البشر يعولون عليه في المقام الأول. لن يتوقعوا هذا من الداغستانيين!". وقال ميليكوف، "أحث الجميع على التزام الهدوء".

أما رئيس الشيشان رمضان قديروف فوصف الحادثة التي وقعت في محج قلعة ودربنت بأنها "استفزاز حقير ومحاولة لإثارة الفتنة بين الأديان"، إذ أظهر الإرهابيون مرة أخرى طبيعتهم الخسيسة والجبانة، وفي الوقت نفسه كما هو الحال دائماً، اختاروا أشخاصاً عزل كضحايا فقتلوا الكاهن العجوز المريض". وتابع، "أولئك الذين ارتكبوا هذه الجرائم الدنيئة ليس لديهم إيمان ولا أمة ولا رجولة أساس. فقط آخر الكائنات غير البشرية يمكنها القيام بذلك، ويجب تدميرها على الفور".

واعتبر المبعوث الرئاسي المفوض إلى منطقة شمال القوقاز الفيدرالية يوري تشايكا الهجمات في داغستان بأنها محاولة لتقويض الوضع في المنطقة وشمال القوقاز.

ودان مفتي داغستان أحمد أفندي عبدالله المسلحين، مشيراً إلى أن المسلمين الحقيقيين لن يظهروا أبداً عدواناً على الأبرياء والعزل. وشدد على أن "إراقة دماء المصلين في معابدهم هو عمل دموي وجنون غريب تماماً عن الإسلام".

 

 

ووصف نائب آخر في مجلس الدوما من داغستان، سلطان خامزاييف، الهجمات على دربنت ومحج قلعة بأنها "محاولة لتفاقم الأوضاع وخلق صراعات بين الأعراق والأديان".

واعتبر رئيس إنغوشيا المجاورة محمود علي كاليماتوف الهجمات المسلحة في داغستان والهجوم الصاروخي على سيفاستوبول، الذي أسفر عن مقتل أربعة أشخاص وإصابة أكثر من 140 آخرين، بأنها حلقات في نفس السلسلة. وكتب على قناته في "تيليغرام"، "يبذل أعداؤنا قصارى جهدهم لزعزعة استقرار الوضع داخل بلادنا، لكنهم لن ينجحوا".

وقائع الهجوم

في يوم الأحد الـ23 من يونيو الجاري هاجم مسلحون صنفتهم السلطات الروسية كإرهابيين مراكز الشرطة ومعبداً يهودياً وكنائس. وأسفر إطلاق النار في مدينتي دربنت والعاصمة الداغستانية محج قلعة عن مقتل ما لا يقل عن 21 شخصاً، غالبيتهم، 17 شخصاً، من ضباط إنفاذ القانون، وأربعة آخرون من المدنيين، بما في ذلك رئيس الكنيسة الأرثوذكسية. وعلى أثر ذلك تمكنت القوات الأمنية من القضاء على خمسة مسلحين، فقتلت ثلاثة في محج قلعة واثنين في دربنت، واستمر إطلاق النار حتى وقت متأخر من الليل، وفي صباح اليوم التالي فقط رفع نظام عمليات مكافحة الإرهاب في محج قلعة ودربنت، وجرى إعلان الحداد لمدة ثلاثة أيام في داغستان.

أما دربنت فشهدت هجوم مسلحين على كنيسة شفاعة السيدة العذراء مريم في شارع لينين، حيث قتلوا رئيس الكنيسة نيكولاي كوتيلنيكوف، وقطعوا حنجرته أمام زوجته، وهاجموا كنيس كيلي نوماز اليهودي في شارع تاجي زادة الذي كان خالياً، ووقعت هجمات مماثلة في محج قلعة.

وسمع دوي انفجارات وإطلاق نار في يوم الأحد الذي يعد مقدساً لدى المسيحيين في مناطق مختلفة من داغستان في وقت واحد. واقتحمت مجموعات من المسلحين بصورة منسقة الكنائس الأرثوذكسية والمعابد اليهودية وهاجمت أيضاً ضباط الشرطة واستهدف الإرهابيون مواقع دينية. ولم يحاول المسلحون احتجاز رهائن ولم يقدموا أية مطالب أو يدلوا بأي تصريحات لا قبل الهجوم ولا بعده.

 

 

صور مروعة للقتلى ومقاطع فيديو لإطلاق النار ولقطات لآليات ثقيلة وكنيس يهودي محترق، هذا ما أسفرت عنه الهجمات الإرهابية في محج قلعة ودربنت، التي نفذها إرهابيون.

وفيما يتواصل التحقيق الرسمي لتوضيح كافة ملابسات المأساة، لا يعلق المراقبون أي آمل على كشف لجنة التحقيق التابعة للاتحاد الروسي التي فتحت تحقيقاً في القضية الجنائية المتعلقة بالأعمال الإرهابية في جمهورية داغستان دوافع هذا الهجوم، ولا هوية مدبريه والذين يقفون وراءه ولا الهدف منه.

وذكرت لجنة التحقيق الروسية أنه تم التعرف على هوية خمسة أشخاص متورطين في الهجمات تم القضاء عليهم، لكنها لم تكشف عن هويات شركائهم الذين فروا بعد تنفيذ الهجوم الإرهابي، ولا الأماكن التي يمكن أن يكونوا لجأوا إليها. واكتفت بالقول إن التحقيق يحاول تحديد هوية الأشخاص الآخرين المتورطين في ارتكاب هذه الجرائم.

يشار إلى أنه تم التعرف على هوية المهاجمين الثلاثة المقتولين، وهم ابنا وابن شقيق رئيس منطقة سيرغوكالينسكي في داغستان ماغوميد عمروف. واعتقل المسؤول نفسه وطرده من صفوف حزب "روسيا الموحدة" الحاكم على عجل.

من بين المهاجمين الذين تم القضاء عليهم أيضاً حاج مراد كاغيروف، وهو مقاتل سابق في نادي الفنون القتالية المشتركة، المملوك لبطل هذه الفنون السابق حبيب نور ماغوميدوف، الذي استقبله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكثر من مرة في الكرملين، والأخير لم يعلق ولا بكلمة واحدة على الهجوم الإرهابي واكتفى بضبط النفس.

رد الفعل هذا لم يمر دون أن يلاحظه أحد، وألقى بعض المدونين المؤيدين للحرب باللوم على "الأصنام الشبابية الجديدة" في شمال القوقاز في ظهور الإرهاب الديني مرة أخرى.

تطرف أصولي

تدريجاً، بدأ التطرف الأصولي في مظاهره الكهفية يعود إلى هذه الجمهورية القوقازية المجاورة للشيشان وإنغوشيا. هذه المرة لم يحضر هذا التطرف الأصولي مبعوثون عرب، بل جاء به (زعماء الرأي) المحليين، أصنام الشباب. المدونون الذين لديهم الملايين من الجماهير ونجوم المصارعة ومقاتلي الفنون القتالية المختلطة.

على الشبكات الاجتماعية، كان زعماء الرأي هؤلاء يتباهون بتدينهم، مما أدى إلى تمثل معجبيهم بهم، لكن هذه الهواية لم يكن لها سوى قليل من القواسم المشتركة مع الإسلام التقليدي، وتحولت إلى شيء ثقافي فرعي، يتعارض مع أسلوب الحياة التقليدي القديم في هذه المنطقة المعروفة بتدينها.

لماذا انفجرت في داغستان؟

يقول المراقبون إن داغستان هي واحدة من أفقر المناطق في الاتحاد الروسي وتتمتع بإمكانات احتجاج كبيرة، وذلك في تعليقهم على الهجمات الإرهابية التي وقعت في محج قلعة ودربنت، كما أنهم يرون اتجاهاً جديداً في الحركة السرية المتطرفة.

كانت داغستان تاريخياً منطقة صعبة، فهي موطن لعشرات الأعراق والإثنيات والجنسيات، هذا التنوع الغني هو ما يسهل دائماً اللعب على وتره. ففي أوائل العقد الأول من القرن الـ21، عندما كانت الهجمات الإرهابية تقع حرفياً كل يوم في شوارع محج قلعة وكاسبيسك وخاسافيورت، أدى الإرهاب المتفشي، الممزوج بمزيج من الدين واللصوصية، إلى تحويل هذه الجمهورية القوقازية الفقيرة إلى معقل للإسلام الراديكالي في شمال القوقاز، إذ يقتل ضباط إنفاذ القانون كل يوم تقريباً.

وبدأت الحرب في سوريا، فتوافد الأصوليون المحليون إلى الشرق الأوسط بحثاً عن "حياة أفضل". دعا المجندون المحترفون الناس إلى الخلافة بمهارة شديدة لدرجة أن العائلات والأطفال ذهبوا إلى هناك. لبعض الوقت، أخذت داغستان أخيراً نفساً عميقاً. وأدت العقوبات الغربية المتلاحقة على روسيا، إلى تدفق الاستثمارات وحتى السياح إلى هذه الجمهورية، وهو ما لم يكن أهلها يتخيلونه قبل 15 عاماً. ذهب المصطافون من جميع أنحاء روسيا إلى الجبال المحلية وشاطئ بحر قزوين.

 

 

وفي أوائل العقد الأول من القرن الـ21، تم تجنيد أشخاص ليصبحوا متطرفين في مساجد "البوابة". اليوم يستخدم الأصوليون تطبيق "تيليغرام" ويزرعون مجموعاتهم عليه، إذ يشكل الدعاة "محاربين" جدداً من مادة هيولية خام تتكون من تعليم ضعيف ونظرة ضيقة الأفق للعالم.

أول استفزازات الأصوليين ظهرت أثناء التعبئة الجزئية التي نفذتها روسيا في خريف عام 2022، حين رفض المتطرفون الالتحاق بصفوف الجيش الروسي أو الانصياع لقرار التعبئة. وتلى ذلك الاجتياح الذي وقع في مطار محج قلعة، عندما فتشت حشود وحشية المطار بحثاً عن اليهود الذين كان من المفترض أن يسافروا جواً من تل أبيب، هذا كله كان أول الغيث، وتجارب السيطرة على الكتلة، والتي، للأسف، أسفرت عن نتيجة دموية لم يتخيلها الكرملين واستخباراته.

إرهاب المتطرفين ضد المسيحيين واليهود

يقول هارولد تشامبرز المتخصص في شؤون شمال القوقاز الذي يدرس العلوم السياسية في جامعة إنديانا في الولايات المتحدة الأميركية، "كانت الهجمات ذات طبيعة أصولية". وأضاف "في الوقت نفسه هناك مشاعر معادية للسامية وللمسيحية وسياسية. هنا حتى الأمس، كنت سأمتنع عن الحديث عن الجانب السياسي، لكن الآن أصبح معروفاً أن والد المهاجمين الثلاثة عضو في حزب روسيا الموحدة، وما يعني أيضاً أنه كان هجوماً إرهابياً أصولياً هو أنهم تركوا نقوشاً على أبواب الكنيس تحوي آيات من القرآن، والتي عادة ما يشير إليها الإرهابيون".

ولم يكن اختيار الكنيس كهدف للهجوم مفاجئاً لتشامبرز في ضوء أحداث الخريف الماضي. وقال، "أعني أعمال الشغب المعادية للسامية في مطار محج قلعة الدولي. وكان وجود السخط العام مع احتمالات العنف بين قطاعات واسعة إلى حد ما من المجتمع واضحاً للغاية".

ووصف عالم السياسة عباس غالياموف هذه العملية على النحو التالي، "يشير عمل إرهابي آخر ارتكبه الأصوليون إلى هجر العلاقات الاجتماعية، وهجر الخطاب السياسي". أما المتخصصة الداغستانية والصحافية والكاتبة الألمانية، إلكه فيندش، فتقول في مقابلة مع التلفزيون الألماني، "بعد كل شيء، فإن المشاعر المعادية للسامية في هذه المنطقة القوقازية بالذات يجب أن تكون مخالفة للمنطق، لأن الجالية اليهودية التي كانت موجودة في الجمهورية قد تركتها عملياً".

أثر داعشي أم أوكراني؟

أشاد فرع تنظيم "داعش" في أفغانستان - ولاية خراسان، بمنفذي الهجمات الإرهابية في داغستان. وظهر البيان على شبكات التواصل الاجتماعي في حسابات مرتبطة بالخلية الروسية للجماعة. في غضون ذلك، ربط رئيس داغستان، سيرغي ميليكوف، الهجمات الإرهابية في المنطقة بالحرب في أوكرانيا. وذكر أن "الحرب قادمة إلى وطننا"، ومن المؤكد أن محاولات ربط الإرهاب الأصولي بأوكرانيا تبدو غير مقنعة.

لذلك يقول عالم السياسة غالياموف، "حقيقة أن هناك أثراً أوكرانياً أو أميركياً في هذه القصة برمتها ستصدقها، بالطبع، أقلية قليلة، أي إن الغالبية تعرف أن الأصولية كعامل موجود بغض النظر عن الغرب".

ويشير تشامبرز إلى أن الرواية التي تربط أوكرانيا بتنظيم "داعش" الإرهابي هي "ربط سخيف"، فالضربات الصاروخية لنظام "أتاكمس" الصاروخي الأميركي على مدينة سيفاستوبول والهجمات الإرهابية في داغستان، "هذان مجرد حدثين في اليوم نفسه، ألا يمكن أن يكون هذا محض صدفة؟" يسأل المحلل الأميركي ببلاغة، لكن السلطات الروسية لا تتوقف عن محاولة ربط هذه الأحداث ببعضها بعضاً.

على سبيل المثال، أشار تشامبرز إلى الاتهامات التي وجهت أخيراً في ألمانيا ضد الإرهابيين من جماعة ولاية خراسان، الذين قدموا إلى ألمانيا من أوكرانيا بعد بداية حرب واسعة النطاق شنتها روسيا. وقال إنه "عندما اندلعت هذه الأخبار، قفز النظام البيئي الإعلامي الدعائي إليها"، مؤكداً أن محاولة الربط بين أوكرانيا والإرهابيين ليست فقط سخيفة، ولكنها أيضاً "لكي أكون صادقاً، مثيرة للسخرية للغاية".

جيل جديد من الإرهابيين

يعود المراقبون بالإشارة إلى أن السلطات الروسية نفسها تتحمل جزئياً المسؤولية عن نمو المشاعر الأصولية في شمال القوقاز. فمن ناحية، فإن تعسف السلطات آخذ في الازدياد ومن ناحية أخرى، تسهم السلطات في تعزيز النماذج الاجتماعية القديمة، مما يؤدي إلى نمو الأصولية ليس فقط بين المسلمين، خصوصاً أن الدولة نفسها تتمسك بالقيم التقليدية وتخلق المتطلبات الأساسية للتفكير الرجعي، فهي لا تسهم في تحديث المجتمع، بل تحيي المجتمع القديم، والأصولية ما هي إلا صورة من صور السلفية الدينية.

وبحسب هارولد تشامبرز، فإن السلطات تمارس قمعاً واسع النطاق وتقمع محاولات إظهار أية صورة من صور النشاط العام، "حتى لدعم النظام". أحد الآثار الجانبية لهذا الحظر على النشاط العام، في رأيه، هو أن "المكان الوحيد الذي يمكنك أن تفعل فيه شيئاً ما هو الإنترنت. وهناك من المرجح أن تتواصل مع لاعبين متطرفين".

اقرأ المزيد

وفي الوقت نفسه يشير المتخصصون إلى حدوث تغيير في الأجيال في صفوف المتمردين المتطرفين، أولئك الذين ما زالوا يشاركون في الهجمات الإرهابية خلال حربي الشيشان الأولى والثانية، بفضل الاتفاقات السرية، غادروا إلى سوريا عام 2012 تقريباً، كما تذكر إلكه فيندش.

ويقول تشامبرز إن جيلاً جديداً من المتطرفين الإسلاميين ظهر في شمال القوقاز، مضيفاً "لم يتشربوا تربية الاتحاد السوفياتي وأيديولوجيته، إنهم يعيشون هذه الفترة على هامش النهضة الدينية والقومية النسبية، على رغم أنها ليست قومية تماماً إذا كنت مسلماً في شمال القوقاز. إن نقطة البداية لتفكيرهم مختلفة تماماً، القومية بين الأشخاص المتطرفين. تتقاطع مع الدين في كثير من الأحيان".

مناخ خصب للتطرف

تظل داغستان واحدة من أفقر المناطق الروسية، فعلى رغم الإمكانات الاقتصادية العالية التي تتمتع بها، لا يتمكن الجميع في بعض الأحيان من الوصول إلى المياه الجارية، كما أن داغستان هي أيضاً أكثر جمهوريات شمال القوقاز تديناً. المذهب الشافعي للإسلام هو السائد هناك. في الوقت نفسه في هذه الجمهورية، إذ يعيش ممثلو ما يصل إلى 100 مجموعة عرقية مختلفة، كانت الصراعات العرقية مشتعلة منذ عقود، وتغذت الأصولية من هذه الصراعات العرقية أيضاً.

على هذه الخلفية، تعد ممارسة موسكو الجديدة إشكالية - تعيين قادة داغستان ليس من النخب المحلية ولكن جلب "الفارانغيين" إلى المناطق، مثل الرئيس الحالي ميليكوف. بالنسبة إلى السكان المحليين، سيظل هؤلاء المديرون "عناصر غريبة" لن تحظى بالثقة الكافية ولن يتم شرح "كل تعقيدات هذا الموقف أو ذاك، وهذه التفاصيل المهمة أو تلك بصورة عابرة".

الصدمة الناجمة عن الهجوم الإرهابي الأخير ستمر في مرحلة ما وستعود الحياة إلى طبيعتها ومجراها، لكن سيظل هناك تهديد بأن يؤدي سبب ما قد يكون تافهاً، إلى إثارة هجمات مشابهة، لأن احتمالات السخط لا تزال مرتفعة.

إن مظاهر التطرف الديني في داغستان أصبحت بالفعل ظاهرة متكررة، فبعد أعمال الشغب التي وقعت في مطار محج قلعة أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على خلفية الحرب الإسرائيلية ضد "حماس"، إذ اقتحم حشد عدواني مبنى المطار بحثاً عن ركاب طائرة وصلت من تل أبيب، دعا "قادة الرأي" المحليون، بمن في ذلك الرياضيون الشعبيون، إلى العفو عن المهاجمين.

 

 

وبدلاً من أن تدرس السلطات الروسية هذه الظاهرة وتحللها وتستقي العبر والدروس منها، سارعت الاستخبارات الروسية تقليدياً إلى الإشارة إلى "الغرب الجماعي" وأوكرانيا باعتبارهما الجناة الرئيسين. فلاديمير بوتين نفسه، بحسب المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، لا يخطط لإلقاء أي خطابات حول هذا الموضوع. ومع ذلك، سارع نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، وكذلك "صقر" موسكو الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف، إلى الجمع بين الهجوم الصاروخي الذي وقع الأحد الماضي على سيفاستوبول والهجمات الإرهابية في داغستان في سلة واحدة.

وكتب ميدفيديف، "كل ما حدث لم يكن عملاً عسكرياً، بل كان هجوماً إرهابياً حقيراً وحقيراً جداً ضد شعبنا، تم ارتكابه في عطلة أرثوذكسية. تماماً مثل مذبحة داغستان التي نفذها المتطرفون. لذلك، الآن جميعهم - السلطات الأميركية ونظام بانديرا والمتعصبين المجانين - لا يختلفون عن بعضهم بشيء بالنسبة لنا".

ومع ذلك، هناك أولئك الذين يفكرون بصورة مختلفة. وأثار تعليق الرئيس السابق لوكالة الفضاء الروسية، ديمتري روغوزين، الذي دعا هذه المرة إلى عدم ربط إطلاق النار في شمال القوقاز بأوكرانيا والدول الغربية، صدى على شبكات التواصل الاجتماعي.

وكتب الرئيس السابق لوكالة "روسكوزموس" على شبكة "في كا" للتواصل الاجتماعي، "ولكن إذا أرجعنا كل هجوم إرهابي ينطوي على التعصب القومي والديني والكراهية وكراهية روسيا إلى مكايد أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي، فإن هذا الضباب الوردي سيقودنا إلى مشكلات كبيرة. نحن نرى القشة في عين غيرنا، ولكننا لا نستطيع أن نرى الجزع في عيننا. لقد حان الوقت لذلك".

ومع ذلك، يعتقد النائب في مجلس الدوما عن جمهورية داغستان عبدالكريم جادجييف أن أجهزة الاستخبارات الأوكرانية ودول "الناتو" تقف وراء الهجوم الإرهابي في جمهوريته.

وللتذكير فإن فلاديمير بوتين وقوات الأمن الروسية أعلنا في وقت سابق عن تورط الأجهزة الخاصة الأوكرانية في الهجوم الذي شنه إسلاميون متطرفون على قاعة مدينة كروكوس في موسكو في أبريل (نيسان) الماضي. ومع ذلك، لم يتم تقديم أي دليل على الإطلاق.

وفي الوقت نفسه يخشى المحللون من أن الهجوم المسلح في داغستان بعد أشهر قليلة من الهجوم على قاعة الحفلات الموسيقية في موسكو يهدد بتعريض روسيا لموجة من العنف من المتطرفين الدينيين. فوفقاً للمتخصصين، فإن تنظيم "داعش"، الذي أعلن مسؤوليته عن الهجوم الإرهابي في كروكوس - على رغم كل محاولات موسكو لتحويل التركيز إلى أوكرانيا - أصبح أكثر نشاطاً. وحقيقة أن أقارب مسؤول محلي رفيع المستوى كانوا من بين المشاركين في الهجوم الحالي في داغستان تشير إلى أن الأصولية المتطرفة لم يخترق المجتمع فحسب، بل نخبته أيضاً.

إن رغبة روسيا المستمرة في إلقاء اللوم على أوكرانيا وحلفائها تجعل من المستحيل التصدي بفعالية للتهديد الحقيقي الذي يشكله التطرف الأصولي.

فشل استخباراتي

أدى الهجوم الإرهابي مرة أخرى، كما حدث أثناء الهجوم الإرهابي في قاعة مدينة كروكوس قرب موسكو، إلى سقوط عشرات الضحايا، إضافة إلى ذلك، أشعل المتطرفون النار في المعبد والكنيس الواقع على بعد نصف كيلومتر فقط في دربنت. كان على أبناء الرعية الأرثوذكسية والكهنة الذين بقوا في الكنيسة أن يختبئوا في الكنيسة. أولئك الذين جاءوا إلى الكنيس اليهودي في هذا الوقت كانوا يتمتعون بحماية أفضل لأنه بعد الهجوم على مطار محج قلعة بحثاً عن يهود آتين من إسرائيل في أكتوبر 2023، وبناءً على طلب المؤتمر اليهودي الروسي، صارت الشرطة الروسية تنتشر باستمرار حول المعابد اليهودية وتلقى رجال وضباط الشرطة ضربة الإرهابيين وقتلوا، لكنهم حموا المدنيين.

ماذا تقول هذه القصة المأسوية؟ يبدو أن المنظمة الوحيدة في روسيا التي أخذت على محمل الجد الاضطرابات في المطار، إضافة إلى الهجمات الإرهابية الأخيرة في روسيا، بما في ذلك الهجوم على قاعة مدينة كروكوس، والتي أعلن مسلحو "داعش" مسؤوليتهم عنها، هو المؤتمر اليهودي الروسي الذي نظم الأمن للكنيس.

في حين أن نائب مدير جهاز الأمن الفيدرالي (الاستخبارات) ونائب رئيس اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب، إيغور سيروتكين، قبل أربعة أيام فقط من الهجوم الإرهابي، ترأس اجتماعاً في محج قلعة وتحدث بصخب حول الخطر الذي يشكله زيادة تدفق السياح إلى داغستان. هذه الجمهورية الجبلية والساحلية.

عند مناقشة عدم كفاءة ممثلي الحكومة الروسية، يجب ألا ننسى رسالة نائب مجلس الدوما أوماخان أوماخانوف، الذي طلب أيضاً قبل يومين من الهجوم الإرهابي الجديد من المحكمة العليا إعادة قضية محاكمة المتهمين بشن الهجوم على مطار محج قلعة إلى محكمة عاصمة داغستان. ووفقاً له، كان من الصعب على أقارب المتهمين السفر إلى إقليم كراسنودار، إذ تم نقل هذه المحاكمة بحيث لا يمكن ممارسة الضغط على المحكمة في داغستان. لا يستحق طرح السؤال، ماذا كان سيفعل بالقاضي الذي نظر في هذه القضية؟

آراء المتخصصين

الهجوم المتزامن على المعابد اليهودية والكنائس هو عمل أيديولوجي محدد للغاية. لماذا تم ذلك بالضبط؟ لا يوجد تفسير منطقي حتى الآن. وقال ألكسندر فيركوفسكي، المتخصص في العلاقات بين الأعراق والأديان، ربما يكون لهذا الحدث نص فرعي بعيد المنال، أو سبب محلي.

أما متخصصة شمال القوقاز إيرينا ستارودوبروفسكايا فليست في عجلة من أمرها للتوصل إلى صلة مباشرة بين المذبحة التي وقعت في مطار محج قلعة والهجمات الإرهابية الأخيرة. وتقول إن هناك قوى مختلفة تقف وراءها وهي تعكس ظواهر مختلفة. وتضيف، "خلال الحادثة التي وقعت في المطار، لم يكن الأمر يتعلق بمعاداة السامية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بل يتعلق برفض سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين".

تشير ستارودوبروفسكايا إلى أن عملية أكتوبر كانت هائلة وعكست الحالة المزاجية لجزء معين من الشباب، ونفذ عملية الأحد من قبل خلية إرهابية سرية للغاية، وإظهار الكراهية الدينية خلالها. وتابعت، "ليس لديَّ أي سبب للاعتقاد أن الإرهابيين يحظون بدعم كبير بين سكان الجمهورية". ووفقاً لها، في وقت كانت فيه مشكلة العمل السري الإرهابي ذات صلة، لم تكن المواقف التي كان فيها الأب الذي كان مسؤولاً أمنياً لديه أطفال مختبئين شائعة - كان الانقسام في المجتمع مؤلماً للغاية ويمر عبر العائلات".

ولاحظ فيركوفسكي أنه بعد أن حمل الناس السلاح وذهبوا إلى الغابة، لا يمكن فعل أي شيء آخر غير العمل في الوقت المناسب لعناصر الخدمة الخاصة، "السؤال الأكثر إثارة للاهتمام هو ما يجب القيام به لمنعه من الوصول إلى هذه المرحلة. ولا يصل المسلم العادي إلى هذا الأمر إلا نادراً، إلا إذا كان هناك دافع شخصي مثل الانتقام. وفي ظل الظروف الحالية، من المهم أن تقوم وكالات إنفاذ القانون بجميع الإجراءات بصورة قانونية قدر الإمكان، فالأشخاص المحيطين بهؤلاء المتطرفين حساسون جداً لتناسب الإجراءات المتخذة".

 

 

ويشير اللواء المتقاعد من جهاز الأمن الفيدرالي ألكسندر ميخائيلوف إلى أن المهاجمين لم يكونوا مجرد قطاع طرق، بل قطاع طرق من النخبة المحلية. ويقول "الوضع يعيد نفسه، لم يتم تقديم أي مطالب، ويسعى المهاجمون إلى قتل أكبر عدد ممكن من الأشخاص".

أعداء آبائهم

قصة الأخوين عمروف ابني رئيس منطقة سيرغوكالينسكي في الجمهورية قصة نموذجية بالنسبة لشمال القوقاز الروسي. وقتل كلاهما خلال عملية مكافحة الإرهاب، تم بعدها مداهمة منزل والدهما واعتقاله هو نفسه، ولكن هناك شكوكاً جدية في أن البيروقراطي المحلي الكلاسيكي، محمد عمروف، المنتمي إلى حزب السلطة "روسيا الموحدة"، كان يتقاسم التعصب الأصولي مع أبنائه وابن أخيه.

لكن مما لا شك فيه أنه قام بتغطيتهم. هو نفسه، كما يتبين من لقطات تفتيش منزله، كان يعيش في فيلا تشبه إلى حد كبير ملكية نبيلة أو قصراً شرقياً، يصعب بناؤه على راتب مسؤول. ونشأ أبناؤه تحت رعايته في المكان نفسه، وعاينوا الفساد الشامل في النخب الحاكمة في روسيا عامة، وداخل النخب الداغستانية بخاصة، لذلك دعموا على الأرجح أفكار دعاة الإسلام المتشددين.

بحثاً عن أعداء وهميين

ولكن ليس والد عمروف فقط هو الذي لم يسع إلى فضح أطفاله، ولكن أيضاً أولئك الذين كان من المفترض أن يفعلوا ذلك في مناصبهم - ضباط الشرطة المحلية والاستخبارات - فالهجوم الإرهابي على قاعة مدينة كروكوس والمذبحة في مطار محج قلعة، كل هذا لم يخفهم. بعد أن نسوا كيفية العمل، فإنهم يشاركون اليوم في التحليل الأدبي للمسرحيات والقصائد في روسيا بغرض الدعاية الإرهابية، وكذلك القبض على تلاميذ يبلغون من العمر 15 سنة يزعم أنهم يشاركون في الدعاية المناهضة للحرب.

الهجوم الإرهابي في داغستان نوع جديد من الهجمات الإرهابية، ولذلك فهو يعكس الواقع السياسي القائم في روسيا. على مدى 30 عاماً، كانت الهجمات الإرهابية للأصوليين تستهدف إما احتجاز رهائن والتفاوض عليهم. أو الهجوم على قوات الأمن لقتل أكبر عدد منهم، لكن الهجوم الإرهابي هو أول هجوم يستهدف معابد أرثوذكسية ويهودية، ويسفر عن مقتل كاهن أرثوذكسي، أي إنه كان موجهاً ضد ديانات أخرى. والهدف واضح وهو إثارة مذابح ومن ثم استخدام هذا الأمر لإشعال حرب بين الأديان في روسيا.

يعد الهجوم الإرهابي في داغستان مثالاً آخر على ما يؤدي إليه تشويه الذاكرة التاريخية واستبدال القيم الحقيقية التي تربى عليها الشعب السوفياتي بتلك المفروضة من أحزاب وقوى مصطنعة لا فكر ولا أيديولوجية لها إلا مصالحها وبقاؤها في السلطة والحكم. لم يخف ولا يخفي الغرب منذ فترة طويلة هدفه المتمثل في إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا. وفي الوقت نفسه يدرك الجميع أن تحميل الغرب وأوكرانيا تبعة كل جريمة كراهية أو عملية إرهابية تقع في روسيا ما هو إلا ذر للرماد في العيون. وفي مثل هذا الموقف، لا ينبغي أن يكون الرد باتهام الآخرين بكل الموبقات، بل بالتمحيص والتفكير في أسباب ازدهار الأصوليات الدينية المتطرفة وأفكارها الغيبية، وأيضاً في تحسين العمل الأيديولوجي داخل البلاد وفي نفوس العباد. بادئ ذي بدء، مع الأطفال، الذين يستوعبون الدعاية الأصولية المتخفية في شكل خدمات عبر الإنترنت والثقافة الشعبية بسهولة أكبر من غيرهم.

 

 

وصل بوتين إلى السلطة في موجة الحرب ضد الإرهاب. وأطلق آنذاك مقولته الشهيرة "إذا أمسكنا بهم (الأصوليين الإرهابيين) في المرحاض، فسننقعهم فيه". وبذريعة الحرب ضد الإرهاب، بدأت عملية احتكار السلطة في يد الحاكم الفرد وحرمان الروس من الحقوق والحريات السياسية.

في العام الـ25 من حكم بوتين، تتم محاكمة المعارضين السياسيين والصحافيين والناشطين بصورة جماعية بتهم إرهابية ومتطرفة. ومن الواضح أن ثلاث هجمات إرهابية أصولية تجري على التوالي في البلاد (كروكوس وروستوف وداغستان).

ولإعادة صياغة عبارة معروفة، أولئك الذين هم على استعداد لقبول الديكتاتورية من أجل مكافحة الإرهاب، بطبيعة الحال، سيحصلون على الديكتاتورية، لكن الإرهاب سيقض مضاجعهم، لأن الحرب ضد آفة الإرهاب والأصولية والتطرف بغياب الديمقراطية وإشراك جميع القوى الحية في المجتمع ستكون أكثر صعوبة ومن دون نتائج حاسمة.

لا تريد السلطات الروسية الاعتراف بخطر التطرف الأصولي في القوقاز عامة، بحجة عدم تخويف السكان من القوى الأصولية السرية، والتي أصبحت أقوى خلال وقت تحولت فيه جميع قوات الاستخبارات وكل قوة الدولة إلى الحرب ضد أوكرانيا، والبحث عن، أو حتى اختراع، المنشقين. لذا، يبدو أنه من غير المفيد للجميع أن يغمضوا أعينهم ويزيفوا الحقائق أو يتعاموا عنها، لأن ذلك سيجعل المأساة القادمة أكثر دموية وأشد احتمالاً، بفعل مؤامرة الصمت والتعامي هذه.

المزيد من تقارير