كان والدي في الواحد والتسعين في عمره عندما حضر وتحدث في مؤتمر حزب العمال للمرة الأولى والوحيدة سنة 2014. ولو قلت له عندما كان يبلغ 81 من عمره بأنه بعد عشر سنوات سيكون عزيزا جدا لدى حزب العمال، كان سيقول: "آتيني بكذبة اخرى".
كان هاري ليسلي سميث اشتراكيّاً محبّاً لحزب العمال، لكنه لم يورط نفسه في وحل السياسة. وخلال عمره الطويل، شاهد دوماً آمال الناس العاديين يحطمها نظام سياسي يعطي الأفضلية للسلطة على حساب المنفعة المشتركة.
إلا أن حرب العراق، وانهيار البنوك سنة 2009 وسياسة التقشف التي انتهجها ديفيد كامرون بدوافع إيديولوجية أثارت جنونه، لذلك قرر ألا ينخرط في السياسة مجدداً شأنه في ذلك شأن هاورد بيل في فيلم ("الشبكة").
واستطراداً، عندما بلغ الـ88 بدأ يحتج ضد تدمير دولة الرعاية الاجتماعية التي بناها الجيل الذي ينتمي إليه بعد الحرب العالمية الثانية. أصبح نسخة أكبر سناً من (الناشطة البيئية) غريتا تونبرغ، ويتبنى قضية الحفاظ على هيئة "خدمات الصحة الوطنية" كمؤسسة عامة.
انضم إلى وسائل التواصل الاجتماعي وبدأ يكتب تغريدات حادة حول جشع الواحد في المائة من الشعب، والصدمة النفسية لتنشئته ضمن الطبقة العاملة المحرومة كليّاً في يوركشاير التي مزقها الكساد العالمي الكبير.
وكذلك عرف كيف كانت الحياة بالنسبة للناس قبل "خدمات الصحة الوطنية"، ولذلك السبب لن يدع الأغنياء وأصحاب الدوافع السياسيّة، ينسون ذلك. وكذلك كتب مقالات في الصحف وألّف كتاباً بعنوان "الوقفة الأخيرة لهاري". وبفضل ذلك الكتاب، دُعِيَ للتحدث في مؤتمر حزب العمال سنة 2014 على الرغم من أنه كان نكرة سياسية وغريباً عن أولئك الذين يتحكمون في سياسة اليسار.
لا أعتقد أن المئات من الناس الذي جاؤوا ليستمعوا إليه متحدثاً عن الحاجة إلى الإبقاء على هيئة "خدمات الصحة الوطنية" في أيدي الجمهور كانوا يتوقعون أن رجلا مسنّاً ولد بُعيْد الحرب العالمية الأولى بخمس سنوات، سيزرع فيهم الحماسة والنشاط. وقبل إلقائه كلمته، كان الجو هادئا كقنينة شراب غازي تركت مفتوحة لمدة طويلة، بعد فشل خطاب إيد ميليباند المليء بالزلات في تنشيطه. لكن بعد أن استمعوا لبعض الجمل الأولى، خيم الصمت على المندوبين في القاعة. كما أجهش كثيرون منهم بالبكاء عندما تحدث حول كيف ولماذا ناضل جيله لبناء بريطانيا تتسع للجميع وليس البعض.
وعندما أنهى كلمته بندائه المثير، "ارفع يديك هيئة "خدمات الصحة الوطنية"، يا سيد كامرون"، أصبح المؤتمر مشحوناً بالطاقة. وآنذاك، أبدى أعضاء حزب العمال التزاماً قوياً للتشبث بمبادئهم والكفاح من أجل العدالة الاجتماعية وبريطانيا أفضل للجميع.
يبدو أنه بعد فضيحة حرب العراق، بدأ الحزب يعود إلى جذوره. وكما وصفت صحيفة الاندبندنت في صدر صفحتها الأولى خطاب والدي، "وأخيراً وجد حزب العمال صوته من جديد". كما ساعد الخطاب الناشطين في الحزب على شرح سبب رغبتهم في أن ينأوا بأنفسهم عن فترة بلير وبراون، والجمع بدلاً من ذلك بين روح حكومة العماليين في 1945 مع حساسيات القرن الواحد والعشرين. وعلى مدار سنوات، جاء عديد من أعضاء حزب العمال إلى والدي كي يشكروه على ذلك الخطاب، قائلين له إن كلماته غيرت حياتهم وجعلتهم يفهمون بأن النضال من أجل الديموقراطية الاجتماعية هو سعيٌ يستمر مدى الحياة. وقد تأثر والدي بالمديح الذي تلقاه، لكن الخطاب غيّر حياته إلى الأبد كذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقبل الخطاب، كان هاري هو هاري لا غير، شيخٌ متقاعد محب للأزهار وللجعة بالليمون والبولينغ. لكن بعد ذلك، أصبح أقدم ثوري في العالم، ملهماً للناس الفاقدين للأمل والمثالية في زمن تسوده الانتهازية الخبيثة. أخذ والدي الأمر كله بمزاج جيد، لكنه لا يزال يشعر بمسؤولية الاستمرار في الكفاح كنبراس من أجل مجتمع أكثر لياقة على الرغم من الأضرار البدنية التي ألحقها ذلك النضال بجسده الآخذ في الكبر.
وفي ذلك السياقن اعتاد أن يقول لي "يا جون، أنا مسن، إذن أنا في انتظار سيارة نقل الموتى سواء أكنت محشوراً في سريري أو كنت في الشارع أصرخ ضد كامرون وجماعته. لذا، يمكنني الخروج لفعل شيء جيد عوضاً عن اللعب بأصابعي."
ولذلك السبب، كان سعيداً بالمشاركة في حملة العماليين في كافة أرجاء بريطانيا خلال الانتخابات العامة في 2015. وأدرك أن السياسيين وأعضاء الحزب رأوا فيه مرآة لنضالات عائلاتهم قبل إحداث دولة الرعاية الاجتماعية.
وكان رائعاً رؤية والدي يستخدم طاقته وحماسته كلها خلال تلك الانتخابات لجلب الأصوات إلى حزب العمال. وعندما أخفق العمال في تحقيق حلمهم بتشكيل الحكومة، لم يصب بالإحباط، بل قال لشباب العمال المحبطين خلال حفلة انتخابية ليلية: "سنهزمهم في المرة القادمة."
في 2016، استخدم والدي طاقته الكاملة لدعم حملة البقاء في الاتحاد الأوروبي ولصالح حملة العمال في الانتخابات العامة التي نظمت في 2017. عندما كان لا يتحدث مادحاً ومدافعاً عن قيادة جيريمي كوربين، كان يزور المناطق الساخنة التي يقيم فيها اللاجئون محاولا إبراز محنة الناس العالقين هناك، ويشرح كيف كان يخشى أن يعود العالم إلى قساوة حقبة الثلاثينات من القرن العشرين ومخاطرها.
خلال أيامه الأخيرة، اتضح لوالدي أمر واحد تمثّل في أنه لم يكن سياسيّاً، بل مجرد رجل مُسنّ عاش أكثر من غيره تحت حكم سياسيين سيئين وغير أكفاء وجشعين وقصيري النظر. وقد رأى في كوربين ذلك الماضي المجيد الذي عرفه العمال، وسياسيّاً توفرت له فرصة لإعادة بريطانيا إلى 99 بالمئة من شعبها.
لم يعد والدي أبداً إلى مؤتمرات حزب العمال منذ 2014، لكنه تابعها كل سنة على التلفزيون. وأعرف ماذا كان سيفكر فيه هذه السنة... كان سيود رؤية الحزب يناضل ضد البريكست المدمر الذي لا يمكن الدفاع عنه.
أعرف أنه كان سيقف مع سياسة العمال الراسخة حاليًاً المتمثلة في عدم تبني موقف إزاء البريكست إلى حين انتهاء الانتخابات. لكنني أدرك أيضاً أنه ما كان ليكون سعيداً بهذا القرار.
سيحرم البريكست العمال من بناء مجتمع عادل يستطيع فيه المواطنون التمتع بمستوى معيشي لائق بعيداً عن العوز والمرض والجهل، مجتمع يمتلك القدرة على مواجهة الطوارئ المناخيّة مثلما واجه جيله هتلر.
ليس هذا الوقت المناسب لمعرفة في الاتجاه الذي تهب منه الرياح. فقد فُرضتْ البريكست على هذه الأمة من قِبَل أولئك الذين يرغبون في زيادة أرباحهم من تعاستنا بشكل مفرط، وأصبحت أزمةً وجودية. لهذا السبب كان والدي، بغض النظر عن تحفظاته حول الاتحاد الأوروبي، سيتمنى بهدوء أن يصوت أعضاء العمال بطريقة مختلفة في ذلك المؤتمر، ويشنوا حملة في الانتخابات القادمة لصالح البقاء. كان سيتخوف من أن تصبح البريكست مثلما بدت روسيا لكل جيش غازٍ: بلد أكبر من أن يجري التعامل معه دون التعرض إلى هزيمة.
© The Independent