Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أينسيل" رواية مجهولة للشاعرة مينا لوي رائدة النسوية الثورية

البريطانية- الأميركية قاربت السوريالية بحرية وكشفت بؤس الفن العظيم

الشاعرة البريطانية الأميركية مينا لوي (دار نو)

ملخص

صدرت للشاعرة مينا لوي البريطانية -الأميركية التي تعد رائدة في حقل الشعر النسوي رواية مجهولة بعنوان "أينسيل"، وفيها تبدو كأنها تعارض رواية أندريه بروتون "نادجا" وتكشف وجهاً آخر للفن والفنان في القرن الـ20.

"كانت دائماً قادرة على فهم كل شيء" إنها الكلمات الوحيدة التي قالتها غرترود ستاين عن صديقتها الشاعرة البريطانية ــ الأميركية مينا لوي (1882 ــ 1966)، ومع أن هذه الكلمات تشكل مديحاً لا يستخف به، لكونها خرجت من فم رائدة الشعر الطليعي، لكنها تبقى ما دون عبقرية لوي التي ربما تكون المرأة الوحيدة التي يمكن أن تنافس ستاين على الموقع المركزي الذي تحتله في قلب الحداثة.

هذه العبقرية تتجلى أولاً في كتابات لوي الشعرية التي فتنت إليوت، باوند، ويليامس، دوشان، بيكابيا، في أميركا، ثم المستقبليين في إيطاليا، فالدادائيين والسورياليين في فرنسا، وكل شخص حظي بنعمة قراءتها. شاعرة، حيثما حلت، سحرت ألمع وجوه زمنها، بجمالها وشخصيتها المغناطيسية، لكن وحده الشاعر ــ الملاكم أرثور كرافان تمكن من خلب قلبها عام 1917، قبل أن يغرق في خليج المكسيك عام 1918، تاركاً إياها في حالة حداد لا نهاية لها.

 

شعر لوي الذي صدر في ديوان بعنوان "الدليل القمري" (1923)، ثم في مجلات طليعية عدة، قبل أن تضطلع دار "نو" الباريسية عام 2017 بجمع النصوص في كتاب بعنوان "لا حياة ولا موت"، يتضمن أيضاً ترجمة فرنسية أولى له، هذا الشعر اعتبره جميع العمالقة الذين سبق ذكرهم، وآخرون أتوا بعدهم، من بين الأكثر ابتكاراً وثورة في القرن الـ20. لكن عبقرية لوي لا تقتصر على المجال الشعري، بل تتجلى أيضاً في كتابها "بيان نسوي" (1914) الذي أثبتت فيه قدرة نادرة على التنظير في الموضوع النسوي، داعية قبل الجميع إلى تحرير الرجل والمرأة جنسياً، ونجحت بألمعية في ربط الفردية غير الامتثالية النموذجية للحداثة، بمطالبة ضارية وبصيرة بديمقراطية تساوي بين الجنسين. تتجلى أيضاً عبقريتها في نصين مسرحيين ومجموعة قصص، وخصوصاً في رواية مجهولة بعنوان "إينسيل"، صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن الدار الباريسية نفسها.

بلا مرجع

أهمية هذه الرواية التي كتبتها لوي عام 1936، تكمن أولاً في انعدام أي مرجع سابق لها، بالتالي في انبثاقها من تلافيف ذهن "قادر على فهم كل شيء"، كي نستعيد كلمات ستاين. رواية استثنائية إذاً، مثل حياة صاحبتها وقدرها، يمكن إرساؤها في ظروف فترة ما بين الحربين العالميتين، ومقارنتها بمراجع روائية معاصرة لها. لكن أمراً فيها يقاوم هذا المسعى، وهو من دون شك جنون مشروعها. مشروع تحليلي باهر لن نجد معادلاً له، شكلاً ومضموناً ومعالجة، في تاريخ الأدب.

عم تتحدث هذه الرواية؟ يمكننا أن نقول عن علاقة عابرة وعميقة ربطت الراوية، مدام جونس، بفنان تشكيلي يدعى إينسيل، وعن سعيها على طول النص إلى فهم غموضه الحقيقي ــ الزائف. لكن هذا التوصيف يبقى على سطح الرواية ولا يطاول المنهج التحليلي المعتمد فيها. منهج غريب وفريد من نوعه، هو عبارة عن استقراء بالمحاورة يتحول إينسيل فيه إلى فاعل ومفعول به على حد السواء، بينما تتفحصه الراوية بعدسة مكبرة "ساخرة" ومبضع "عطوف"، من كل زواياه.

 

ثمة عناصر سير- ذاتية في هذه الرواية. فمن 1931 إلى 1936، عملت لوي في باريس ممثلة لغاليري "جوليان ليفي" النيويوركية، تماماً مثل الراوية. ومن بين الفنانين الذين عاشرتهم، رسام ألماني سوريالي يدعى ريتشارد أولزي وتمكن مقارنته بإينسيل، لولا أن هذا الأخير لا يفيض عن نطاق هذا المرجع المفترض، فيقف، ويرقد، ويتمايل، ويتوسل، ويخضع، ويفرض نفسه كنموذج أصلي للرجل المكتفي بذاته، وفي الوقت نفسه، يفتقر إلى الكفاية، وكنموذج داخلي للفنان الحديث، المثير للإعجاب والسخرية معاً. تظهر أيضاً في الرواية شخصيات أخرى عاشرتها الشاعرة، بأسمائها الحقيقية أو بأخرى مستعارة، مثل بيغي غوغنهايم ومان راي وسلفادور دالي. لكن جوهر الرواية ليس في هذه التفاصيل، بل في لغتها التي لا يحدد أي تأثير أو مرجع لمواصفاتها، وتسير داخل كل صفحة تلك الغرابة الساحرة لطريقة تفكير لوي.

في "إينسيل"، نتابع تلك اللقاءات الطويلة والمتواترة بين بطليها، ونرافقهما في تنقلهما بين محترف مدام جونس، وشقتها، ومحترف إينسيل، وفندق "لوتيسيا"، ومقاهي مونبارناس، ومحطة "أورسيه"، وفي تيههما الليلي في شوارع باريس. لكن على القارئ ألا يتوقع قصة، بل فقط سردية تقص الراوية فيها محاولتها اكتشاف ومحاصرة الكنز الذي تراه في البداية في صديقها، الذي "تنبعث منه موجات مغناطيسية"، تمده بقدرات رؤيوية تعري كل من يقع نظره عليه. لكن ماذا لو أن ذلك مجرد وهم، وأن إينسيل يلعب دور الملهم؟

شخصية الفنان

من خلال هذه الشخصية الجذابة، تغوص لوي في شخصية الفنان عموماً، معرية ميزاتها. فمنذ صفحاتها الأولى، تضع بلا رحمة، لكن بطرافة عالية، تحديداً قارصاً للمبدع كإنسان متمرد يرفض المشاركة في اللعبة الاجتماعية للنظام الاقتصادي السائد. لكن لا يمنعه هذا الرفض من الإيقاع بنساء مستوحدات يوهمهن بحب زائف كي يحظى بمساعدتهن المادية. وبذلك، الفنان في روايتها هو تجسيد للإنسان العظيم والخسيس، وفقاً لأداة التحليل المستخدمة للتأمل فيه. وفي يد مدام جونس، الأداة الثنائية البؤرة، تسمح برؤية كلا الجانبين في آن واحد. هكذا نرى إينسيل المهووس بالبحث عن قوته إلى حد يحوله هذا البحث إلى دمية بشعة ومضحكة. وإينسيل المهووس بإنجاز تلك اللوحة غير المادية، الكاملة في أسلوبها إلى حد تتعذر فيه رؤية التقنية التصويرية المعتمدة في إنجازها. بالتالي الفنان الذي يتسلط عليه تطلبه الداخلي لدرجة تدميره لوحة هلوسية وحشية رائعة انبثقت من عمق كيانه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تقرأ الرواية أيضاً كسردية علاج خاص. فمنذ بداية العلاقة بين بطليها، يبدو إينسيل بوصفه شخصاً يعاني داء خاصاً يمنعه من الحضور الملموس في أي مكان يوجد فيه. شخص لا يملك داخلاً ولا خارجاً، أو بالأحرى لا يتمتع بما يكفي من كليهما كي يحضر بشكل محسوس. وعلاج صديقته، مدام جونس، سيتمثل في جعله يتجسد تدريجاً. لكن ما أن ينتهي علاجه، سيخيب "الرجل العادي" الذي باته إينسيل بعد شفائه، أملها. ومن خلال ذلك، سعت لوي ونجحت في الكشف، من الداخل، لكل الحيل النفسية لدى مبدع يعيش حالة أزمة. ولأنه غير قادر على الإبداع، يكذب على نفسه وعلى الآخرين في حمى تحمسه لمشاريعه المجهضة.

أكثر من ذلك، تأخذ لوي في هذه الرواية وجهة معاكسة لأندريه بروتون في روايته "نادجا"، بتسليمها مهمة السرد لامرأة، وبجعل هذه المرأة تتحكم بالتيه السوريالي للكائن الذي يفترض أنه يملك موهبة سحرية. فالليلة الطويلة التي يسير إينسيل ومدام جونس خلالها من فندق "لوتيسيا" إلى محطة "أورسيه"، مروراً بحديقة "تويلري" (مما لا يترك مجالاً للشك في إرادة لوي محاكاة "نادجا")، هذه الليلة التي يبدو إينسيل فيها عرضة لجميع الانخطافات، تقرأ أيضاً كاستهزاء من "الجنون العبقري" الذي ينسبه بروتون لنادجا. وعلى خلاف روايته، فالمرأة في "إينسيل" هي التي تتحلى بالرشد، وبمفتاح العودة إلى الرشد، وهي التي تعرف إذا كيف توقف هذيان الشخصية الملهمة، حين يصبح ذلك ضرورياً. وبذلك، تمزق لوي الصورة غير الواقعية التي سجن السورياليون المرأة داخلها.

لكن أروع ما في روايتها تبقى لغتها، كما أشرنا سابقاً. لغة لم يخطئ مترجمها إلى الفرنسية، أوليفييه أبير، بقوله إنها "تنقل من أقرب مسافة ممكنة دقائق فكر لوي التحليلي المدهش الذي يجعلها قادرة على فك الرموز والدلالات في جميع الخطابات المتمايزة التي تسكن اللحظة الواحدة، وعلى كشف مختلف الجوانب التي يتشكل منها فعل هذه اللحظة، وعلى استثمار جميع المواصفات الحسية والفكرية لكيانها، لإتمام هذه التجربة الأدبية الفريدة من نوعها".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة