Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القمار الإلكتروني في سوريا... "آفة" من رحم الحرب والبطالة

الحرب وتردي الأوضاع الاقتصادية دفعت الشباب إلى إدمان اللعب والمراهنة ووصل الأمر بهم إلى بيع الممتلكات لتعويض الخسائر

يلعب الشباب السوري هذا النوع من القمار عبر طاولات ومواقع افتراضية (اندبندنت عربية)

ملخص

يتيح تطبيق المراهنة مثلاً أن يحرز الفريق الأول هدفاً في المباراة أو أن يخسر الفريق الثاني بثلاثة أهداف وهكذا من احتمالات غير متناهية يضاف إليها إمكانية توقع كم ضربة ركنية ستحمل المباراة، وكم رمية تماس وكم ضربة حرة مباشرة وكم بطاقة صفراء أو حمراء ليجد المراهن نفسه أمام مئات الخيارات.

غرقت شريحة واسعة من الشباب السوري في عالم المراهنات عبر الإنترنت ولا شك أن هذه الشريحة صارت أكبر من أن تحصى وفق مؤشرات جماعية يمكن الاستدلال من خلالها والبناء عليها، ومن بينها طغيان الحديث في الشارع عن أنواع تلك الرهانات وأرباحها وآلية عملها والقائمين عليها ورعاتها في المدن والمحافظات وكثرة لاعبيها.

تلك الرهانات استحوذت على عقول أولئك الشباب وحولت حياتهم إلى مزيج من كلمات "ربح وخسارة"، وبالطبع فإن الخسارة هي السائدة، فجميعهم إن ربحوا مرة سيخسرون قبالها 10 مرات وتلك طبيعة ألعاب القمار بصورة عامة.

وإن كانت السمة البشرية الغريزية تميل بطبيعتها نحو الكسب السريع أو الإثراء غير المشروع أو الغوص في وحول جني المال بطرق غير نظيفة إلا أن النسب تتفاوت بين مجتمع وآخر.

ففي مجتمع مزدهر يعمل معظم أفراده ويتشاركون في بناء قوته الإنتاجية ويحصلون على مكاسب شرعية تكفي حاجتهم وفوقها يحظون بوقت ممتلئ سيكون حالهم بالتأكيد مختلفاً عن مجتمع غارق في الحرب ومفرزاتها وتبعاتها وعلى رأسها البطالة التي تهيمن على الحال الاقتصادي الجماعي.

وإن كان الحديث عن الشباب السوري، العاملين منهم والمتمكنين من الظفر بوظيفة، فما الذي يدفعهم إلى لعب القمار كأولئك العاطلين من العمل؟ حينها يكون الجواب بديهياً بعد الأخذ بعين الاعتبار أن أفضل متوسط للراتب الحكومي في سوريا هو 20 دولاراً، فيبدو حينها العامل كالعاطل عن العمل في ظل غلاء معيشة بات يتطلب نحو 50 ضعف متوسط الراتب ذلك لتتمكن الأسرة السورية من أن تعيش بكرامة، ومن هنا بدأت قصة محاولة جني المال بأي طريقة.

خيارات لا نهائية

يلعب الشباب السوري هذا النوع من القمار (الرهانات) عبر طاولات ومواقع افتراضية على صورة "أون لاين"، وتكون تلك الرهانات في الغالب وهي التي بدأت قبل سنين على مباريات كرة القدم غالباً، ويتم الرهان على تلك المباريات بصور وأساليب وطرق متعددة لا حصر لها.

يتيح تطبيق المراهنة مثلاً أن يحرز الفريق الأول هدفاً في المباراة أو أن يخسر الفريق الثاني بثلاثة أهداف، وهكذا من احتمالات غير متناهية، يضاف إليها إمكانية توقع كم ضربة ركنية ستحمل المباراة، وكم رمية تماس، وكم ضربة حرة مباشرة، وكم بطاقة صفراء أو حمراء، ليجد المراهن نفسه أمام مئات الخيارات كأن يراهن أن يحرز فريق ما هدفاً بين الدقيقة 15 و27، وأن يحصل على بطاقتين صفراء في الدقائق الـ10 الأخيرة، وهدف في آخر دقيقة في المباراة، وكلما زاد المراهن من احتماليات توقعاته ازداد المبلغ الذي سيدفعه، ولكنه في المقابل سيربح كثيراً وربما عشرات أضعاف ما راهن به إن أصاب.

البعض كما يسميها اللاعبون "يضرب بكج" كامل على كل الخيارات، وإما أن يربح أموالاً طائلة أو أن يخسر كل شيء، وكل شيء هنا تعني ملايين الليرات السورية، لذا يكتفي الأقل مغامرة بأن يراهن على أشياء محسومة سلفاً، كأن يلعب منتخب البرازيل مع منتخب آسيوي مغمور، فيراهن على فوز البرازيل وحينها سيكسب ولكن مبلغاً لا يذكر، أحياناً يكون في هذه الاحتمالية مبلغ الربح ليس إلا نصف دولار، ولكن إن راهن على ربح المنتخب الآسيوي وحصل ذلك فقد يكسب مئات الدولارات، والحديث هنا عن منتخبات مغمورة للغاية وخارج التصنيف الدولي.

إنه الطمع

بين أولئك اللاعبين القدامى شاب اسمه مصطفى الدمراني، كان على حد تعبيره مدمناً للمضاربة في المباريات، واستمرت تلك الحال طويلاً معه، كان يكسب أحياناً ويخسر أحياناً أكثر، قبل أن يكتشف أنه دخل دوامة لا ربح نهائياً فيها وأن الإدمان عليها ستكون نهايته شديدة وتؤدي إلى الإفلاس وربما إلى ما هو أسوأ.

 

يقول الشاب "كنت متحمساً طوال الوقت والهاتف لا يفارق يدي، اضرب على كل المباريات الكبرى المتاحة في كل الدوريات، أربح في مكان وأخسر في آخر، والخسارة دائماً أضعاف الربح، كنت مثلاً أشحن بـ50 دولاراً من (الديلر) لأتمكن من اللعب، ومع الوقت تُنشئ علاقة وترتبط بديلر معين فيسمح لك باللعب بمبالغ مفتوحة على أن تسددها لاحقاً"، وتابع "لا أتذكر في الفترة الأخيرة سوى أنه كان يهاتفني ويقول: تعال وسدد ديونك البالغة 200 دولار، 500 دولار، 600 دولار، ألف دولار، كل مرة رقم مختلف، وأسدد وأعود للعب بانتظار الضربة الكبرى والربح الكبير، وللأسف لم يحصل ذلك".

واستطرد المتحدث قوله "لكن في الوقت ذاته كثيراً ما كان يتصل بي ليقول لي: تعال وخذ أرباحك، فأجيبه: أضفهم على الحساب لألعب بهم، وتلك هي الفكرة، الإدمان هو ما يجعل الشخص يستمر بالخسارة، لو أن الشخص يربح مبلغاً جيداً وينسحب، ويحصل أحياناً ذلك، لما كان الجميع يخرج خاسراً في النهاية، إنه الطمع".

بين الطاولات

مع الوقت تطورت ألعاب القمار وتخطت كرة القدم التي لم يخرج في النهاية أحد كاسب منها لشدة وكثرة خياراتها وصعوبة الانتقاء والتوقع فيها، وهذا ما قاله لاعبون قدامى عدة خلال أحاديث متنوعة.

صار هناك ألعاب جديدة مهيمنة أبرزها "الروليت" و"الورق" وألعاب أخرى تماماً كتلك التي تلعب في "الكازينوهات" الشهيرة ولكن عبر الهاتف، واتضح مع الوقت أن فداحة الخسارة في تلك الألعاب أكثر من رهان مباريات كرة القدم التي وإن حملت شكل المقامرة ولكنها ليست قماراً نمطياً كالألعاب المستجدة على الساحة بصورتها ونوعها ومضمونها.

يمكن السماع عن تلك الألعاب من معظم الشباب، من لم يلعبها أو يجربها فقد سمع عنها أو رآها من خلال أصدقائه الذين أدمنوها، أولئك الذين يجالسون أقرانهم ممسكين هواتفهم لا لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي كما هي عادة الحداثة في العقد الماضي بل للعب القمار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويسهل أكثر من ذلك ملاحظة ردود فعل الشباب الجالسين في المقاهي وهم يخسرون أو يكسبون تبدو الملاحظة بسيطة، فملامحهم لا تخفي نفسها وفي الطريق بين الطاولات ليس صعباً ملاحظة تلك الهواتف الكثيرة التي تلعب القمار، وتلك ملاحظة لا يمكن القول إنها مستجدة وجاءت من زيارة مقهى واحد، بل هي حال عام نسبياً ومنتشرة للغاية، ولا يميز بين متعلم وآخر، بين طبقة مجتمعية وأخرى أقل منها، بين شخص بارز في المجتمع وآخر أقل منه.

السيارة مقابل الحياة

قبل أعوام عدة وصلت ديون أحد لاعبي القمار إلى أصحاب اللعبة مبالغ كبرى، وعلى رغم كونها عالمية فإنها تدار داخلياً وفق نظام شراكات خارجية مبهمة، فهي مملوكة بالداخل السوري من طريق التغذية المالية والأرباح والديون لأشخاص محددين ومتنفذين يقومون على رعاية كل تلك الألعاب ويمتلكون طرقهم القاسية في حصول ديونهم، وصولاً إلى تهديد حياة المستدين نفسها، وحصل ذلك كثيراً.

ذلك اللاعب المديون الذي يعيش في مدينة طرطوس الساحلية تحدث طالباً عدم الكشف عن اسمه لئلا يثير أولئك الأشخاص مجدداً، مستنداً إلى تمكنه في الحديث أن ما جرى معه جرى مع المئات غيره، وكانت قصته منذ زمن، فسيصعب معرفته لو وصل إليهم حديثه.

يروي قصته حينها "في مرة ربحت ألفي دولار، وعدت ولعبت بها وخسرتها وخسرت فوقها، المهم أنه مرت فترة ظللت أخسر بها حتى وصلت قيمة ديوني لنحو تسعة آلاف دولار، كان الديلر هادئاً معي ويقول لي عليك أن تدفع ديونك سريعاً ولكن من دون أن يهددني لاحقاً علمت السبب".

ويتابع "في أحد الأيام وكان يوم الإثنين، تلقيت اتصالاً من وكيل أحد المتنفذين أصحاب اللعبة وقال لي حرفياً: عليك أن تكون بعد غد في العاشرة صباحاً في المكان الفلاني بمدينة اللاذقية مع مبلغ الدين، وكنت أعرف أني لو لم أذهب لأرسلوا عناصر مسلحة تأخذني بالقوة وتهين عائلتي، لذا ذهبت بسيارتي الخاصة وليس معي قرش واحد من المبلغ، هناك أقلتني سيارة إلى موقع آخر، وأبلغتهم أني لا أملك المبلغ، وحتى الآن لا أعرف كيف امتلكت الشجاعة لأقول ذلك".

ويضيف "دارت نظرات بين شخصين كانا في الغرفة، قبل أن يسألني أحدهما إن كانت السيارة التي جئت بها أصلاً هي ملكي الشخصي، فأجبت بنعم، أخذوا السيارة وتركوني حياً، وأما عن الديلر فلماذا كان هادئاً في المطالبة بالدين علمت لاحقاً أن أشخاصاً هربوا من البلد خشية من أولئك الأشخاص بعد أن صارت ديونهم كثيرة".

أوسعوه ضرباً فهاجر

سنان عواد مهندس من مدينة حمص، آخر شيء فعله قبل أن يهاجر عبر طرق الموت إلى أوروبا هو أن باع منزله ليسدد ديون القمار المتراكمة عليه بعد أن دوهم منزله وتعرض لضرب عنيف مع مهلة شهر لسداد الدين، وأولئك الملثمون الذين ضربوه لا يتبعون بأي شكل لأجهزة عسكرية رسمية أو حتى شبه رسمية، هم عناصر أقرب لـ"المرتزقة" الذين يأخذون رواتبهم لقاء هذه الأعمال وحماية أولئك الأشخاص الذين يرى بعض الناس أنهم لا يجبرون الآخرين على لعب القمار، فيما يراهم آخرون من أسوأ مفرزات الحرب وأخطرها.

 

تمكنت "اندبندنت عربية" من التواصل مع سنان في مهجره عبر أحد أصدقائه المتبقين في البلد، بدا للوهلة الأولى غير مهتم بالحديث عن ماض مرير تركه خلفه، ولكنه أسدى نصائح رأى أنه الأحق في منحها لفداحة خسارته.

يقول "الضرب الذي تعرضت له لن أنساه كل حياتي، ولكن هل هم المذنبون فعلاً؟ هل أرغموني أن أصير مقامراً؟ أنا بقدمي دخلت الغابة تلك وطمعت بربح سريع وإثراء أسرع، والحمد لله أن ذلك حصل وإلا لما كنت الآن في أوروبا، ولو لم أبع بيتي وأسد ديوني لكانت نهايتي ربما طلقة في الرأس، ولكني بعت البيت وسددت الدين وببقية المبلغ هاجرت وصرت حيث أنا الآن، وحيث أنا الآن لست مضطراً للعب القمار والتعامل مع العصابات".

لا شيء يحصل بالصدفة

يرى شباب وشابات متعددون لم ينخرطوا في ألعاب القمار خلال أحاديث متنوعة أن المراهنات التي تسيطر تباعاً على المجتمع السوري وتستحكم بحياة وأوقات ومصير كثير من شبابه جاعلة إياهم يفكرون في سداد ديونهم بدلاً من بناء حياتهم المستقبلية هي أخطر عرض أرخت به الحرب فوق رؤوسهم.

ويعتقدون أنه لا شيء يحصل بالصدفة في بلدهم، وأن تلك "الآفة" وجدت لتحتل أوقاتهم وتهيمن على نزعاتهم الغريزية وأموالهم مقابل تجييرها نحو أشخاص آخرين، مؤكدين أن موضع خطورتها في أن الفئة الفقيرة هي الأكثر إدماناً عليها وهو ما يعطل بدوره أكثر عجلة الحياة الإنتاجية البسيطة التي تحتاج إليهم وإن كان برواتب دون المراد بكثير بدلاً من الإمساك بتلك الهواتف طوال الوقت.

اقرأ المزيد

المزيد من العالم العربي