ملخص
الطائفية داء لعين وفد على لبنان كأحد الرواسب من الظاهرة الاستعمارية الغربية حين تبنى الفرنسيون القطاع الماروني واهتم البريطانيون بالمكون الدرزي وبقيت للعرب جموع أتباع المذهب السني، بينما اختطفت إيران في ظل الصراع العربي - الإسرائيلي العنصر الشيعي المتمركز في الجنوب الذي أحال قضية المواجهة مع الدولة العبرية إلى مواجهة حادة تعصف بأمان المواطن اللبناني وأمن دولته.
لا تزيد المسافة الزمنية بين مشهدين لأكثر من 80 عاماً، ومع ذلك تزدحم فيها الخواطر وتتناقض المواقف ويبدو الأمر كما لو كنا أمام رواية في مسرح العبث! فبين لبنان أحمد شوقي وخليل مطران وغيرهما ممن حفلت بهم صحف القرن الماضي وبين لبنان التي نتحدث عنها الآن يتملكنا شعور عميق بأن الدنيا قد تغيرت كثيراً وأن الأحوال قد تبدلت تماماً، فأين نحن من هذه الأسماء اللامعة التي استكملت وجودها بفيروز ووديع الصافي وغيرهما من أساطين الغناء العربي حين كان مصيف أم كلثوم المصرية في جبل لبنان، وكان عبدالوهاب رائد مدرسة الطرب الحديث يقضي عطلته الصيفية على أرض ذلك البلد الجميل، وكان هناك ابن الزعامة الدرزية فريد الأطرش والفنانة صباح وغيرهما من الروائع التي صدح بها ذلك العصر الذي مضى، ويبدو أنه لن يعود.
إن المسافة زمنياً لا تبدو طويلة، لكن لبنان المظلوم والمفترى عليه قد تبدلت أحواله وتوارت ميزاته واختفت سماته ليظهر بدلاً عنها الدمار والخراب والطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة، إضافة إلى التعقيد السياسي وبقايا التعصب الديني ومسحة من سيطرة أهل النفوذ على بسطاء الناس، إن لبنان فيه ما يكفيه بدءاً من ذلك التوتر الشديد في حدود الجنوب مع إسرائيل مروراً بالأزمة الاقتصادية الطاحنة وصولاً إلى السياحة المجمدة، فلبنان الذي كان يجذب البشر من كل أطراف العالم والمنطقة العربية أصبح الآن موضع حذر ومكان تجنب على رغم جمال أرضه وروعة جباله وتضاريسه ووديانه، فالذي جرى للبنان في السنوات الأخيرة قد أطاح كل مظاهر الجمال فيها واستبدلها اليوم باستعدادات لحرب قادمة أو مواجهة محتملة بين "حزب الله" وإسرائيل. كأنما كتب الله على الشعب اللبناني أن يدفع الفاتورة عشرات المرات وأن تتحول كل حرب فيه بالوكالة إلى حرب على الشعب اللبناني وأمنه واستقراره ومستقبل أجياله القادمة، فقد تحول الصراع في الشرق الأوسط إلى ساحات حرب محتملة على الأراضي العربية فلسطينية ولبنانية وربما سورية وعراقية أيضاً! فضلاً عما يجري في جنوب البحر الأحمر وحالة الاستهداف المتبادل بين القوى المختلفة هناك، دعونا نعترف أن هناك من يحاول أن يجعل العرب اليوم كالأيتام على مائدة اللئام فيسلب منهم كثيراً من مقوماتهم التاريخية وخصائصهم البشرية، فإرادة الحياة لدى اللبناني لا نكاد نجد لها نظيراً، فهي لا تتوقف مهما كانت الظروف ومهما تعددت الأسباب.
وأنا أكتب هذه السطور اليوم لافتاً النظر إلى مأساة ذلك الشعب العربي الصغير حجماً الكبير تأثيراً والذي كان يمثل واحة للأمان وموئلاً للاستقرار ورئة تتنفس بها المنطقة الهواء الوافد من (شجيرات الأرز) التي تحمل شعار ذلك الوطن بوتقة التعددية وسبيكة انصهار التوجهات المختلفة سياسياً وحضارياً، إنه لبنان بيت الدين وفخر الدين المعني ولبنان بشير الشهابي، بل والشهابية بكل أديانها ومواقع وجودها، إنه لبنان الشعراء والأدباء واحة الطرب ومحط الأبصار، لذلك كان طبيعياً أن تستهدفه إسرائيل دائماً وأن ترى فيه منافساً حضارياً قوياً على حدودها لذلك تعددت هجماتها عليه وغزواتها فيه ولم تتوقف أبداً عن التحرش بحدوده والعدوان على أراضيه، بخاصة الجنوب، وللأسف فإن القوى المختلفة للبنان لا تجمع على مصلحة مشتركة ولا طريق واحد، إذ يكفي أن نقول إن منصب رئيس الجمهورية شاغر لأسباب تتصل بعدم القدرة على الإجماع حول مصلحة ذلك البلد الذي يعتز به العرب وتتيه به دول الشرق الأوسط وتتطلع نحوه شواطئ المتوسط، إنني أسجل هنا الاعتبارات التالية:
أولاً: إن لبنان الذي كان مصدر إشعاع للمنطقة لم يتوقف عطاؤه، فما أكثر العثرات التي واجهها، لكنه انتصر عليها وتجاوزها وخرج من دائرتها، فهو شعب خلاق قادر على تجسيد إرادة الحياة في أوضح معانيها، وهو شعب تبنى الديمقراطية طريقاً حتى ولو بالصورة دون المضمون لأن هناك ظروفاً فرضت عليه وجعلته مكبلاً لا يقوى على الانطلاق الذي تعودناه منه وعرفناه به.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثانياً: إن الطائفية داء لعين وفد على لبنان كأحد الرواسب من الظاهرة الاستعمارية الغربية حين تبنى الفرنسيون القطاع الماروني واهتم البريطانيون بالمكون الدرزي وبقيت للعرب جموع أتباع المذهب السني، بينما اختطفت إيران في ظل الصراع العربي - الإسرائيلي العنصر الشيعي المتمركز في الجنوب الذي أحال قضية المواجهة مع الدولة العبرية إلى مواجهة حادة تعصف بأمان المواطن اللبناني وأمن دولته، وما كنت أود أن يكون الصراع مركزاً حول طائفة دينية لشعب لم يكن في يوم من الأيام حبيس عقيدة واحدة أو قالب فكري محدد، فهو شعب التعددية وقبول الآخر وسماحة الاختلاف، إن ما يدور حول لبنان حالياً هو نوع من القهر المتعمد لذلك الشعب وترويع أبنائه ودق إسفين بين طوائفه، فالقضية الفلسطينية قضية سياسية وليست مسألة دينية لذلك يشترك اللبنانيون جميعاً مثلما هو الأمر بالنسبة إلى العرب في أخطار السياسات الإسرائيلية الحالية وتوجهات نتنياهو التدميرية ورغبته في العصف بروح لبنان التقليدية ومكانته المتميزة.
ثالثاً: إن لبنان ميخائيل نعيمة وسعيد عقل، بل ولبنان جبران خليل جبران سيظل دائماً مصدراً للقوى الناعمة التي نعتز بها ونفاخر في كل مناطق العالم العربي لأننا ندرك أن تلك القوى هي ثروة بغير حدود، فهي تحوي التعليم والثقافة والإعلام والمؤسسات الدينية ومراكز الأبحاث وأروقة الفكر، ولن يغيب عنا المسرح اللبناني ولا سينما الشام الكبير التي انطلقت من القطر اللبناني الواعد، وأنا باعتباري مصري الجنسية عربي الهوى أقرر صراحة أن المزاج العربي يلتف في معظمه حول مزيج من النماذج الفنية المصرية واللبنانية والخليجية، إذ برزت الجزيرة العربية في السنوات الأخيرة كمصدر إشعاع جديد يضيء الطريق أمام الأجيال الصاعدة وتجاوبت معهم أصداء من دول المغرب العربي والعمق الأفريقي إلى جانب النتاج الثري لعرب المشرق، فأصبح الإحساس المشترك بالأخطار لا يقف عند حدود الأحداث السياسية الراهنة، ولكنه يتجاوز ذلك إلى كل معاني النهضة وعوامل الانطلاق وأساليب المضي نحو حياة أكثر إشراقاً وتألقاً.
رابعاً: قلبي مع لبنان وعقلي معه أيضاً أردد دوماً مع الصوت الملائكي لفيروز قصيدة شوقي الخالدة "يا جارة الوادي" وأشد على أيدي ذلك الشعب الشقيق الذي لا يعرف اليأس ولا يقبل الهوان، داعياً إلى وحدته الوطنية وتماسكه الشعبي، مؤمناً بقدرته على تحطيم المؤامرات والتصدي للتحالفات وصياغة وجه آخر للحياة مهما أحاطت به الصعاب ومهما تكالبت عليه الخطوب.
خامساً: يجب أن نعترف أن جزءاً من أزمة لبنان ومحنته يتمثل في بعض الشرائح السياسية النافذة وصاحبة القرار على أرضه، وقد امتزجت الحياة السياسية بالأبعاد الطائفية والانتماءات الخارجية مما أتاح لأعداء لبنان أن يستغلوا ذلك التمزق التاريخي في توسيع الهوة وتضخيم الصراع وتصوير الشعب اللبناني وكأنما هو مجموعة شعوب صغيرة في بوتقة واحدة، ولقد آن الأوان لكي تجدد الحياة السياسية في لبنان شبابها وتتوقف عن ظاهرة توريث مراكز القوى لأن لبنان دولة عصرية لا تقوم حالياً على العشائرية أو المفاهيم القبلية القديمة ولا حتى المعتقدات الدينية، فتلك أمور يخلعها المواطن أمام صندوق الانتخاب ليختار الأفضل لبلده بغض النظر عن طائفته الدينية أو انتمائه الحزبي أو معتقداته السياسية، إن لبنان قد يغفو، ولكنه لا ينام دائماً، قد يتعثر، ولكنه لا يسقط من موقعه التاريخي والجغرافي الفريدين أبداً. إن لبنان العربي سيظل واجهة لعروبته قبل أن يكون واجهة لطائفة بذاتها أو امتداداً لقوى خارجية على أرضه، فلبنان هو لبنان الإرادة والكرامة معاً.
هذا هو لبنان المفترى عليه في ظل ظروف صعبة وأوضاع معقدة وعالم يتغير كل يوم، سلام على أرضه وشعبه في تلك الأحوال الملبدة بغيوم عاتية.