Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يقاس الرأي العام في مصر بـ"انقطاع الكهرباء"؟

انطباعات الشارع يمكن معرفتها من خلال الأزمات التي تمس الحياة اليومية للناس وتكرار فصل التيار فرصة سانحة للتعرف على شعبية الحكومة

أزمة انقطاع الكهرباء في مصر والمصنفة بـ"تخفيف أحمال" طاولت جميع المناطق (غيتي)

ملخص

المثير أن مصر عرفت استطلاعات الرأي العام التي تقيس نبض الشارع وتوجهاته وما يرضى عنه وما يغضبه وما يحلم به على مدار أعوام، والأكثر إثارة أن غالب هذه الاستطلاعات أجرته جهات بحثية تابعة للدولة بطرحها أسئلة ساخنة تلقت عنها إجابات أكثر سخونة، وأعلنت نتائج أقل ما يمكن أن توصف به أنها "جريئة".

الشارع في الولايات المتحدة فاقد الرضا على الديمقراطية وفي فرنسا يميل إلى اليمين وفي ألمانيا عدد غير قليل يواجه صعوبات اقتصادية كبيرة، أما في تركيا فيتراجع تأييده للحزب الحاكم.

الاستطلاع الأحدث للرأي يشير إلى مستوى قياسي في انخفاض رضا المواطنين على الطريقة التي تعمل بها الديمقراطية ومؤشرات الرأي العام تشير إلى تزايد شعبية اليمين المتطرف، وفي استطلاع أعلنت نتائجه قبل أيام قال واحد بين كل تسعة مواطنين إنه يجد مشقة بالغة في سداد التزاماته المالية، في ظل ارتفاع كبير لأسعار السلع وملامح غضب في الشارع.

قياس الرأي العام

كل هذا يمثل قياسات الرأي العام واستطلاعات نبض الشارع واستقراءات مدى الرضا من عدمه بين عموم المواطنين، وفي كتابه "قياس الرأي العام من النظرية إلى التطبيق" (2011) يقول المؤلف وأستاذ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ماجد عثمان "لعل ليس من المصادفة أن استطلاعات الرأي العام نشأت في الدول الديمقراطية كتوأم للانتخابات الرئاسية والبرلمانية وساهمت في إثراء الحياة السياسية، كما ازدهرت بحوث التسويق التجاري كرافد لاستطلاعات الرأي العام، وفي العالم العربي قفزت إلى مرحلة بحوث التسويق التجاري مباشرة من دون أن يمر باستطلاعات الرأي العام".

المثير أن مصر عرفت استطلاعات الرأي العام التي تقيس نبض الشارع وتوجهاته وما يرضى عنه وما يغضبه وما يحلم به على مدار أعوام، والأكثر إثارة أن غالب هذه الاستطلاعات أجرته جهات بحثية تابعة للدولة طرحت أسئلة ساخنة وتلقت عنها إجابات أكثر سخونة، وأعلنت نتائج أقل ما يمكن أن توصف به أنها "جريئة".

جرأة موقف الشارع

جرأة عدم قياس موقف الشارع خلال عام 2024 تجاه قضايا مصيرية أو حتى شبه مصيرية، مثل رأي المواطنين في التعليم أو مدى رضاهم عن أداء الجهاز الإداري أو مقدار تأثير التعويم أو التضخم أو كليهما على قدراتهم الشرائية، أو رأيهم في مدى انتشار الفساد الإداري أو موقفهم من إجراءات الحماية التي تتخذها الدولة لمصلحة العاملين في الخارج وغيرها من القضايا الساخنة والمرشحة للسخونة، تبدو واضحة وضوح الشمس في أزمة الكهرباء في مصر هذه الأيام.

قياسات آراء المواطنين تجاه ما يجري حولهم ولهم واستطلاعات مواقفهم من عثرات تتعرض لها الدولة وانعكاساتها على حياتهم اليومية تغيب عن الساحة، هذا الغياب جعل من ردود فعل المصريين وتعليقاتهم العنكبوتية وأحاديثهم الشارعية حول أزمة انقطاع التيار الكهربائي المستمرة والمتصاعدة هذه الآونة وسيلة قياس الرأي العام. لكنها وسيلة ملغومة إذ يصعب التحقق من صدق الآراء وحقيقتها.

أحوال الأهل والأصدقاء

صاحب التعبير الطريف مواطن عادي من مستخدمي "فيسبوك" يتصفح المنصة صباحاً ويتابع ما كتبه الأهل والأصدقاء عن انقطاع التيار الكهربائي في أحيائهم المختلفة، يقرأ ما يكتبه قريبه عن جدول تخفيف الأحمال الذي ضربت به وزارة الكهرباء عرض الحائط وصار التيار يقطع أربع وخمس مرات، لا مرتين كما كان مقرراً.

ويتابع المواطن المصري يوميات ابنة خالته عن مغامراتها لتجنب الحبس في المصعد ويعلق مثنياً على قدراتها التنظيمية وحيلها البارعة، وفجأة يجد تدوينة لشخص يحمل اسماً غريباً غالباً فرعونياً، يتغزل في قدرة الحكومة على تنظيم تخفيف الأحمال مرة وينعت الناقمين على تخفيف الأحمال بالجهل والحماقة والسطحية أخرى.

ويدخل على صفحته فيجده مبدعاً في كتابة التدوينات التي ترى في طريقة التعامل مع الأزمة، أية أزمة، قمة الإبداع وذروة الابتكار وأوج الفطنة والإدراك، ويدرك المستخدم المواطن العادي أن ثمة شيئاً ما خطأ ويقول "إنهم يحاولون خلق رأي عام مواز أو افتراضي راض عن إدارة أزمة الكهرباء، في حين يقف الرأي العام الحقيقي على الجبهة المقابلة".

التفرقة بين الرأي العام "المخلق" أي الذي تدخلت فيه أياد وراءها أدمغة بهدف التوجيه، والـ"أورغانيك" إذ لا تدخلات توجيهية أو محسنات سياسية أمر بالغ الصعوبة في عصر الـ"سوشيال ميديا"، لكن الأمر بالغ السهولة هو النظر بالعين المجردة والسمع بالأذن المدركة لما يجري ويقال ويتم تداوله بين المصريين.

المصريون يدركون

يدرك المصريون أن أزمة الكهرباء كبيرة وأن موجات الحرارة القائظة وغير المسبوقة تضرب مناطق عدة في الكوكب، بينها دول البلقان التي غرقت في الظلام بسبب انقطاع الكهرباء في خضم موجة حر ضارية تجتاح أوروبا والكويت التي اضطرت إلى اتباع نظام قطع مبرمج للكهرباء في مناطق بعينها، والأردن الذي يواجه انقطاعات مفاجئة وحتى كندا الباردة عانت مناطق فيها من انقطاع التيار الكهربائي قبل أيام في درجة حرارة 34 درجة مئوية، مع عامل رطوبة بالغ الارتفاع جعل الحرارة المحسوسة تقارب الـ44 درجة مئوية.

 

 

وهم يدركون أيضاً أن للضرورة أحكاماً وأن فقه الأولويات ربما يملي على الحكومة قطع قليل من الكهرباء لتوفير بعض من الدواء والغذاء، لكنهم أيضاً يدركون أو هكذا يشعر كثر بأن الحكومة لا تقدر مشاعرهم أو تعنيها مصاعبهم أو تدرك حجم ضغوطهم، مما يفاقم من حجم غضبهم.

ويظل حجم الغضب منطقة رمادية ومثار شد وجذب بين فريق يقول إنه غاضب جداً وآخر يقول إن الأول مخطئ وغير مدرك أو شكاء بكاء، أو تنقصه الوطنية ويفتقد المفهومية أو كل ما سبق.

ولأن المناطق الرمادية يصعب قياسها إلا في حال وجود سبل قياس حقيقية، فإن ملف الكهرباء أو بالأحرى ملف قطع التيار يظل وسيلة لقياس الرأي العام واستطلاع موقف الشارع وتبيان مدى "رضاه" عن أسلوب إدارة الأزمة.

التخفيف طال

أزمة انقطاع الكهرباء في مصر والمصنفة بـ"تخفيف أحمال" طاولت رباعي الأزمة مما يثير لدى قاعدة عريضة من المصريين خليطاً من المشاعر، الحيرة من نقص الوقود المورد إلى محطات الإنتاج لأن المعتقد السائد أن الوقود كان متوافراً بل ويتم تصدير جانب منه، والتعجب من أن زيادة الاستهلاك اليومي لم تكن يوماً مفاجأة أو مستبعدة، والتهوين من مسألة سرقة التيار، والغضب من التلويح المزمن بزيادة أسعار الكهرباء.

 خلطة المشاعر تلك تستحق استطلاع رأي عام من قبل الحكومة بغرض معرفة ما يجول في عقول المواطنين وتحليل مخزونهم المعرفي عن الأزمة وأسبابها، والخروج بخطة إصلاحية تجمع بين واقع الحال ومحدودية الإمكان من جهة ورغبات المواطنين وتطلعاتهم من جهة أخرى، مع تصميم "كوبري" يجسر الفجوة بين القدرات والمطالبات.

حوارات المحطة

ويطالب بعض الواقفين في انتظار وصول "أتوبيس العاشر" القادم من سراي القبة بتغيير وزير الكهرباء، إذ اتفق الرأي العام على المحطة على وجوب التغيير مع اختلافهم على أسبابه، فبين العجز عن إصلاح الانقطاع المتكرر لعدم صيانة المحطات وتصدير الكهرباء إلى دول أجنبية على رغم أن "ما يحتاج إليه البيت يحرم على الجامع"، ووجود مخطط تآمري قوامه ابتداع أزمة في الكهرباء حتى يصرف الأنظار بعيداً من الاتجاه إلى تحويل الدعم من عيني إلى نقدي وجعله مشروطاً ثم يتم حل أزمة الكهرباء فينسى الناس هذا وذاك، تدور حوارات المحطة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حوارات المحطة لا تختلف كثيراً عن حوارات الأماكن الراقية من نواد رياضية ومقاه خمسة نجوم وغيرهما من أماكن تحولت إلى ملاجئ لمن يستطيع إليها سبيلاً. فروق بسيطة تهيمن على تفسير الأزمة منها استهداف الحوثيين السفن العابرة في البحر الأحمر مما يحول دون وصولها إلى قناة السويس وضرب أحد أهم مصادر العملة الصعبة للاقتصاد المصري، وكذلك إيقاف إسرائيل إنتاج الغاز الذي تستورده مصر لتشغيل محطات الكهرباء، ووجود مشكلات في حقول الغاز المصرية وتحديداً حقل "ظهر" وغيرها من التفسيرات التي تبدو ذات ثقل معرفي وقيمة معلوماتية يتم ترديدها في ما يشبه الدوائر المغلقة على مدار الساعة.

تكهنات شعبية

ولا يعكر صفو ساعات الأحاديث الشعبية وتكهنات المواطنين وتفسيراتهم التي تخلط بين "قالوا على النت" و"قال" عمرو أديب أو مصطفى بكري أو أحمد موسى أو غيرهم من إعلاميي برامج الـ"توك شو، إلا اتهام أحد الحاضرين للآخر بأن معلوماته إشاعات أو أن ما يقوله ترهات.

وأحياناً يتطور الأمر إلى درجة تلميحات بأن فلاناً "ضد الدولة" أو أن علاناً "يداهنها" أو أن ثالثاً "ذباب إلكتروني" أو "مغيب ذهنياً" أو ما شابه. لكن سرعان ما تصفو الأجواء بانقطاع التيار الكهربائي وحينها يعي الجميع أنهم "في الهوا سوا" بغض النظر عن القيل والقال وحجم المعلومة في الإشاعة المتداولة. ويعي الجميع أيضاً أن الحكومة سواء المستقيلة أو الجديدة في حاجة إلى معرفة ما وصل إليه الرأي العام في شأن ملف الكهرباء واستطلاع حرارة الشارع.

الحال يحتاج إلى "ترمومتر"

أحوال الشارع وتعامل الناس مع تخفيف الأحمال ورود الفعل على التغيرات غير المعلنة في جداول انقطاع التيار واجتهادات البعض لحل الأزمة، وصيد البعض الآخر في مياه الكهرباء العكرة بالدعوة إلى ثورة أو المطالبة بالنزول إلى الميادين وربما إعادة من يحتفل المصريون بإزاحتهم في مثل هذا الوقت قبل 11 عاماً، وغيرها مما يدور في كواليس الرأي العام لا تحتاج إلا إلى "ترمومتر" يقيس درجة الحرارة درءاً للمفاجآت.

والمفاجأة أن مؤسسات رسمية بحثية متخصصة في استطلاعات الرأي أجرت على مدار أعوام عمليات قياس واستطلاع رأي عام لقضايا وموضوعات ساخنة وشائكة، ووصل الأمر إلى درجة قياس شعبية جمال مبارك نجل الرئيس المصري السابق الراحل محمد حسني مبارك خلال عام 2009، وذلك في أوج ما يصفه المصريون بـ"تجهيز نجل الرئيس لمرحلة ما بعد الرئيس"، وحين جاءت النتيجة المثيرة مشيرة إلى أن شعبيته لا تتجاوز تسعة في المئة لم يتبخر الاستطلاع في هواء الحرج أو ضباب النسيان، فقط لم يتم تسليط الأضواء عليه إعلامياً وإن كان يعتقد أن الأضواء الأمنية والسياسية وكذلك الاقتصادية تسلطت عليه خلف الأبواب المغلقة.

اجتهاد الحلول

إغلاق أبواب قياس الرأي العام بصورة علمية يؤدي إلى فتح أبواب الاجتهاد في التفسير وطرح الحلول مما يؤدي غالباً إلى كوارث، لكن هذا لا يشغل بال غالبية المصريين المنقطعة عنهم الكهرباء لساعة أو ساعتين أو أكثر بحسب جدول التخفيف واجتهاداته، لكنه يثير تساؤلات بين بعضهم ممن يؤمنون بأهمية القياس ووجوب الاستطلاع.

 

 

وعلى رغم أن أزمة انقطاع الكهرباء تشغل حيزاً كبيراً من تفكير ومناقشات المصريين، فإن المؤسسات المتخصصة في استطلاعات الرأي موجودة ولكنها  تصدر عنها نتائج قياسات عدة تشير إلى موقف الشارع من أسعار كعك العيد، وتهجير الفلسطينيين إلى سيناء والاستعانة بممثلة سوداء لأداء دور كليوباترا والتغير المناخي، وأفضل مذيع وهل العام الجديد سيكون أفضل أم العام الماضي وتقييم مسلسل "الحشاشين"، ومدة مناسبة المواصلات العامة لذوي القدرات الخاصة وتوقعات درجات الحرارة للشتاء المقبل وغيرها.

ما يغرد به "الذباب"

وهذا لا يعني أن أزمة الكهرباء لا يتم قياسها أو تقييمها أو حتى استشفافها، بل يجري كل ما سبق بالاعتماد على محتوى الـ"سوشيال ميديا" وما يقوله الناس. وأيضاً ما تدونه وتغرد به ما يصفه البعض بـ"اللجان" أو "الذباب" سواء المدفوعين أيديولوجياً آملين في استعادة من خلعوا، أو المدفوعة لهم مكافآت أو رواتب لتنظيم عملهم التحريضي أو التهييجي أو حتى التلطيفي.

الإعلامي والكاتب الصحافي عبداللطيف المناوي كتب تحت عنوان "رأي عام السوشيال ميديا" (2023) أنه "في أعوام سابقة كان الرأي العام يقاس بمعايير واضحة ومحددة معظمها عاقل منضبط، فإذا أردت معرفة توجهات الرأي العام تجاه قضية ما في الماضي كان عليك بمقالات كبار الكتاب أو خطابات المواطنين العاديين للجهات الإعلامية مثل الصحف الكبرى والتلفزيون، أو لجهات ذات صلة بموضوع القضية أيضاً وهو الأكثر علمية وانضباطاً إذا كان الهدف هو القياس، فهناك تلك المؤسسات الكبرى المتخصصة في قياسات الرأي العام والتوجهات نحو قضايا وموضوعات معينة".

وعلى رغم أن المناوي كان يتحدث عن الضجة التي أثارتها حفلة غنائية كان من المقرر أن يحييها المطرب الأميركي ترافيس سكوت في مصر، فإن "نباشي السوشيال ميديا" وجهوا إليه اتهامات بالماسونية وعبادة الشيطان وغيرهما، فألغيت الحفلة.

ويشير المناوي إلى "الحاجة إلى كثير من الهدوء والتروي في التعامل مع السوشيال ميديا، فليس هكذا يتم قياس الرأي العام بل يجب أن يكون بمعايير أكثر عقلانية ووضوحاً والأهم أن تكون معتمدة على أساليب علمية حديثة تناسب الزمن الحالي، وأعتقد أن العلم لم يقصر معكم لتكون السوشيال ميديا بديله".

وسواء تم قياس الرأي العام عبر المنصات الافتراضية أو عبر افتراضات أو افتراءات فردية أو لم يتم قياسه من الأصل، يبقى ملف الكهرباء وتخفيف أحمالها والتعامل مع أزمتها الطاحنة فرصة ذهبية لقياس الرأي العام ونبض الشارع، يقتنصها من يأتي أولاً.

وفي حال لم يأت أحد تظل أزمة الكهرباء لحين حلها مثاراً للشد والجذب وأرضية للقيل والقال ومجالاً لمزيد من إشعال الغضب، أو مساحة للتبريد ووسيلة قياس "بمن حضر".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات