Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محاولات القيصر لإصلاح ما أفسده الدهر بين الأسد وأردوغان

تؤكد تقارير احتمال حدوث لقاء بين الطرفين في سبتمبر قد يعقد بروسيا أو العراق أو دولة خليجية

زيارة محتملة من بوتين إلى تركيا قد تمهد إلى عهد جديد من تقارب أنقرة - دمشق (رويترز)

ملخص

قبل وقت قصير من بدء الثورات الملونة في الشرق الأوسط رفضت سوريا تنفيذ مشروع طاقة واسع النطاق على أراضيها عبر خط أنابيب الغاز القطري- التركي، وهو ما وجه ضربة قوية متوسطة المدى لخطط وطموحات الدوحة وأنقرة المهتمتين بتنفيذه.

بعيداً من الأضواء والإعلام تبذل موسكو جهوداً كبيرة منذ أعوام طويلة للتوفيق بين أنقرة ودمشق، ويبدو أن مساعيها هذه وجدت آذاناً صاغية أخيراً في كلتا العاصمتين، بعدما بحث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان الأزمة السورية على هامش قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي انعقدت في مدينة أستانا عاصمة كازاخستان في الثالث من يوليو (تموز) الجاري.

اللقاء في أستانا بين الرئيس التركي وسيد الكرملين المنشغل بالحرب في أوكرانيا ومواجهة الغرب الجماعي كان مقتضباً وقصيراً لكنه فاعل وناجح، إذ أكد أردوغان بعد انتهاء الاجتماع الذي استمر أقل من ساعة بقليل، "إننا نجري دبلوماسية هاتفية، لكن في هذه الأثناء يتواصل وزراؤنا" حول المسألة السورية بانتظام.

وفيما أجرى بوتين وأردوغان محادثات في أستانا حول التسوية في سوريا على هامش قمة منظمة شنغهاي للتعاون، تصدرت القضية السورية محادثات رئيسي البلدين. وقالت صحيفة "أيدنليك" نقلاً عن مصادر إن الوفدين العسكريين لتركيا والنظام السوري بوساطة روسية أجريا مفاوضات في قاعدة حميميم الجوية، ويمكن إجراء محادثات جديدة في العراق.

مفاجأة أردوغان

فاجأ الرئيس رجب طيب أردوغان الجميع بقوله بعد اللقاء مع بوتين، إن زيارة محتملة من الرئيس الروسي إلى تركيا قد تمهد الطريق إلى عهد جديد من تقارب أنقرة - دمشق، بحسب ما نقلت عنه محطة "أن تي في" التلفزيونية ووسائل إعلام أخرى قبل أيام.

ونقلت وسائل الإعلام عن أردوغان قوله للصحافيين في رحلة العودة من كازاخستان حيث التقى الرئيس الروسي، "قد ندعو بوتين ومعه بشار الأسد. إذا تمكن السيد فلاديمير من زيارة تركيا فقد يكون ذلك بداية لعملية جديدة".

ولم يتضح ما إذا كانت الدعوة التي ذكرها أردوغان هي لزيارة الأسد إلى تركيا أم لعقد اجتماع معه في مكان آخر. وقال الرئيس التركي إن مسلحي تنظيم "داعش" الإرهابي وكذلك مسلحي الجماعات الكردية وحدهم من يعارضون تطبيع العلاقات بين تركيا والنظام السوري.

وشدد أردوغان على ضرورة "القضاء على الهياكل الإرهابية بصورة جماعية، وبناء مستقبل سوريا"، الذي لن يتحقق إلا عبر "بناء البنية التحتية الديمقراطية في هذا البلد وتحقيق السلام الشامل لما له من أهمية كبيرة"، وفق قوله.

واعتبر أن الأعوام الماضية التي مرت بالساحة السورية "أظهرت بوضوح للجميع ضرورة إنشاء آلية حل دائمة"، مشيراً إلى أنه "من الضروري أن تنهض سوريا التي دمرت بنيتها التحتية وتشتت شعبها، وأن ينتهي عدم الاستقرار".

 

 

وقال إن "الهدوء الذي تحقق في الآونة الأخيرة على الأرض يمكن أن يفتح باب السلام بسياسات حكيمة ومقاربات خالية من الأحكام المسبقة وتركز على الحل"، مضيفاً أن "عدم الاستقرار في المنطقة، هو الذي يوفر مساحة لتحرك الجماعات الإرهابية"، مثل الوحدات الكردية وحزب "العمال" الكردستاني.

وأردف أن "رياح السلام التي ستهب في دمشق والمناخ السلمي الذي سيعم جميع أنحاء سوريا ضروريان لعودة الملايين من الأشخاص الذين نزحوا إلى دول مختلفة. لقد مددنا يد الصداقة دائماً إلى جارتنا وسنظل نفعل ذلك".

وتابع، "سنكون دائماً إلى جانب سوريا موحدة ومزدهرة تحت أساس عقد اجتماعي جديد عادل وشامل وكريم. المهم هو أن تبدأ سوريا هذه المصالحة الكبرى وتتعافى في كل المجالات".

يأتي حديث أردوغان المفاجئ والمتقدم تزامناً مع ما كشفته صحيفة "تركيا" عن لقاء محتمل يجمع أردوغان والأسد في سبتمبر (أيلول) المقبل، موضحة أن الاجتماع قد يعقد في روسيا أو العراق أو إحدى دول الخليج.

وقالت الصحيفة إن بوتين أرسل ممثله الخاص ألكسندر لإفرنتييف إلى دمشق وطلب منه إقناع الأسد بحضور اجتماع قمة شنغهاي للتعاون، مؤكدة أن رئيس النظام السوري أكد استعداده للقاء، لكنه لم يتمكن من الحضور إلى روسيا لأسباب تقنية.

ونقلت عن مصادر قولها إن أنقرة "تريد أن تتم العملية بهدوء، وأن يكون الاجتماع وجهاً لوجه بين القادة، وليس على مستوى الوفود، كما تطلب عدم حضور أي دولة أخرى لهذا الاجتماع"، لافتة إلى أن مكان اللقاء سيحدد بعد زيارة الرئيس الروسي إلى تركيا.

تقارب وسط خلافات كثيرة

تثار القضية السورية بين بوتين وأردوغان بانتظام، لكن العداء بين أنقرة ودمشق لا يزال قائماً، إذ يدعم الكرملين رئيس النظام السوري بشار الأسد، بينما تؤيد تركيا وتمول وتدرب المتمردين السوريين في الأراضي التي استولوا عليها في مناطق الشمال.

سعى بوتين من دون جدوى خلال الأعوام الأربعة الأخيرة إلى مصالحة أردوغان مع بشار الأسد. وعلى رغم أن هذه القضية أثيرت مرات عدة وبذلت فيها موسكو جهوداً حثيثة، فإنها لم تصل إلى خواتيمها المرجوة قط، فيما أخذ العراق زمام المبادرة الآن في مساندة الجهود الروسية للمصالحة، فحمل رئيس الوزراء محمد شياع السوداني على عاتقه مهمة خلق أساس للمصالحة والحوار بين الطرفين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن التجربة أثبتت حتى الآن في الأقل أن الجهود والضغوط الخارجية ليست ضمانة للنجاح، كما أظهر فشل الوساطة الروسية لغاية اليوم أن الفجوة بين مطالب أنقرة ودمشق واسعة للغاية إذ لم يتمكن بوتين من ردمها وإن كان استطاع تضييقها إلى أقصى ما هو ممكن، ومع ذلك لم تسفر المفاوضات عن تقدم حاسم ولا عن نتائج محققة، لأن نظام الأسد يشترط على أنقرة للسير بالمصالحة سحب قواتها من الشمال السوري والتوقف عن دعم المعارضة، فيما تدعو أنقرة دمشق إلى مساعدتها في إخضاع القوات الكردية، وهو ما لا يستطيع نظام الأسد القيام به.

وساطة إيران خلف الكواليس

كشف رئيس الوزراء العراقي لوسائل الإعلام التركية في الـ31 من مايو (أيار) الماضي، أن هناك وساطة إيرانية حثيثة بين أنقرة ودمشق لكنها بعيدة من الأضواء، مضيفاً أن أردوغان والأسد يؤيدان الحوار. ويعتقد السوداني المقرب من سوريا وإيران الذي يسعى إلى تعزيز مكانته الدولية من خلال العمل وسيطاً، أنه قادر على النجاح في ما فشل فيه الآخرون.

الوساطة الروسية تعثرت عام 2023 بعد عامين من الجهود الكثيفة، وسط مطالبة الرئيس الأسد بدعم من موسكو وطهران، بانسحاب القوات التركية من سوريا كشرط مسبق لتطبيع العلاقات، لكن أنقرة رفضت الامتثال لذلك قبل الاتفاق على سلة كاملة وجامعة من الإجراءات المتبادلة والشروط المتقابلة.

بحسب صحيفة "الوطن" الناطقة بلسان النظام السوري، فإن اجتماعاً بين دمشق وأنقرة سيعقد في بغداد، في المستقبل القريب لكن من دون موعد محدد، وهذا الاجتماع سيفتح الباب أمام عملية طويلة من المفاوضات قد تؤدي إلى اتفاقات سياسية ذات نتائج ملموسة. وقالت مصادر للصحيفة، إن أنقرة طلبت من موسكو وبغداد الجلوس إلى طاولة الحوار الثنائي مع دمشق، من دون حضور أطراف ثالثة وبعيداً من وسائل الإعلام، للنظر في كل الجوانب الرامية إلى إعادة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها.

صحيح أن وساطة العراق لم تكن كافية لولا دعم روسيا وإيران ودول الخليج، لكن يد إيران محسوسة بقوة خلف الكواليس، على اعتبار أن أي ذوبان لطبقة الجليد المتراكمة بين تركيا والنظام السوري سيكون بمثابة انتصار لطهران، وسيعزز نفوذها الإقليمي ويزيد من أهميتها بالنسبة لدمشق.

ومع ذلك، تحرص طهران على ضمان ألا تصبح أنقرة منافساً مرة أخرى في سوريا، التي تستخدم إيران أراضيها بمثابة جسر عبور بري بين طهران و"حزب الله" لتسليحه وإمداده بكل ما تملك يمناها، كونها على يقين شبه كامل بأن المواجهة القاسية بين الجماعة اللبنانية وإسرائيل قادمة لا محالة عاجلاً أم آجلاً، وبغض النظر عما ستؤول إليه الأمور في غزة ومن سيفوز بحرب الاستنزاف وبلعبة عض الأصابع الجارية هناك منذ أكثر من تسعة أشهر.

موقف الأسد

بعد ثلاثة أسابيع من تصريح رئيس الوزراء العراقي، أعلن بشار الأسد أنه يؤيد التفاوض مع تركيا من دون أن يطرح، للمرة الأولى انسحاب قواتها من شمال سوريا كشرط مسبق. وقال للممثل الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لإفرنتييف في الـ26 من يونيو (حزيران) الماضي، "دمشق منفتحة على أي مبادرات تتعلق بالعلاقات السورية - التركية إذا كانت مبنية على احترام سيادة دولتنا على كامل أراضيها".

 

 

ورد الرئيس التركي في الـ28 من يونيو الماضي، قائلاً "لا نرى أي عوائق أمام إعادة العلاقات مع دمشق". في ذلك اليوم، ألقى رجب طيب أردوغان خطابه التقليدي في مسجد الإمام علي في إسطنبول، وقال "كان هناك وقت عندما كنا قريبين جداً من سوريا، عندما التقينا كعائلة واحدة مع الأسد".

تغيير النغمة

وفي عام 2009 كانت العلاقات بين الزعيمين ودية للغاية، إذ استضاف أردوغان وزوجته أمينة عائلة الأسد لقضاء عطلة في بودروم على ساحل بحر إيجه. وكانت التجارة أيضاً في ذروتها لكن الصراع الدموي المرير بين النظام السوري والمعارضة عامة، و"الإخوان" منها على وجه الخصوص في عام 2011 أجبر أنقرة الحاضنة لهذه الجماعة على قطع علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق.

وتشير التصريحات الأخيرة للرئيس التركي ورئيس النظام السوري إلى تغير في اللهجة. بالنسبة لأردوغان تنبع الحاجة إلى تجديد العلاقات مع بشار الأسد من عبء اللاجئين السوريين، إذ استقبلت تركيا 3.2 مليون شخص في 10 أعوام وتصاعدت الحساسيات بينهم وبين الأتراك إلى درجة الاشتباك بالسلاح الأبيض وعمليات تكسير وضرب ونهب.

 

 

ويقول الدبلوماسي والمدير التركي السابق سنان أولغن "هذه مشكلة اجتماعية وسياسية تفاقمت بسبب الانكماش الاقتصادي في البلاد. وهذا ما أدى إلى هزيمة الحزب الحاكم في الانتخابات البلدية في الـ31 من مارس (آذار) الماضي".

ويعتبر مركز الأبحاث المستقل "إيدام" في تركيا، أنه "لهذا السبب فإن الحكومة ملزمة الآن بوضع حل يسمح لهؤلاء اللاجئين بالعودة بأمان وطوعية إلى سوريا. الطريقة الوحيدة لبدء هذا الإجراء هي التوصل إلى اتفاق مع بشار الأسد، الذي من دونه لن يكون هناك أي حل ولا فرصة حقيقية لعودة هؤلاء الأشخاص إلى ديارهم، ولهذا السبب هناك استعداد جديد لبدء المفاوضات مع دمشق"، لكنه يعتبر أن العملية ستكون طويلة وصعبة.

شمال سوريا... وأزمة اللاجئين

وفي إشارة إلى أن الوضع قد تقدم قليلاً أعادت تركيا يونيو الماضي فتح معبر أبوزندين قرب الباب، الذي يربط المناطق التي تسيطر عليها في شمال سوريا بالمناطق التي تديرها حكومة النظام السوري شرق حلب. إلى ذلك، وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان يجري العمل على توسيع الطريق السريع الذي يربط مدينة غازي عنتاب التركية بمدينة حلب السورية التي تسيطر عليها دمشق.

ووفقاً لأحد المراقبين المطلعين، فإن التقارب بين دمشق وأنقرة قد يقتصر على التجارة. ويعد التعاون الاقتصادي الوثيق بين الجارتين مغرياً لبشار الأسد، الذي تعرض اقتصاده للدمار بسبب الحرب والعقوبات الدولية. ومن الممكن أن تستفيد دمشق من استئناف حركة المرور على الطرق الرئيسة والمعابر الحدودية.

غير أن احتمال استعادة العلاقات الطبيعية لا يناسب معظم المتمردين السوريين الذين يعيشون في المناطق الشاسعة التي تسيطر عليها أنقرة في شمال سوريا. لقد اندلعت اشتباكات بين القوات التركية والمتظاهرين السوريين الأحد الـ30 من يونيو والإثنين الأول من يوليو (تموز) الجاري مما أدى إلى مقتل سبعة أشخاص.

آنذاك أحرق سوريون العلم التركي رداً على الهجمات التي تعرض لها أفراد الجالية السورية الذين لجأوا إلى تركيا، ولكن هذا ليس كل شيء، ففي الواقع لعب احتمال التقارب بين أنقرة ودمشق دوراً كبيراً في إشعال فتيل الأزمة. في ذلك اليوم، تعرضت القوات التركية التي تسيطر على جزء من أراضي الشمال السورية لنيران غير مسبوقة من حلفائها السوريين، الجيش الوطني السوري و"هيئة تحرير الشام"، التي كان من المفترض أن تساعدهم على الاحتفاظ بأراضي الشمال.

ونهاية الشهر الماضي، اقتحم متظاهرون غاضبون معبر أبوالزندين الذي أعيد فتحه أخيراً، ودمروا المعدات وطالبوا السلطات المحلية بإغلاقه. وأظهرت صور منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي آثار قصف مدرعات تركية وهجمات على بعض المواقع التركية في عفرين وأعزاز شمال حلب. وفي أحد مقاطع الفيديو، يمكن سماع سوريين معارضين وهم يقولون للجنود الأتراك الذين يدافعون عن الموقع "أنتم تبيعوننا لبشار الأسد".

فرصة للمصالحة... ولكن!

قال الممثل الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لإفرنتييف، إن "الفرصة (للمصالحة) موجودة دائماً. دافعنا دائماً وحتى في السابق عن إمكانية تنظيم مثل هذا الاجتماع، لكن... يبدو أن الظروف في ذلك الوقت لم تكن ناضجة بعد لذلك".

ومع ذلك، يبدو أن الظروف تنضج بصورة حادة. وتنشط السلطات التركية في نشر معلومات تفيد بأن الاجتماع بين الأسد وأردوغان قد يعقد في المستقبل القريب جداً.

صحيح أن هذا الاجتماع يتعارض في الواقع مع كل خطابات وأفعال الرئيس التركي على مدى الأعوام الـ14 الماضية. فمنذ عام 2011، أي منذ بداية الحرب الأهلية السورية، اتهم رجب طيب أردوغان الأسد مراراً وتكراراً بارتكاب كل الخطايا المميتة، من دعم الإرهاب (ممثلاً في تنظيم "داعش") إلى الشعار الغربي التقليدي "تلويث أيديه بالدماء". ونادى الرئيس التركي بأعلى صوته وبكل قواه بضرورة إطاحة بشار الأسد وأن النهاية السلمية للصراع السوري يجب أن تشمل "سوريا من دون الأسد". واتهم الرئيس السوري باستخدام الأسلحة الكيماوية ووصفه بـ"الجثة السياسية".

 

 

لكن الآن وبعد فشل كل الحروب في إزاحة الأسد، قرر أردوغان فجأة أن يضع جانباً هذه الأعوام من الاتهامات والإهانات. ورداً على سؤال "اندبندنت عربية" لإفرنتييف" حول اللقاء المحتمل بين الأسد وأردوغان على رغم كل الإهانات والتوصيفات، قال "لا مظالم ولا سخط في السياسة". وأشار إلى الاستعداد لنسيان كل المظالم وتذكر ما حدث قبلها، ففي العقد الأول من القرن الـ21، نذكركم، قضت عائلتا أردوغان والأسد إجازة معاً أكثر من مرة.

شريك أردوغان في الائتلاف الحاكم، دولت بهجلي (الذي تطرح من خلاله السلطات التركية بانتظام أفكاراً مختلفة للتحقيق العام)، دعا الحكومة إلى "خلق فرصة" لعقد اجتماع بين قادة تركيا والنظام السوري وبدء مفاوضات ثنائية.

نعم، ليس الجميع في تركيا يؤيدون فكرة مثل هذا الاجتماع - المصالحة. ومن بينهم جزء من ناخبي أردوغان، الذين يعارضون حكم الأسد ويدعمون المعارضة السورية بسبب آرائهم الدينية. وسيتذكر معارضو الرئيس التركي الاتهامات المختلفة الموجهة للأسد ويشككون في سمعة أردوغان بسبب قراره التراجع فجأة عن كلامه.

ويوضح ياشار نيازباييف مؤسس قناة "أجندة تركيا" على قناة "تيليغرام"، لصحيفة "فزغلاد" الروسية أن المعارضة الداخلية تستخدم هذا الاستياء لتشويه سمعة أردوغان. "ومع ذلك لا يزال هذا موقف الأقلية"، فغالبية الأتراك يؤيدون التطبيع الذي يعتمد في المقام الأول على البراغماتية المبتذلة.

عدو العدو

على سبيل المثال بسبب عدم إمكانية الوصول إلى المهمة الأصلية دعونا نتذكر أنه في بداية الحرب الأهلية، كان هدف تركيا هو تكرار السيناريو المصري في سوريا أي تحقيق إطاحة النظام القومي العلماني لبشار الأسد واستبداله بحكم "الإخوان" الذين يعتبرهم حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا من الإسلاميين السنة المعتدلين الموالين لأنقرة وأردوغان شخصياً. ومع ذلك والآن بعد أن سيطرت حكومة بشار الأسد بثقة على معظم أنحاء البلاد، أصبح هذا الأمر حلماً بعيد المنال، وهذا يعني أن الاستمرار في اتباع هذا الخط لا طائل من ورائه، ولا يجلب إلا تخريب علاقات تركيا بجيرانها الأقربين والأبعدين.

إضافة إلى ذلك تحتاج تركيا إلى مفاوضات مع دمشق من أجل خروج غير مهين من المغامرة السورية. نعم لقد سمحت موسكو وطهران لأنقرة (التي كانت في البداية واحدة من الرعاة الرئيسين للمسلحين السوريين) بالدخول إلى الثلاثي الذي حدد وجه سوريا ما بعد الحرب، لكن أنقرة لا تستطيع العمل بفعالية ضمن إطار هذا الثلاثي وحماية مصالحها بسبب وكلاء تركيا في إدلب، الذين يتحمل أردوغان المسؤولية عنهم.

لا يستطيع أردوغان أن يستضيف هؤلاء الذين يبلغ عددهم عشرات آلاف المسلحين (وإذا أخذنا في الاعتبار عائلاتهم، أكثر من 100 ألف شخص) في أراضي بلاده، فالمتشددون الأصوليون لا يجيدون فعل أي شيء آخر غير القتال. ومن المستحيل أيضاً التخلص منهم في الصراعات الإقليمية واعتبارهم "وقوداً للمدافع".

ومن المستحيل أيضاً تسليمهم إلى بشار الأسد للانتقام منهم، وذلك لأسباب سياسية تركية داخلية في المقام الأول، فجزء كبير من المسلحين في شمال سوريا هم من التركمان، وهم جزء مما يسمى العالم التركي. وسوف ينظر ناخبو أردوغان إلى استسلامهم بالطريقة نفسها التي ينظر بها الناخبون الروس إلى استسلام بيلاروس لأوكرانيا. لذلك، أمام تركيا الآن خيار واحد فقط هو إبقاء جزء كبير من شمال سوريا تحت سيطرتهم، وهذا يستدعي تقديم دعم مادي للمسلحين هناك من جيوب دافعي الضرائب الأتراك الذين يعانون تضخما متسارعاً وركوداً اقتصادياً متفاقماً.

وأخيراً، يحتاج رجب أردوغان ببساطة إلى مساعدة الأسد في محاربة الأكراد السوريين على المستويات العسكرية والسياسية والاستخباراتية وما إلى ذلك أي بالضبط تقديم نفس المساعدة التي وفرتها دمشق لأنقرة ضد الأكراد قبل بدء الحرب الأهلية السورية.

المصالحة ومصالح الأسد وأردوغان

أما بالنسبة لموقف دمشق من المفاوضات، فتداول عدد من وسائل الإعلام التركية، في الـ23 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، تقارير تقول "الأسد يرفض مصافحة أردوغان". ومع ذلك، إذا قرأت نصوص المقالات نفسها، فيمكنك أن ترى أن الأسد رفض فقط مقابلة الوفد التركي في دمشق، واقترح تنظيم هذا الحدث "في بلد ثالث" (أي ببساطة في روسيا). وهذا منطقي، فالنظام السوري أيضاً في حاجة إلى التطبيع مع القيادة التركية. هناك مرة أخرى أكثر من سبب لذلك.

بالتالي، إذا عادت العلاقات بين أنقرة ودمشق إلى طبيعتها، فإن العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا قد تدخل مجال التنسيق العسكري والأمني المشترك، وتحصل على بعض الشرعية المعدومة دولياً. فبعد أن رفض الأكراد السوريون مقترحات عديدة من موسكو ودمشق لترك المظلة الأميركية والعودة إلى المجال العسكري القانوني السوري، قرروا بأنفسهم مصيرهم.

 

 

 ويمكن لدمشق أن تنظر إلى العمليات التركية ضد الأكراد على أنها صراع قوة خارجية ضد حلفاء الولايات المتحدة إذا نسقت أنقرة هذه العمليات مع دمشق وأعطت ضمانات بأن هذه الأراضي لن تكون تحت سيطرتها طويل الأمد.

إضافة إلى ذلك، في حال التطبيع، سيتم وضع آلية للعودة السلمية للأراضي التي تسيطر عليها تركيا إلى نفوذ النظام السوري. نعم، الآلية طويلة وغير مؤلمة، وترتبط بعدد من التنازلات (على سبيل المثال، ضمانات عدم محاكمة المسلحين الموالين لتركيا)، ولكن في الواقع، لا يوجد بديل، إذا لم تأخذ في الاعتبار سيناريو حرب تركية- سورية كبرى. وأخيراً، يحتاج بشار الأسد إلى تركيا لتحقيق التوازن في السياسة الخارجية.

ويخشى عدد من السياسيين السوريين من أعباء خطرة بسبب اعتماد البلاد المفرط، في رأيهم، على إيران، لذلك يحاول النظام في دمشق تنويع العلاقات الخارجية، بما في ذلك من خلال استعادة تطبيع العلاقات مع السعودية والإمارات وتركيا.

أما بالنسبة لموقف روسيا، فإن موسكو ليست مستعدة فقط لتوفير منصة لمفاوضات دمشق- أنقرة (وربما لعقد قمة بين الأسد وأردوغان)، ولكنها أيضاً مهتمة للغاية بإكمال هذه العملية بنجاح. إن تطبيع العلاقات بين النظام السوري وتركيا سيؤدي إلى إضعاف وحتى إزاحة النفوذ الأميركي من سوريا، وسيصبح أيضاً حافزاً جدياً لعملية التسوية السياسية (نظراً لأن المسلحين الموالين لأنقرة هم القوة الأساسية في معسكرات معارضي الأسد). والتسوية السياسية بدورها هي العنصر الثاني (إلى جانب العنصر الأول المتمثل في التدمير الكامل لتنظيم "داعش") لإتمام المهمة الروسية في سوريا بصورة كاملة وناجح.

حسابات الحقل والبيدر

تظهر سياسات أنقرة المتباينة من الصراع العربي- الإسرائيلي ومن ثورات ما سمي "الربيع العربي"، أن الهدف النهائي للسياسة التركية الحديثة في الشرق الأوسط، لا يتمثل في إيجاد حلول للأزمات الكثيرة التي تعصف بالمنطقة، ومنها الأزمة السورية التي ما زالت مستعصية على الحل، بل يتمثل في الحصول على أكبر عدد ممكن من الأفضليات من عمليات التسوية السياسية والاستفادة منها في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المجد العثماني الغابر، الذي ما زال حياً في قلب وعقل "السلطان" رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا.

وفي هذا السياق، فإن انتقال تركيا الجزئي إلى فلك الصداقة المصلحية الموقتة مع موسكو، جعل أنقرة أكثر قابلية للتفاوض، من ناحية، ومن ناحية أخرى زاد من أهميتها الإقليمية، وفي الوقت نفسه ضاعف طموحاتها المتضخمة بالفعل، وهذا هو سبب السياسة التركية في سوريا إلى حد كبير التي تتمايل مثل البندول.

وهكذا، وبوساطة روسيا جلست تركيا لأول مرة على طاولة المفاوضات نفسها مع منافسها الجيوسياسي المتمثل في إيران، واتخذت مع موسكو عدداً من التدابير ذات الأهمية الأساسية في مجال الأمن الذي على ما يبدو، كان ينبغي أن تطلق عملية تقارب تركيا والنظام السوري، لكن تصرفات الجمهورية التركية في إدلب السورية، آخر منطقة يتركز فيها مقاتلو المعارضة المسلحة، تشير إلى أن أنقرة لا تنوي تقديم تنازلات مؤلمة وكبيرة في شأن القضية، علاوة على ذلك، لا ترغب كثيراً في إجراء حوار مباشر مقرون بشروط مسبقة مع دمشق الرسمية. وكثيراً ما يستفز قوات الجيش النظامي لاشتباكات جديدة.

ومن المهم خصوصاً أنه من أجل إظهار نفوذها، أهملت تركيا التزاماتها تجاه روسيا من خلال عدم انسحاب الهياكل العسكرية المعارضة التي تنفذ عمليات عسكرية ضد الجيش النظامي السوري من منطقة إدلب منزوعة السلاح، حتى إنها تسمح من حين لآخر لهؤلاء المسلحين بشن هجمات ضد مواقعه وكذلك ضد مواقع الجيش الروسي في قاعدة حميميم وهذا ينذر بتصعيد خطر للصراع.

ومن يذكر أن تصرفات القوات المسلحة التركية فوق الأراضي السورية لا تعرض للخطر عملية السلام نفسها فحسب، بل تعرض أيضاً الاتفاقات الروسية - التركية التي توصل إليها سابقاً لأزمة، التي كان الطرفان يعملان عليها لأعوام عدة.

في سياق الحقائق القائمة اليوم، يمكن القول إنه بمرور الوقت ستضطر تركيا إلى تخفيف سياستها تجاه "سوريا الأسد" بغض النظر عن الموقف غير المرن الذي تلتزم به أنقرة الرسمية. وتدرك الدوائر السياسية والمحللون أن العداء المستمر على الحدود يتطلب إنفاق كميات كبيرة من الموارد وتقويض الاستقرار الداخلي في المناطق المجاورة. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن حزب العدالة والتنمية الحاكم وأردوغان شخصياً باتوا يشعرون باستخدام المعارضة التركية الملف السوري ضدهم وتحقيق مكاسب انتخابية بسبب هذا الأمر، لذلك يسعون إلى استبدال السياسة العدائية بقوة سياسية تهدف إلى بناء علاقات ثنائية بناءة مع دمشق تكون أكثر فائدة للجانبين.

الحلول تفاوضية وليست عسكرية

مثل معظم الصراعات بين الدول يقوم الصراع التركي- السوري على تضارب المصالح والتناقض بين القيم الأساسية للأطراف المعنية. ويعتمد تفاعل الصراع بين البلدين على النزاعات الإقليمية التي لم يتم حلها، ومشكلة استخدام الموارد المائية والآراء المتعارضة حول الحقائق السياسية القائمة والمناهج المختلفة لتشكيل نظام أمني إقليمي وقضية اللاجئين، إضافة إلى عدد من العوامل الأخرى التي تزيد من تعقيد التفاعل الثنائي بين الدول وجذورها في الماضي البعيد.

المسار السياسي في تركيا خضع لتغييرات لأسباب عدة، أولاً، كانت جمهورية تركيا تعتمد إلى حد كبير على زملائها الغربيين ولم تر الفرصة لاتباع سياسة تتعارض معهم، مع الحفاظ على علاقات الحلفاء، ثم ثانياً، بذلت أنقرة بالفعل محاولات للوصول إلى المستوى فوق الإقليمي للتنمية، معتبرة نفسها زعيمة المنطقة بلا منازع، وبدأت قيادة البلاد تعد "الربيع العربي" فرصة مناسبة لتعزيز نفوذها وصورتها، إضافة إلى "القوة الناعمة" والآليات السياسية، في هذا السياق، بدأ استخدام العامل الديني بشكل أكثر نشاطاً، الذي أصبح الآن أداة إضافية لأنقرة للضغط على الدوائر الإسلامية - بمجرد انضمام حزب العدالة والتنمية العلماني إلى "الجبهة السنية"، لإحياء القيم الإسلامية، وفي الوقت نفسه قدم ادعاءات ضد دمشق في ما يتعلق باضطهاد السكان السنة من قبل الحكومة العلوية في سوريا.

 

 

إضافة إلى ذلك، ربما يكون قرار أنقرة بتغيير شراكتها مع دمشق إلى المواجهة قد تأثر أيضاً بظرف آخر يؤثر بصورة مباشرة على المصالح الاقتصادية الاستراتيجية للبلاد. وقبل وقت قصير من بدء الثورات الملونة في الشرق الأوسط، رفضت سوريا تنفيذ مشروع طاقة واسع النطاق على أراضيها وهو خط أنابيب الغاز القطري- التركي، وهو ما وجه ضربة قوية متوسطة المدى لخطط وطموحات الدولتين المهتمتين بتنفيذه. وفي وقت لاحق، كان البلدان تركيا وقطر هما اللذان وحدا قواهما لإنشاء أكبر قاعدة للمعارضة السورية، الائتلاف الوطني للمعارضة والقوى الثورية. ودعت علناً إلى إطاحة حكومة الأسد من طريق دعم خصومه.

تركيا اليوم ليست قادرة على مسايرة مصالح حلفائها في الغرب على حساب مصالحها، كما أن موجة "الربيع العربي" انتهت إلى خريف إقليمي قاحل. فشلت سياسة تركيا في بناء علاقات عقلانية خالية من الصراع مع جيرانها في تلك السنوات، وأدت إلى ظهور تناقضات جديدة مع الدول المجاورة.

بمرور الوقت، جرى استبدال الأفكار السلمية جزئياً لوزير الخارجية الأسبق داود أوغلو بأفكار أردوغان التي تعكس طموحاته الإمبراطورية ورغبته في الدخول في التاريخ كمصلح عظيم. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن داود أوغلو لم ينكر في أعماله دور تركيا المهم في المنطقة، مشدداً على فكرة أن لها مستقبل كقائد ليس فقط للعمليات الإقليمية، بل أيضاً للعمليات العالمية. ومع ذلك، إذا اعتمد وزير الخارجية التركي الأسبق بصورة أساسية على الدبلوماسية عند تبرير أفكاره، فإن أردوغان مؤيد لـ"القوة الصارمة" ويفضل استخدام أساليب أكثر تطرفاً، لا سيما الأساليب العسكرية لتحقيق أهدافه.

علاوة على ما سبق، فإن من وجهة نظر بعض الباحثين الأتراك، فإن "نقطة التحول" في العلاقات التركية- السورية الحديثة لم تأت خلال الانتفاضات العربية، بل في عام 2012 نتيجة حادثة طائرة عسكرية تركية من طراز "أف-4" أسقطها الجيش السوري لخرقها المجال الجوي لسوريا، إضافة إلى ذلك، كان عاما 2012 و2013 مصحوبين بهجمات بالقنابل على المناطق الحدودية لتركيا، وعلى وجه الخصوص، تعرضت سانليورفا وريحانلي الواقعتان على الحدود لإطلاق النار، مما أدى إلى تفاقم الوضع غير المستقر بالفعل في المنطقة.

هل تحتاج روسيا لاستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط؟

أول ما يتبادر إلى الذهن هو (لماذا؟)، ويبدو أن روسيا تتعامل مع الأمر بطريقة أن كل شيء يسير على ما يرام، وفي بعض النواحي أفضل من ذي قبل، أي في عهد الاتحاد السوفياتي.

والسؤال، هل كان يمكن أن نتخيل من قبل على سبيل المثال مثل هذا التعاون الوثيق بين روسيا وإسرائيل مع الحفاظ على علاقات الثقة مع فلسطين، وعلاقات التحالف مع سوريا وتطوير التفاعل مع إيران التي أطلقت على الاتحاد السوفياتي لقب "الشيطان الصغير"؟

وهل كان يخطر على بال أحد القادة السوفيات أن يطلق على السعودية صفة الشريك الاستراتيجي، كما فعل نائب رئيس الحكومة الروسية ألكسندر نوفاك مراراً وتكراراً؟

 

 

ببساطة الحياة لا تقف ساكنة. إن الشرق الأوسط يتغير بسرعة وعلى القدر نفسه من الأهمية فإن موقعه في العالم يتغير. إن روسيا والوضع المحيط بها في ديناميكيات مستمرة وكذلك وظائفها الإقليمية والعالمية.

الجواب على سؤال هل تحتاج روسيا لاستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط؟ يتمثل بمضمون العمل المستمر لتحسين وتوضيح وتغيير النمط الهيكلي والوظيفي للاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط.

الأولويات الرئيسة للسياسة الداخلية والخارجية الروسية تقع ربما خارج منطقة الشرق الأوسط، لكن هذه المنطقة كانت تاريخياً وما زالت مهمة جداً للأمن القومي الروسي، لذلك ليس من المفاجئ ولا من باب الترف أن تجهد موسكو من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نفوذها المفقود في المنطقة، وأن تبذل على رغم انشغالها بالحرب في أوكرانيا أقصى ما يمكنها من الجهود لترتيب مصالحة بين دمشق وأنقرة أساسها إعادة ربط ما انقطع بين رئيسي البلدين وإصلاح ما أفسده الدهر والسياسة بينهما.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات