Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إحياء التوتاليتارية يستعيد أوهام الجماهيرية والفكر الميكانيكي

عالم الاجتماع ماتياس دسميت يخشى وقوع البشر ضحايا خراب اليقين العلمي

لوحة للرسام ألان تاييله (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

تمكن العالِم الاجتماعي والسياسي البلجيكي ماتياس دسميت (1976) من توجيه رسالة إلى العالم، مثل قلة من نخبة تفكر في مستقبل البشرية وفي صلاحهم، قبل أن يجرفهم سيل الحماقة وحروب الأوبئة وخراب اليقين العلمي المفرط. ومفاد الرسالة أن العالم ذاهب، من دون أدنى شك، إلى هلاك طبيعته، وبشره، وتوازن إنسانه، وإلى انهيار قيمه، إنْ لم يستدرك أمره في مسألة مكانة العلم النسبية، لا المطلقة، في كل مفصل من الحياة، بأبعادها كافة.

في كتاب "سيكولوجية التوتاليتارية" الصادر حديثاً (2024) عن دار الساقي، وبترجمة الكاتب مالك سلمان عن الإنجليزية، يبسط العالم الاجتماعي ماياس دسميت أفكاره، ومفادها أن ثمة إحياءً لطيف التوتاليتارية، في العالم الغربي، ظهرت بوادرها في خلال أزمة كورونا الأخيرة (2019-2020) والتي أدت إلى وفاة ما يقارب الأربعة ملايين وثلاثمئة ألف شخص في أنحاء العالم، وما سبقها من أزمات صحية، وما رافقها من دراسات وأبحاث تتوخى "العلمية"، ويتبين لدى فحصها والتدقيق فيها أنها مغلوطة، غلطاً فادحاً، وأنها أفضت إلى قرارات أقل ما يقال فيها إنها منحازة، وقهرية، وحاثة على إبادة فئة من المجتمع، أو استبعادها، وفقاً لمقولة الباحث دسميت.

في الجزء الأول من الكتاب - والأخير من ثلاثة أجزاء- يؤرخ الكاتب للفكر العلمي الناشئ في الغرب، أواخر القرن السادس عشر، (1582) على يد غاليليو غليلي الذي كان أول من جرؤ على تفسير واقعة تأرجح الثريا من منظار علمي بحت، وبمنطق غير المنطق الديني، على حد وصف الفيلسوف ميشيل فوكو. ومنذئذ، بدأ النهج العلمي في قول الحقيقة يأخذ مداه، ويتسع، حتى ساد، وبلغ أقصاه أوائل التاسع عشر، حين نهضت فئة من العلماء والمفكرين تقول بقدرة العلم الحصرية على مقاربة كل ظاهرة في الوجود، يتقدمهم أوغوست كونت، وإرنست رينان، وغيرهما.

ولئن كان العلم، وما أنتجه من ثورة صناعية حديثة، غيرت العالم المادي، وقلبت أوضاعه رأساً على عقب، عبر التصنيع والمكننة، والأتمتة، وابتداع وسائل للتواصل والإعلام، والمعرفة، العصية على التخيل والتوقع، فإنه أفرز مشكلات كبرى على الصعيدين العاطفي والاجتماعي والبيئي، ليس أخطرها العلاقات بين الأفراد والجماعات، والروابط الأسرية، والإخلال بالتوازنات بين فئات المجتمع الواحد، وتعميق الشعور بالفرز والاستبعاد، من قبل فئة لأخرى؛ في ما يشبه قراراً بالعزل تصدره قيادة سياسية بحق محكومين، في إطار حكم توتاليتاري، يتوجب على الجميع تنفيذه، بغض النظر عن مفاعيله الأخلاقية المنافية للخير العام والخاص، والمنتهكة حق الأفراد في الحياة والوجود.

وعلى سبيل المثال، أشار الباحث إلى أن نوعية الأبحاث الطبية التي كانت تجري في الغرب، باتت أكثر إشكالية في العلوم؛ "إذ إن 85 في المئة من الدراسات الطبية توصلت إلى نتائج مريبة بسبب الأخطاء والاستهتار والاحتيال".(ص:53)  ويورد وقائع دالة على ذلك، ومنها أن أبحاثاً تجريبية كانت قد أُجريت على عُقار وبينت أنه آمن، ولا آثار جانبية له، فإذا به يحدثُ آلاف الوفيات ويولد آثاراً جانبية خطيرةThalidomide

لدى استخدامه عام 1958، كما تبين أن العقار سبب تشوهات حادة عند 10 آلاف جنين على أقل تقدير، وكان قد سُوق على أنه مضاد للإقياء عند النساء الحوامل. ومثل ذلك ما جرى للهرمون الصناعي دييتيلستيبسترول الذي استُخدم على نطاق واسع، بين عامي 1947 و1976، لمنع الإجهاض، والذي كان من أعراضه السلبية إصابة النساء بسرطان الثدي والعنق والمهبل.

وفي عام 2019 أقيمت دعوى قضائية كبيرة ضد عدد من الشركات الدوائية التي كان لها دور حاسم في أزمة المسكنات المورفينية التي قتلت نحو 400 ألف شخص خلال السنين العشرين الماضية، ودمرت حياة الملايين من البشر. ويعاود الباحث السؤال عن فعالية كل الأبحاث الطبية، والتي يُفترض أنها علمية وموثوق منها، التي أُجريت قبل إطلاق هذه الأدوية، وبعدَ تجريبها، فيخلصُ إلى أنها وإن تكن مقاربتها العلمية منهجية ومنطقية، بيد أنها لم تأخذ باعتبارها العوامل النفسية عند الأشخاص الخاضعين للتجربة، وهذا ما يُدعى بظاهرة "أثر بلاسيبو" أو غيره من الآثار. ضف إلى ذلك، أن هذه التجارب لا تغطي فترات زمنية أكبر تتيح للباحث مراقبة كل التحولات الصحية التي تحدث للمجرب، بل إنها تكاد تحصر المراقبة على حدود زمنية لا تتجاوز الأشهر. حسبُ التفكير العلمي الميكانيكي أو الآلي، الذي ينتهجه أغلب الباحثين "العلميين"، أن مندوبيه يطبقون أهم المعايير العلمية المعتمدة في العالم، وأنهم معنيون بإنجاح الاستثمار الطبي (الأدوية، المكملات الغذائية، الخ)، وليسوا معنيين بالتالي باحترام مجمل أبعادِ عينة المجربين، باعتبارهم بشراً.

والأدهى من ذلك، وفقاً لأطروحة الباحث دسميت، أن هذا التفكير الميكانيكي الذي أفضى إلى كوارث على صعيد التجارب الطبية، هو نفسه الذي كان أسلم قياد المجتمع والاقتصاد والسياسة إلى فئة قليلة، كادت أن تبيد ثروات الأرض السمكية والنباتية والجوفية، وها هي تُشرف على إحداث تحول دراماتيكي في المناخ العالمي لن تنجو المعمورة من آثاره المدمرة، بسبب إفراطها في استهلاك خيرات الأرض، وإن بأحدث الآليات العلمية، تؤازرها في ذلك شعوبٌ وجماعات، كل فرد فيهما مصاب بالعجز، وخوافٌ من زعيمه، ومعزول عن جاره أو قريبه. حتى لكأن ذات هذا الفرد "متشظية" على حد وصف الفيلسوفة حنة آرندت، وقابلة لأن تكون مكوناً أساسياً في الدولة التوتاليتارية.

الكون غير قابل للقياس

وفي موضع آخر من الكتاب يعالج الباحث الطريقة أو المقاربة التي تعتمدها الأيديولوجية الميكانيكية لتحصيل المعرفة، ويتخذ أزمة كورونا مثالاً لهذه المقاربة؛ فيورد أمثلة بل وقائع من تعامل المؤسسات الرسمية والخاصة ذات الثقل في المجال الطبي مع جائحة كورونا، ونسب الوفيات الناجمة عنها، إذ ينقل عن جيرون بوسرت، وهو باحث في الصحيفة الفلمنكية قوله "إن المشافي ومؤسسات الرعاية الصحية الأخرى قد بالغت في أعداد الوفيات وحالات العلاج الناجمة عن كوفيد-19 بهدف الكسب المالي" (ص:86). كما أن البيانات المتعلقة بإحصاء الوفيات في أميركا والتي دلت على أن 95 في المئة من الوفيات كانت ناجمة عن الكوفيد-19، غالطتها المراكز الأميركية المتخصصة بالتحكم بالأمراض، إذ بينت أن الوفيات من الكوفيد لم تتجاوز نسبة 6 في المئة من مجموع المتوفين! وهذا يعني للباحث أن منْ أعد البيانات لم يأخذ في حسبانه المتغيرات الكثيرة، والواقعية، المؤدية إلى الوفاة. ذلك أن التكنوقراطيين الذين يقودون المجتمع، بحسب الباحث دسميت، إنما يتخذون قراراتهم بناءً على بيانات عددية وموضوعية، تحقيقاً للمجتمع المثالي المطروح في رؤيتهم الطوباوية. ولا يزال حتى يورد واقعة أخرى، وهي تعامل السويد مع أزمة كورونا؛ إذ نقل عن أنماط الكلية الملكية فيها أن حالات الوفيات يمكن أن تبلغ 80 ألف شخص، مع أن البلاد لم تطبق استراتيجية الإغلاق، غير أن الوفيات من كورونا لم تتجاوز 6 آلاف شخص. وفي ختام تعليله، يؤكد الباحثُ دسميت أن القياسات نسبية دوماً، وأن اعتماد متغير أوحد فيها يفضي حتماً إلى الغلط، بل إلى الكوارث، ولا سيما إذا كان المقصود بالبحث هم البشر، والكائنات على اختلافها، ويخلص إلى أن الأنظمة التوتاليتارية وإن صح أنها تستخدم الأرقام والإحصاءات استخداماً مفرطاً، "فإنها تزدري الحقائق، وتموه الخطوطَ الفاصلة بين الحقيقة والخيال" (ص:103) ومن تلك الحقائق أن الكون بما ومنْ فيه من الكائنات البشرية، والظواهر الطبيعية، تتسم بقدر كبير من التعقيد والدينامية، بحيث يستحيل التنبؤ بها أو حصرها بالبيانات وغيرها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن ثم يفردُ الباحث فصولاً أخرى للحديث عن ظواهر نفسانية عامة، يمكن اعتبارها، بحسب دسميت، من مكونات النظام التوتاليتاري الجاري تشكيله في العالم، من دون أي دراية أو إشهار من قبل القائمين به، على ما يظن القارئ. ومن هذا القبيل، يورد الباحث أمثلة على ازدياد الإقبال على المهدئات ومخففات الألم الصيدلانية، باعتباره (الألم) من الأخطار المحدقة بالسلامة، إقبالاً يشي بتحوله إدماناً هستيرياً، لا ينجو من آثاره بلدٌ أو شعبٌ، ولا ينفع معه، في ظن الباحث، استنجاد الناس بالقيم القديمة، أو بالروابط العاطفية التي لطالما استندت إليها ذواتهم، قبل زمن العولمة ومعضلاتها.

ويتحدث الباحث أيضاً عن فقدان إنساننا، سواء كان فرداً أو جماعة، معناه في الوجود، ويعتبر أن أزمة كورونا كشفت عن مساهمة المجتمع الصنعي والميكانيكي في إماتة المظاهر الحسية والعاطفية عند البشر، وألغت الحضور الجسماني بما يحمله من أبعاد عاطفية ووجدانية مهمة في بنيان شخصية الإنسان الفرد والمجتمع، على ما بينه التواصل الافتراضي (عبر وسائل الإنترنت، وغيرها). وكيف أن هذا الإلغاء يسهم بدوره بجعل الفرد محكوماً بسلطة غائبة، هي سلطة النخبة البيروقراطية، المدعومة من وسائل الإعلام ذات الخطاب التنويمي للجمهرة الكبرى، وعديلة التوتاليتارية، وفقاً لتعريف الفيلسوفة حنة آرندت.

ولئن كان في هذا الكتاب قدرٌ من التضخيم، أو المبالغة، ولا سيما في تقديره العامل الميكانيكي أو تبخيسه العامل الاقتصادي والسياسي، فإنه جدير بالنظر في مسائل لم يجف الحبر فيها بعد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة