Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دومينيك إدة تسرد سقوط أسرة برجوازية بكل أطيافها

"قصر موال" رواية الحب والخيانة والانتحار على مشارف زمن لبناني مجهول

لوحة للرسام أسامة بعلبكي (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

في رواية "قصر موال" تسرد الكاتبة اللبنانية الفرنكوفونية دومينيك حكايات أسرة بورجوازية على شفير السقوط. في الرواية تسترجع صورا من الماضي والحاضر، وتكتب قصص حب وخيانة وانتحار. ولعل هذا القصر يمثل لبنان الذي يقف على عتبة المجهول.

في إمكان قارئ رواية "قصر موال" للكاتبة اللبنانية الفرنكوفونية دومينيك إدة أن يتثمل صورة لبنان رمزياً أو مجازياً، في هذا القصر العريق الذي يتداعى في بيروت الغربية. فغرفه الكثيرة بات يحتلها غرباء عن البيت، لا سيما بعد أن هجره صاحبه السيد سليم، البرجوازي، المتحدر من عائلة بقاعية إقطاعية، تاركاً إياه لزوجته الإيطالية ليونورا، التي تحن باستمرار إلى اللغة الإيطالية التي ظلت تستخدم بعض تعابيرها ومفرداتها، مثلما تحن إلى روما وإيطاليا وذكرياتها في هما.

 لكن الزوجة محاطة بخادمين فيليبينيين ومساعدة فرنسية، مما جعل المنزل متعدد اللغات، ولكن في حال من التوافق. السيد سليم لم يبتعد أصلاً عن "قصر موال" بعد تركه إياه، ولا عن زوجته والآخرين، فهو اختار فندقاً على الشاطئ البيروتي قريباً من البيت، موثراً أن يعيش حياتين، حياة مع زوجته وحياة من دونها، وهو الأمر الذي ينطبق على الزوجة أيضاً. قال لها حين المغادرة: "لن أتركك، بل سأترك البيت". وهما أصلاً عاشا حياة زوجية، متقاربة ومتباعدة، من غير انفصال ولا تواصل دائمين، خصوصاً عندما تركته فترة غير قصيرة، بعدما وقعت في حب مخرج سينمائي تركي يدعى يامان إيكيم، عاشت معه في السويد. تركت زوجها الذي تحبه، مكاناً وزمناً وجسداً، لا قلباً ووجداناً، ولما عادت إليه، شعرت بأنها لم تتركه، مثلما شعرت، عندما تركت عشيقها التركي، بأنها لم تتركه، ولن تتركه عقب موته.

في هذا البيت ذي الماضي الوجيه، الذي يقع في غرب بيروت تعيش ليونورا أيامها التي ستكون أخيرة، بعد إقدامها على الانتحار لاحقاً. لم يبق لديها في تلك الأيام سوى ذكريات تحاول استعادتها لتقتل بها وحشة العمر، مثلها مثل زوجها سليم الذي يعيش ما تبقى له من ذكريات الزمن الأرستقراطي الذي أضحى أنقاضاً. وبينهما الابن رياض، الذي يقارب الـ45، يعيش على هامش حياتهما، يدخلها حين يزور بيت موال، ويلتقي أمه التي يضمر لها حباً، على رغم أنه لم يستطع أن يتخلص من حقد دفين إزاءها، جراء تركها إياه طفلاً وخيانتها أباه مع عشيق هو يامان إسكيم، السينمائي التركي المعارض، الذي تعرفت إليه مصادفة في سويسرا.

المثلث العائلي

الأب والأم والابن هم أضلاع هذا المثلث العائلي الذي يشهد آخر أشكال انهياره. لكن البيت لا يكتمل من دون الخادمين الفيليبيين، ساري وزوجته ديمي، ومساعدة فرنسي شابة، تدعى فينيز، ترافق السيدة وتقرأ لها أو تكتب لها ما تريد أن تكتبه من رسائل وسواها. وهؤلاء الثلاثة لا يبقون على هامش العائلة، بل يصبحون جزءاً منها، يعيشون القليل من فرحها والكثير من أزماتها ومآسيها التي قد تبدو صغيرة لكنها عميقة في آن واحد. وقد تكون المرافقة الفرنسية فينيز شخصية من شخصيات الرواية، تعاني أزمتها الخاصة وتشارك العائلة مأساتها وتدون انطباعاتها.

خبأت ليونورا السيدة الإيطالية، رسائل زوجها سليم التي كتبها إليها بدءاً من عام 1974، من غير أن يعلم سليم بأمرها. ولعلها كانت تدرك أن هذه الرسائل التي تحمل وقائع زمن الحب، ستكون زاداً لها في زمن الشيخوخة. إنها الآن، في عام 2022 مبدئا، ترجع إليها لتتنسم عطر الماضي، فتقرأها بمتعة مزدوجة، متعة الماضي ومتعة اللحظة الراهنة التي تقرأها فيها. بين يديها أول رسالة مؤرخة في الـ10 من يوليو (تموز) 1974 ويستهلها سليم بجملتين من "فردوس" دانتي تقولان بحسب تصرفه بهما قليلاً "هكذا الأمور تتوجه نحو شواطئ مختلفة تطل على البحر الشاسع، بحر الكينونة". وليس دانتي إلا واحداً من العلامات الأدبية والفنية الراقية التي تحتل وجدان سليم وذاكرته، مثله مثل باخ وشوبرت وسواهما من كتاب وروائيين. سليم رجل مثقف وبورجوازي حقيقي، مؤمن ومسالم، ذو ذائقة مرهفة، عاشق حقيقي، وفي لحبه، وقادر أن يغفر لزوجته خيانتها المعلنة له وتركها ابنها طفلاً لترتمي بين أحضان العشيق التركي خارج لبنان.

 إنها لعبة المصادفات أو لعبة القدر. تعرف سليم إلى الصبية الإيطالية ابنة السادسة والـ20 مبدئا، في مقهى غلاييني على شاطئ بيروت الغربية. هذه الصبية كانت راهبة إيطالية تنتمي إلى الرهبنة الفرنسيسكانية في روما، لكنها قررت الانتقال إلى در الفرنسيسكان في بيروت، كما يفعل بعض الرهبان والراهبات عادة، عام 1970 وكانت في الرابعة والـ20. كانت ليونورا قد دخلت سلك الرهبنة بعد وفاة شقيقها بياترو، التي أثرت فيها كثيراً، ولكن بعد وفاة شقيقها الثاني أنطونيو بعد مجيئها إلى بيروت، قررت هجر الرهبنة نهائياً والتخلي عن الإيمان، أو استبداله بالحب. هذا الموقف ينم عن حال من مواجهة القدر الالهي، والابتعاد عنه، أكثر مما يعبر عن موقف فلسفي أو الحادي.

الراهبة تخلع الثوب

في ذاك الصباح من أبريل (نيسان)، لم يكن مضى عليها في رهبنة بيروت سوى سنتين، أمضتهما في العمل الخيري ومساعدة الفقراء والبائسين، انتقلت ليونورا للعيش صبية عازبة، في غرفة استأجرتها في حي المنارة، غرب بيروت، وانبرت تدرس أبناء الأثرياء، اللغتين، الإيطالية والفرنسية. رفضت العودة إلى بيت عائلتها في روما، فهي لم تكن على وفاق تام معها، بخاصة مع والدها المؤمن والمدمن على الشراب. قررت أن يكون لبنان وطنها الثاني، ولكن مع حنين دائم إلى الأول، وإلى اللغة الإيطالية، التي ظلت تستخدم بعض عباراتها حتى شيخوختها. وعلى رغم حبها لبنان ظلت تعاني ازدواج الهوية مثلما عانت ازدواج شخصيتها، بين الدير وخارجه.

 

اللقاء بين ليونورا وسليم موال، في المقهى البحري أشعل نار الحب في قلبيهما، ثم تزوجا، وأنجبا ابنهما الوحيد رياض. أهل سليم رفضوا هذا الزواج وقال له والده الثري المحافظ: "ستتركك مثلما تركت الله". لكن حياتهما الزوجية سرعان ما انتكست، بعدما وقعت ليونور في حب السينمائي التركي يامان، وتنقلت معه بين السويد وتركيا وتبادلا الآراء في كتب عدة لغولغول كامو ونابوكوف، وفي بعض الأفلام. وعندما تنتهي العلاقة بينهما ويتوفى يامان، فيسحقها هذا الموت، يعود سليم إليها وكأنه هو الذي خانها، فهو يدرك أنه لا شيء يمكن أن يقال في هذا الأمر، وكان يعلم أن ما ينقذها هو أن يحبها كما من قبل، وهو أصلاً لم يتوقف عن حبها ولم يسع إلى الطلاق منها. ليس سليم كما قال فيه ابنه "مسكيناً" وليس ضعيفاً كما كان يظن شقيقه الذي يقيم في فرنسا، والذي لم يستطع أن يستوعب قصة يامان وليونورا، ولا انتقال أخيه للعيش في فندق، مثلما لم يستوعب انحدار أسرة موال، العائلة البورجوازية والإقطاعية. فالعم كان وزيراً والأب من وجهاء البقاع وثروة العائلة لم تكن تحد. يتألم نبيل الذي يعيش وحده مع زوجته في فرنسا، عندما يعلم أن البيت مرهون للبنك وأن شقيقه في شظف من العيش. يقترح عليه خلال المراسلة الإلكترونية أن يرسل إليه 300 يورو شهرياً ويعرض عليه المجيء إلى فرنسا والإقامة عنده..

خيانة وحب

ليس سليم زوجاً مخدوعاً بحسب الصورة الشائعة في الأدبيات، فهو يحب بقوة، ولعله في هذا العمر المتقدم بات يشعر في حاجة إلى الحب، كان يظن أنه لن تبقى له رغبة في مواصلة العيش إذا ماتت ليونورا. إنها الحافز على الحياة بعدما أضحى على الحضيض، مادياً واجتماعياً ووطنياً... لعل شخصيتي سليم وليونورا وسلوكهما يمنحان الخيانة معنى غير مألوف، فهو لم يستطع أن يخونها ويبغضها ويتخلى عنها، ولا هي أيضاً. ظل حبهما ظلاً لهما، حتى في أيام الهجر. هي لم تشأ أن تعرف يوماً إن كان في حياة سليم امرأة أخرى. وعندما تركته لتعيش مع يامان، ظلت تحبه وكأنه يرافقها، وحافظت على رسائله كل هاتيك السنوات. لكنها مثلما أحبت يامان حياً، ظلت تحبه ميتاً. وعندما تصل إليها رسالة من زوجة يامان الأولى، سيمين اقصري، تسر بها، وفيها تخبرها الزوجة عن حياتها القصيرة مع يامان وإنجابهما ابنة، ثم ترد عليها ليونورا وتصبحان صديقتين عبر المراسلة.

كانت ليونورا، هذه الرهبة السابقة، المؤمنة التي تخلت عن الإيمان، واعتنقت دين الحب، في كل معانيه، العشق والمحبة، عشق الحبيب ومحبة الفقراء والعمل على مساعدتهم، وقد أشرفت على مأوى للأيتام وساعدت مومسا على هجر هذه المهنة الكريهة وأدخلتها عالم الخياطة.

تعلم ليونورا أنها متعددة "الانوات"، ومتعددة الهموم والشواغل والأحاسيس، لكنها رغم هذا التعدد، لم تقع في الانفصام، بل كانت واضحة في كل أمورها. فالراهبة التي قضت نحو سبع سنوات في حياة الدير، تخلت عن فكرة الإيمان مع أنها كانت تقول إن على الإنسان أن يؤمن قبل أن يبحث عن حقيقة الإيمان. وبعد تخليها عن الإيمان حافظت على الحدس الروحي وربما الإيماني. تقول "مثلما اختارني الله، اختارني الحب من بعد". وفي جملة أخرى تقول:" كنت أعتقد أن في إمكاني أن أعطي كل شيء، وأعطيت كل شيء". وعندما زارتها سوزان، رفيقتها في الدير، في بيتها، حاملة لها رسالة من المومس التي أنقذتها من مهنتها، قرأت الرسالة الموجهة إلى يسوع، التي تخاطب ليونورا، فهبت للفور من أجل مساعدتها على رغم مرور عقود على لقائهما. وقصة هذه المومس التي تدعى أنجيل مسى، تدخل في السرد كما لو أنها قصة داخل الرواية، وقد عالجتها دومينك إدة ببراعة، جاعلة من أنجيل شخصية من الشخصيات المؤثرة. تعلم ليونورا من رسالة أنجيل، أنها كانت تركت الخياطة وعادت إلى حياة المومسات من جديد، وأنها حملت واختفى ابنها أو تبنته عائلة لا تعرف عنها أمراً. تلتقي ليونور وأنجيل التائبة التي تقدم بها العمر، التي باتت تتحدث عن خطاياها وتوبتها وحبها للمسيح.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 تنطلق ليونور في البحث عن الابن المفقود، بدءاً من ميتم مار منصور الذي تركه فيه القواد أبو هادي، فتحصل على المعلومات التي تبتغيها، وتذهب إلى طرابلس في سيارة تاكسي، سائقها "لبناني" تماماً، متحدث في السياسة والعيش المشترك والفساد... في طرابلس التي استقر فيها ابن أنجيل، تقضي ليونورا ساعات باحثة عنه حتى تصل إليه، هو الذي يدعى طلال زيد، صاحب كاراج للسيارات. يشعر الابن بصدمة عندما يعلم أن أمه ما زالت حية، وكان قيل له إنها جنت وماتت في المصح. تريه صورتها فيقول لها: لماذا تأخرت في المجيء إليَّ؟ تلتقي أنجيل ابنها ويلتقي الابن أمه، بل تعود إليه ويعود إليها، هو المتزوج والأب. وعندما تعلم أمه أنه مسلم ويعلم هو أنها مسيحية، يزداد الشغف والحب، "الله واحد، هذا المهم"، تقول. تنضم الأم إلى عائلة الابن وتصبح العائلة الجديدة صديقة ليونور الدائمة. هذه القضية التي قد تبدو مستغربة أو هجينة هنا، هي من القضايا الحقيقية المعقدة في لبنان منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 1975.

لو لم تكن ليونور هي بطلة القصة هذه، لكان ممكناً القول إنها قصة مسقطة على الرواية من خارج السرد، لكن ليونور هي التي منحت القصة ثقلها، فبدت كأنها لا تزال تلك الراهبة، خادمة الفقراء، عطفاً على أنجيل التي تمثل نموذجاً من المومسات اللاتي كن يشغلن شارعاً في بيروت قرب ساحة البرج.

القتل والانتحار

غير أن عودة ليونورا الراهبة، تتمثل أيضاً في فصل آخر أو قصة أخرى، في سياق السرد نفسه. فهي ترتدي ذات يوم ثياب الراهبة وكأنها هذه المرة تتنكر بها، فتدخل محل سعد المسمار، الذي ينتمي إلى تنظيم أصولي سري يديره أبو فريد، فتطلق الرصاص عليه من مسدس كان في البيت، وترديه، انتقاماً من مقتل الخادم الفيليبيني في منزل عائلة موال. طبعاً هذا حدث مفاجئ في الرواية، فما من أحد كان يتوقع أن تقدم الراهبة السابقة ليونورا، على ارتكاب جريمة، لكن هذا الحدث، يمثل الصراع النفسي التي تعيشه ليونورا ذات الشخصية المتعددة. كان القتيل سعد المسمار يسعى مع أبو فريد إلى توظيف الخادم الفيليبيني المسلم ساري، في التنظيم وجعله عميلاً في الحي. أغراه سعد بالمال وبمعاشرة فتاة إيزيدية، وضرب على وتره السني. لكن الخادم رفض للفور، نظراً إلى طبيعته المسالمة ووفائه لأسرة موال. وخشية من أن يفضح الأمر والرجلين الأصوليين، اختطفه سعد وتم قتله، ثم علق رأسه على حديد سياج بيت موال. وبعد التحقيق الأمني في مقتله، وجدت جثته في كيس. وعندما وجهت ليونورا المسدس إلى رأس سعد قالت له: "إنني أقتل من دون عون الله".

لكن الحدث المفاجئ الأكبر كان في إقدام ليونورا على الانتحار وتوجيه رصاصتين إلى نفسها، أمام مدخل بيتها، بعدما انتهت من قتل الرجل الأصولي. انتحرت ليونور مرتدية ثوب الراهبة أيضاً. ترى من انتحر هنا: العاشقة الدائمة؟ الأم الفاشلة؟ أم الراهبة التي خلعت الثوب ثم لبسته لتغادر الأرض به؟

 

في انتحار ليونورا تنتهي عائلة موال، ويسقط رمز هذا البيت الذي كان يتهاوى أصلاً. سليم المثقف البورجوازي يعود إلى بلدته البقاعية، ليقيم في بيت صغير هو كل ما بقي من أملاك العائلة بعدما باعوها. هذا البيت الذي كان الحارس يستخدمه صار بيت سليم، حارس الفراغ. يعترف سليم بأنه متعب من كل شيء، متعب من عدم فهمه ليونور، من لبنان، ومن "ثقل الوجود الذي ليس هو الحياة تماماً ولا الموت تماماً". بقي سليم وحيداً بعدما ترك الجميع، مثل الخادم فيرس الذي نسيه أصحاب البيت في مسرحية تشيخوف "بستان الكرز"، بعدما رحلوا.

الابن المنشق

رياض الابن الذي لم يفهم أمه يوماً ولا أباه، ولا معنى أن يكون أرستقراطي الجذور، كان مأخوذاً بقضية المسيحيين في لبنان كما في الشرق. يميني متطرف جاهز دوماً للالتحاق بأي حرب للدفاع عن المسيحيين، يرفض أفكار والده العلماني الذي يتهم اليمين المسيحي بالتطرف وسائر الطوائف الغارقة في الكراهية الأهلية. يرفض رياض أيضاً لدى أمه نزعتها الإنسانوية ويلومها على مساعدة اللاجئين السوريين. هو الابن الغريب عن العائلة وعن البيت، يأتي ولا يقيم، لديه حقد مضمر تجاه أمه، التي لم تكن أماً يوماً في نظره. وعندما وقعت في يده مرة رسالة من العشيق يامان، إلى أمه، تحمل تاريخ 13/5/ 1986، ملؤها الشوق الإيروتيكي وتنتهي بجملة "أحبك مثل مجنون"، يسأل نفسه: "كم كان لي من العمر في 1986؟". كان يرى أن أمه تختصر كل أمور الحياة: الدين والعشق والسعادة والبؤس والكوسمولوليتية. وكان يرسم في ذهنه المسار الذي اجتازته من الراهبة، إلى المرأة غير المؤمنة في بيروت، إلى حب سليم والزواج منه، إلى خيانته مع يامان...

وفي الرسالة التي تركتها ليونورا لابنها رياض قبيل انتحارها، توضح له التباس علاقتها به معترفة بحبها الشديد له. ومما تقول له: "يا بني لماذا لم أعرف كيف أحبك، الحب الذي أحبك إياه؟ لماذا؟". وتعترف له أنها لم تعطه ما كان يجب أن تعطيه إياه كفاية.

قبيل انتحارها، تركت أيضاً رسالة لزوجها سليم ووصية ورسالة موجزة لمرافقتها الفرنسية فينيز. تقول لسليم في مراجعة سريعة لحياتها، إنها كانت تفتقد وطنها الأم إيطاليا كثيراً، "لكنك كنت بلادي". وتضيف: "سليم أحبك، أحبك في لحظات ما قبل رحيلي، مثلما نحلم بالحب". وتقول: "ارحل مدركة كم أحبك".

نجحت دومينيك إدة في توظيف تقنية كتابة الرسائل داخل الرواية وجعلت هذا الفن عنصراً من عناصر البناء والسرد، لكنها لم تتعمد أن تجعل روايتها رواية تراسلية (إيبيسولير) على غرار روايات عدة منها: "العلاقات الخطرة" (لاكلو) و"إلويز الجديدة" (روسو) و"الأم الشاب فيرتر" (غوته) و"شكل حياة" (أميلي نوتوب)... تستهل الرواية بقراءة ليونورا بالعدسة المكبرة رسائل سليم القديمة، وتنهيها برسائل ليونور، وتتخلل هذه الرسائل رسالة زوجة يامان، ورسالة المومس أنجيل وسواهما. لعله استخدام بارع لهذا الفن الذي يتحول إلى نوع من المونولوغ الداخلي الذي يشكل عنصراً مهماً جداً في السرد الروائي، ويخلق فسحة لما يسمى "تيار الوعي"، الذي برع فيه روائيون كبار مثل جويس في "أوليس" وصمويل بيكيت في "مالون يموت" أو فرجينيا وولف في "الأمواج" وكامو في "السقوط"... تحول دومينيك إدة الرسائل إلى نصوص مونولوغية، وكأن الشخصيات تحتاج هنا إلى أن تتكلم أو إلى أن تقرأ ما تكلم به سواها. حتى ليونور كانت تتكلم لنفسها وحيدة، والخادمة الفيليبينية كانت في حاجة ماسة إلى الكلام خصوصاً في غربتها البيروتية وخوفها الدائم من الحرب. أما فينيز فكانت تكتب ما يشبه المذكرات والانطباعات متكلمة مع نفسها، عطفاً على كتابتها الرسائل لسيدة البيت، متمتعة بهذا الدور. وفينيز هذه شخصية مهمة رغم عيشها كفرنسية متحررة على هامش العائلة. فهي تدرس اللغة العربية في الجامعة اليسوعية، وكانت على علاقة بشاب لبناني ما لبثت أن انتهت. فينيز تبدو كأنها تشبه اللبنانيات الشابات اللاتي وكانت تسهر وسطهن في الحانات البيروتية. ولم تتمالك عن ممارسة الحب مع سليم، مرة وحيدة، قادتهما إليها نزعة غامضة لديهما.

الحب في الشيخوخة

قد تكون "قصر موال" من الروايات النادرة التي تتناول الشيخوخة بعمق، نفسياً ووجودياً، وتجعلها حال التقاء بين الحياة والموت، بين الرغبة ويقظة الجسد، بين العجز والتحدي. يدرك سليم واليونور أن كل شيء انتهى من حولهما، وأنهما انتهيا أيضاً، على رغم الحب الذي ظل يمنح معنى لحياتهما أو ما بقي منها. ولعل حضور الموت فيهما أو وعيهما به رد عنهما الخوف، وجعلهما يتقاربان بعضاً من بعض، وكأن الموت شاخ معهما، وأصبح ظلاً لشيخوختهما. الموت في نفسيهما، في جوارحهما، يعيش معهما بصمت. بل كان ينيرهما بنور لا شمس لها. وهو النور الذي كثيراً ما تحدث عنه سليم، واصفاً إياه بـ"الوجه الصامت من الحياة". وفي لحظة حب قصوى يتعانقان ويستعيدان مذاق الجنس والشهوة الجسدية. لقد اشتعلت نارهما من جديد، كما تقول الروائية "أصبحا شابين للتو، هما العجوزان، وتصاعدت رغبتهما بهدوء وبطء حتى لحظة المتعة، هي أولاً، ثم هو، وقد خامرهما إحساس بأنهما دفعا الموت إلى الفراغ... رأسه ملقى على ثديها، فمه مفتوح مثل كلب مدلل أو منهك".

عندما بدأت في قراءة رواية دومنيك إدة شعرت كأنني أدخل إلى عالم فيلم سينمائي، فعين الراوية تدور مثل كاميرا، ملتقطة مشهد البيت والحديقة والأثاث والفضاء الداخلي، وبدت ليونورا التي تستخدم عدسة القراءة، أشبه بشخصية سينمائية. وفي مواصلتي القراءة، شعرت أنني أمام لعبة مسرحية مأسوية، قوامها المونولوغات التي تحملها الرسائل. هذه الخلطة الرائعة نجحت بها دومنيك إدة كل النجاح، علاوة على لغتها السلسة، المعروفة بها، وتقنياتها السردية التي وظفتها خير توظيف (التقطيع، الترجيع، الاستعادة، الحوار، السرد داخل السرد، الاختبار...).

هذه رواية تقرأ بمتعة مثلما تقرأ بأسى، أسى المشهد العائلي الذي يتداعى، بناسه ومكانه ورموزه. ولعله مشهد الوطن الذي يدعى لبنان، والذي أضحى على حافة السقوط، إن لم تحدث معجزة، لا أحد يدري كيف ولا ما هي، المعجزة هذه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة