ملخص
يعيد الفنان بابلو بيكاسو اهتمامه بلوحة الفنان الإسباني الكبير المنتمي إلى القرن الـ17 دييغو بيلاسكويث "لاس مينينياس" (الوصيفات) (1656)إلى سنوات وعيه المبكر حين شاهد اللوحة للمرة الأولى وكان في رفقة أبيه فطبعته طوال حياته
لا شك أن كثراً من محبي لوحة الفنان الإسباني الكبير المنتمي إلى القرن الـ17 دييغو بيلاسكويث "لاس مينينياس" (الوصيفات) (1656)، يفضلونها على غيرها من لوحات تلك المرحلة لقيمتها الفنية، بأكثر مما يفعلون انطلاقاً من أي بعد آخر، حتى وإن لم يهتموا كثيراً بعلاقة الفنان بها وتحديداً بكون الفنان قد رسم نفسه في لوحة باتت منذ ظهورها علامة استثنائية في تاريخ الفن. ومع ذلك ثمة في القرن الـ20 اهتمام آخر بهذه اللوحة ينبع أولاً، لدى رهط من مفكرين قرأوا ميشال فوكو ولا سيما مقدمة كتابه المبكر "المراقبة والمعاقبة"، ينبع من كون فوكو قد تحدث طويلاً عن هذه اللوحة في تمهيده لكتابه بحيث أضفى عليها أهمية خارج أبعادها الفنية تتعلق أساساً بذات الفنان نفسه معروضة في اللوحة نفسها، لكنه ينبع ثانياً وفي المجال الفني الخالص هذه المرة من تعلق الفنان، الإسباني الأصل بدوره، بابلو بيكاسو باللوحة. وهو اهتمام يعيده الفنان نفسه إلى سنوات وعيه المبكر حين شاهد اللوحة للمرة الأولى وكان في رفقة أبيه فطبعته طوال حياته. وهي طبعته إلى درجة أنه بعد أن حاكاها، بقدر ما يمكنه ذلك، في واحدة من أولى اللوحات "الجدية" التي أنجزها وهو بعد بالكاد قد تجاوز سن الطفولة، لن يتوقف بعد ذلك عن محاكاتها كلياً أو جزئياً وربما في أكثر من 50 لوحة لا شك أن أهمها وأشهرها تلك التي رسمها بألوان زيتية بالأسود والأبيض والرمادي في عام 1907 بمقاييس شديدة القرب من مقاييس لوحة بيلاسكويث الأصلية.
منطق شديد الخصوصية
فلئن كانت لوحة الفنان الإسباني الكلاسيكية تبلغ 276 سم عرضاً مقابل ارتفاع يزيد على ذلك (318 سم)، فإن بيكاسو عكس الآية بحيث إن عرض لوحته (260 سم) زاد على ارتفاعها (194 سم) محولاً إياها من لوحة طولية إلى لوحة عرضية ضمن إطار منطق خاص به... فهو في تلك المرحلة المتأخرة من حياته (76 سنة) كان يتبع في فنه منطقاً يفضل للمشاهد الجماعية أن تكون عرضية بينما يجعل للبورتريهات الفردية مقياساً طولياً. لكن المهم ليس هنا بالطبع. المهم بحسب ما سيؤكد دارسو فن بيكاسو أن استخدام المقياس العرضي للوحة الأساسية لم يكن سوى استذكار لتلك الأولى التي رسمها نقلاً عن لوحة بيلاسكويث وهو فتى فأتت عرضية... نكاية بأبيه إذ تساجلا حول اللوحات ومقاييسها فبدا الفتى متمرداً بل ربما غير في المقاييس لمجرد أن تكون تلك حالة التمرد الأولى في مسيرته الفنية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن "لاس مينينياس" الأولى التي رسمها بيكاسو كانت أقرب إلى واقعية الكلاسيكيين التي اتبعها بيلاسكويث، فإنه لاحقاً حين حاكى اللوحة نفسها جعلها تكاد تعبر عن تلك التجديدات التي اتبعها في فنه طوال ما يقارب ثلثي قرن بعد ذلك بدءاً من التكعيبية التي بعدما "ابتكرها" في "آنسات أفينيون" أوصلها إلى ذروتها في لوحته الكبيرة - والتي يمكننا حسبانها أشهر لوحات القرن الـ20 قاطبة - "غويرنيكا". فالحقيقة أن "لاس مينينياس" الكبيرة التي رسمها بيكاسو في عام 1957 تبدو أقرب ما تكون إلى تلك اللوحة الضخمة الرائعة التي "خلد" فيها فنان القرن الـ20 الكبير المجزرة التي اقترفها النازيون الهتلريون في شمال إسبانيا لحساب فاشيي الجنرال فرانكو، بل إن اللوحة المنقولة عن بيلاسكويث تبدو للوهلة الأولى وكأنها محاكاة لـ"غويرنيكا" قبل اكتشاف أنها محاكاة للفنان الإسباني القديم الكبير.
معركة ضد أسراب الحمام
غير أن حكاية لوحة بيكاسو الكبرى هذه لا تتوقف هنا بالطبع بل هي حكاية تكاد تكون من أغرب الغرائب في حياة هذا الفنان. حكاية تبدأ تحديداً في الـ17 من أغسطس (آب) 1957 أي في اليوم الذي نقل فيه بيكاسو محترفه إلى الطابق الأعلى في الفيلا المعروفة باسم كاليفورنيا بين كان وفالوريس في الجنوب الشرقي على الساحل الجنوبي الفرنسي. ولعل أول ما فعله بيكاسو يومها تعليق منسوخة بالأسود والأبيض للوحة بيلاسكويث، على أحد جدران المحترف. وسيقول الفنان لاحقاً إنه منذ ذلك اليوم الأول تعمد أن يجعل لوحة سلفه الكبير بتلوينها "المتقشف" شاهدة على المعركة الضخمة التي راح يخوضها ضد أسراب الحمام التي كانت لا ترتدع عن غزو المحترف. وستقول جاكلين امرأته التي كانت تقيم معه في الفيلا بأن معركته ضد الحمام كانت يومية ولم تنته إلا بعد ذلك بما يقارب ثلاثة أشهر وبالتحديد آخر ديسمبر (كانون الثاني) من العام نفسه. وخلال تلك الفترة ولكي يزود نفسه بقوة الإلهام التي تمكنه من الانتصار في معركته رسم بيكاسو 58 لوحة مستوحاة مباشرة من منسوخة بيلاسكويث المعلقة على الحائط. فاللوحة كانت أمام ناظريه طوال الوقت مصحوبة بذكرياته عن تلك اللوحة المبكرة التي رسمها حين كان فتى صغيراً.
بعيداً من "غويرنيكا"
وطبعاً لا يمكن أن نزعم هنا أن ما رسمه بيكاسو خلال خريف 1957 كان لوحات ضخمة ومتكاملة. فهو وإن كان قد بدأ جهوده في هذا المجال باللوحة - بالأسود والأبيض - التي ستكون الأضخم وتصبح الأشهر، فإنه بعدما أنجزها بشهرين تماماً، أنجز نسخة جديدة إنما بالألوان هذه المرة كبيرة المقاييس بدورها (161 سم عرضاً مقابل 129سم ارتفاعاً) تقترب أكثر من التكعيبية التلوينية لتبتعد أكثر عن الانتماء إلى أسلوب "غويرنيكا" الذي سار على هديه في اللوحة السابقة مباشرة كما أشرنا. أما خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) التالي فإنه غاص هذه المرة وطوال أسابيع قليلة في دراسة شخصيات الوصيفات بتعمق بحيث نجده هذه المرة، وفي ما لا يقل عن أربع لوحات طولية تراوحت مقاييسها بين المتر وربع المتر ارتفاعاً مقابل ما يقل قليلاً عن المتر عرضاً، يقدم دراسات تكاد تكون سيكولوجية الأبعاد لوصيفة أو أكثر في كل لوحة ولكن في نوع من المزج الخلاق بين الأسلوبين التلوينيين المهيمنين على اللوحتين الكبيرتين السابقتين. وفي النتيجة بدا من الواضح أن بيكاسو المقترب من الـ80 من عمره قد بدا هنا في قمة تجريبيته، بل يكاد يكون مهتماً بأن يجعل من تلك المجموعة الهائلة من اللوحات ما يبدو كنوع من وصية فنية لا تختصر فقط مسيرته الفنية كما يمكن لنا أن نخمن، بل كذلك ما يريد من الفن ولماذا يريده، بل يمكننا أن نقول هنا باختصار إن الغاية الأولى التي توخاها بيكاسو هنا إنما كانت العودة بالفن إلى تجريبيته المطلقة ودعوة المتلقي إلى تتبع العملية الفنية وكيف تسير خطوة خطوة للوصول إلى مستوى إبداعي لكنه سير تراجعي وليس سيراً كرونولوجياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذروة التجريبية الفنية
فالفنان لا يبدأ هنا من الدراسات التمهيدية كما يمكن أن يفعل أي فنان يتوخى من منطق معين أن يكون دليله في خطواته، بل يشتغل على نوع من تراجع زمني ينطلق من حقيقة تقول ببساطة إن النتيجة النهائية لتلك التجريبية (لوحة بيلاسكويث نفسها) معروفة سلفاً ومن ثم ما يمكن إضافته إنما هي تراجعية زمنية فنية تقول ما كان يمكن أن يتابع فيه فنان الزمن الكلاسيكي خطواته بتراجع زمني مفترض. بالنسبة إلى بيكاسو كان ما يتوخى الوصول إليه ليس أقل من كشف سر الإبداع بعرض نتيجته والخطوات التي أوصلت إليه في وقت واحد. ومن هنا وعلى رغم ضخامة هذا المشروع لم يتمكن المؤرخون حتى اليوم من التقاط جزئيات أسراره التي يمكن، أيضاً، أن تكون قد أفلتت من الفنان نفسه إلى درجة بدا معها أنه إنما كان يحاول أن يتسلى بألوانه وتاريخه في وقت ضائع يفكر فيه بكيف ستكون خطواته التالية وهو يخوض معركته الضخمة ضد أسراب الحمام، ولكن أيضاً ضد غزو الزمن الذي حشره في زاوية الذكريات بعدما كان هو يعتقد أنه لا يزال قادراً على أن يحلم. ومن هنا سيبدو دائماً أن أي حديث عن مجموعة هذه اللوحات لا بد أن يكون جزءاً أساسياً من الحديث عن سيرة بيكاسو نفسه وسيرة علاقته بفنه.