Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لطيفة تكين ترصد حركة التحولات البطيئة في البيئة التركية

"عزيزي الموت الوقح" رواية عن العلاقات الأسرية في أسرة ريفية تنتقل إلى المدينة

لوحة للرسام التركي فكرت كولفردي (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

 في مقال نشرته صحيفة الغارديان البريطانية بتوقيع سامي كنت خلال الـ27 من يونيو (حزيران) 2024، يدرج الكاتب رواية "عزيزي الموت الوقح" للكاتبة التركية لطيفة تكين ضمن خمسة كتب يعدها الأفضل في فهم المجتمع التركي خلال القرن الماضي. وحديثاً صدرت الترجمة العربية للرواية.

رواية "عزيزي الموت الوقح" للكاتبة التركية لطيفة تكين التي صدرت ترجمتها العربية أخيراً عن منشورات مرفأ بتوقيع أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير، هي حمالة أوجه. وبالدخول إلى الرواية من عتبة العنوان وتمظهراته في المتن الروائي يمكن الإشارة إلى أن العلاقة بين العنوان والمتن تجمع بين الانسجام والانفصام. وهي علاقة انسجام لأن العنوان يتخذ من "الموت" شخصية روائية وهو ما ينسجم مع اتخاذ المتن من بعض المجردات والأشياء والنباتات شخصيات روائية، تتعالق مع بعض الشخصيات البشرية. وهي علاقة انفصام لأن الموت في العنوان موصوف بالوقاحة بينما هو في المتن مهذب يحاور ويداور، ويؤجل القبض على روح فريسته ريثما تنجز بعض المتأخرات، ما يكسر الصورة النمطية التاريخية للموت الذي يرتبط بأجل محدد، حتى إذا جاء أمة معينة "لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون"، على حد تعبير الآية القرآنية الكريمة.

 بالانتقال إلى المتن ترصد لطيفة تكين في روايتها حركة التحولات البطيئة في فضاء تركي، ريفي/ مديني، في النصف الثاني من القرن الماضي. وهي تفعل ذلك من خلال رصد العلاقات الأسرية في أسرة ريفية تنتقل إلى المدينة بحثاً عن آفاق أرحب للعيش. غير أن ما تحمل معها من موروثات ومعتقدات وطقوس يفرغ عملية الانتقال من مضمونها، ويحول دون انخراط الأسرة في حياة المدينة، فتغدو كـ"معيد القريتين" على حد تعبير المثل الشعبي في بلاد الشام، لا هي عيدت في دمشق ولا في دمر أدركت العيد. لذلك يطغى التوتر على العلاقات بين أفرادها فينخرطون في صراع داخلي يتم التعبير عنه في سلوكات مختلفة، مما يجعل من الأسرة نوعاً من "برج بابل" عائلي تتعدد فيه اللغات وتتبلبل الألسنة ويغني كل على ليلاه، وتتفكك على رغم وجودها في حيز واحد. وإذا بنا أمام مسارات متعاكسة ومصائر مختلفة. فحين يتواطأ الجهل والغيب على الأسرة - أية أسرة - تغدو عملية التمدن فارغة من مضمونها. فالإقامة في المدينة لا تجعل المقيم مدنياً والإقامة في الريف لا تجعل المقيم بالضرورة خارج التمدن.

 استعصاء متكرر

 في الوقائع الروائية تفشل محاولات الأب هوفات أكتاش المتعددة إدخال أهالي قرية ألاجوفيك في جو المدينة واختراعاتها، فحين يأتيهم بالموقد يستقبلونه ببرود شديد وحين يجلب لهم الراديو يصاب أكثر من نصف السكان بجلطة دماغية، وحين يصطحب معه امرأة بوجه أحمر ورأس عار وثياب مفتوحة يسيئون معاملتها، وحين يجيء لهم بالحافلة يشعرون بالرعب منها ويرفض معظمهم ركوبها، وحين يحضر لهم مضخة المياه ينظرون إليها "وكأنها كلب ميت ملقى على الأرض". وإزاء هذا الاستعصاء المتكرر على التمدن يقرر هوفات النزوح مع أسرته إلى المدينة. غير أن أعطاب أفرادها ومحمولاتهم الريفية السلبية تفرغ العملية من مضمونها وتلقي بثقلها عليهم، فلا يتخلقون بأخلاق المدينة ولا يعودون إلى أخلاق القرية.

و في هذا السياق يمكن الإشارة إلى أن الأب هوفات أكتاش شخصية غريبة الأطوار تجمع بين الشيء وضده، يحاول تمدين أبناء قريته ويفتقر إلى أبسط شروط التمدن، ويطلق النار على الأبواب والجدران ويلعب البيض مع الأولاد، ويساعد زوجته في الحظيرة والمنزل ويضربها حين تدعو الحاجة، ويرتبط بغيرها ويجدد نكاحه عليها ويحب أولاده ويمنعهم مما يحبون، ويلتحق بشيخ ملتح ويبتعد منه حين يكتشف حقيقته ويعيش بين الآخرين ويشك بهم. ويمكن الإشارة إلى أن الأم عطية شخصية تجمع بين المتناقضات وتؤثر الخيارات القصوى، تعيش في الواقع وتؤمن بالخرافة وتحب أولادها وتعنفهم وتدير دفة الأسرة وتسيء الإدارة وتمارس التسبيح وتقرأ الفأل، وتبدي الحرص على أولادها وتمنعهم مما يحبون وتعلم بموعد مجيء عزرائيل ليقبض روحها وتفاوضه على تأجيل مهمته وتتشاجر معه، وتتصدى للزبانية بعد موتها وتقلب العالم الآخر رأساً على عقب، وتحاصر أولادها برقابة صارمة ولا تتورع عن فحص عذرية ابنتها ديرميت وذكورية ابنها محمود.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

و بين هذين الوالدين ينشأ الأولاد الخمسة ويحمل كل منهم أعطابه التي تتفاوت من ولد إلى آخر، فالأخ الأكبر خالد يرتكب في طفولته السرقة والسكر والتخريب ويكره العمل ويؤثر التبطل، ويتزوج بقرار من أبيه ويعجز عن الدخول بزوجته ويسعى جهده إلى الانفصال عنها. غير أنه يبدي مرونة وتفهماً لحاجات أخته ديرميت ويقف إلى جانبها حين يقسو عليها الآخرون. والأخ الأوسط سيد يعمل وينقطع عن العمل ويمارس البلطجة والابتزاز وجمع الإتاوات ويحاول خطف إحداهن بالقوة ويدفع ثمن ذلك، ويمارس التهديد والوعيد على أخته ديرميت ولا يتورع عن ضرب أخيه محمود لثنيه عن التواصل مع بعضهن. والأخ الأصغر محمود يرفض التعلم والعمل حتى إذا ما عمل يلحق الضرر بأرباب عمله ويمارس القمع على أخته ويتحكم بسائر أفراد الأسرة حين يتولى عملية إعالتهم. أما الأخت الكبرى نوبر فتعيش على هامش الأسرة حتى إذا ما أحبت ابن الجيران ذات يوم تتعرض للضرب وتعرض أمها للطلاق، وتحبس نفسها في الحمام وتأكل مسحوق الغسيل احتجاجاً على ما حل بها. غير أن الفرد الأكثر سوية من دون سائر أفراد الأسرة هو الابنة الصغرى ديرميت التي تجنح منذ الطفولة نحو التمرد على أحكام الأسرة وتدفع ثمن تمردها، وترفض فكرة الرحيل إلى المدينة وتتكلم مع المضخة وعشبة الطير وتبدي تفوقاً في الدراسة وتكتب القصائد، وتصغي إلى الراديو وتتعلق به وتشج رأس الصبي الذي تحب لأنه لم يتحدث إليها وتصادق إيسون وترفض التخلي عن صداقتها، وتتمرد على رغبة أخيها محمود في ترويضها بذريعة أنه يصرف عليها. ولعل هذه الشخصية هي الوحيدة في الرواية التي تأخذ مصيرها بيدها وتخرج عما يرسمه لها الآخرون. لذلك، تشكل واقعة تعليق القرنفل الأحمر على صدرها في نهاية الرواية إشارة روائية إلى الاستمرار والقدرة على مواصلة التحدي. وبهذا المعنى يتحقق التمدن في الرواية على المستوى الفردي ويفشل على المستوى الجماعي.

 حلول سحرية

  ولعل السبب في هذا الفشل يكمن في الحرص الشديد الذي تمارسه الأسرة على أفرادها وبخاصة الوالدين منهم، فيمنع الأفراد من مزاولة ما يحبون وتوأد ميولهم واستعداداتهم في مهدها، فباسم الحرص يمنع خالد من تربية الطيور ويمنع محمود من العزف على الغيتار، وتمنع ديرميت من كتابة الشعر والإصغاء إلى الراديو وتمنع دوبر من الحب. ويتحول هذا المنع إلى نوع من التدمير الذاتي يمارسه أفراد الأسرة بحق بعضهم بعضاً، مما يجعل التمدن حلماً بعيد المنال ذلك أنه يحتاج إلى الحرية وهو ما يستحيل تحقيقه في ظل الممنوعات الكثيرة. على أنه مما يزيد الطين بلة لجوء الأسرة إلى الحلول السحرية في معالجة المشكلات المطروحة من قبيل كتابة التمائم وزيارة التكايا وقراءة الفأل والتواصل مع الأولياء، وممارسة السحر والشعوذة وغيرها. وهو ما يجعل إمكانية التمدن مستحيلة.

 هذه الحكاية تضعها تكين في نص روائي تحتشد فيه التفاصيل ويزخر بالطقوس والفولكلور والمعتقدات الشعبية ويفرد هوامش واسعة للسحر والخرافة، ويعيد للحكائية حضورها الروائي. على أنه يغرق أحياناً في تفاصيل مجانية لا تقدم ولا تؤخر ولا تشكل وقائع مفيدة في العملية السردية، مما يجعلها سرداً لأجل السرد ويستدعي نفساً طويلاً للقراءة. وبذلك تواكب الحركة النصية البطيئة التحولات الحدثية البطيئة ويكون هناك تكامل بين الإطار الروائي والمحتوى الحكائي، ولعل هذا ما جعل سامي كنت يدرج الكتاب ضمن الكتب الخمسة الأكثر فهماً للمجتمع التركي خلال القرن الماضي.  

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة