ملخص
تمكن الكاتب الألماني جورج بوخنر خلال ما لا يزيد على ثلاثة أعوام ختم بها حياته من إنجاز المسرحيات الثلاث التي كتبها خلال تلك الحياة وتعتبر اثنتان منها اليوم في الأقل من أشهر المسرحيات الألمانية التي كتبت في ذلك الزمن
حين رحل الكاتب الألماني جورج بوخنر عن عالمنا عام 1837 كان بالكاد قد تجاوز الثالثة والعشرين من عمره، أي كان في تلك السن التي يبدأ فيها الموهوبون كتابة أعمالهم، ومع ذلك تمكن خلال ما لا يزيد على ثلاثة أعوام ختم بها حياته من إنجاز المسرحيات الثلاث التي كتبها خلال تلك الحياة وتعتبر اثنتان منها اليوم في الأقل من أشهر المسرحيات الألمانية التي كتبت في ذلك الزمن، فهو عام 1835 كتب "موت دانتون" ليتابع مسيرته العام التالي بمسرحيته الثانية "ليونيس ولينا" ثم عام 1937 الذي سيموت فيه مسرحيته الثالثة والأشهر "فويتزيك" علماً أن هذه الأخيرة ومسرحيته الأولى عن "بطل الثورة الفرنسية" قد حولتا إلى فيلمين سينمائيين خلال الربع الثاني من القرن الـ20 ناهيك بأن "فويتزيك" قد حولت إلى أوبرا وقدمت في عدد من اللغات لكن ذلك لم يكن الإنجاز الوحيد الذي حققه جورج بوخنر قبل أن يرحل فهو تمكن أيضاً من ترجمة عدد من نصوص فكتور هوغو من الفرنسية إلى الألمانية وكتب رواية بعنوان "لنتز" مات دون أن يتمكن من استكمالها، كما حاله بالنسبة إلى "فويتزيك" التي اعتُمد فيها على الملاحظات التي تركها بحيث تبدو منذ ذلك الحين الأكثر اكتمالاً بين أعماله.
تراث متكامل
والحقيقة أننا إذا استثنينا مسرحية بوخنر الوسطى "ليونيس ولينا" وهي مسرحية كوميدية سنجدنا أمام عملين مسرحيين يمكن النظر على أنهما متكاملان بالنظر إلى البعد السياسي–الأخلاقي الذي يغلفهما، وكذلك يمكن في حال استكشاف العلاقة بين المسرحيتين ضم المسرحية الكوميدية إليهما بحيث باتت المسرحيات الثلاث تشكل نوعاً من ثلاثية احتاج الأمر إلى ما يقارب قرنين مضيا على ولادة بوخنر عام 1813 قبل أن يقرر مخرج مسرحي فرنسي هو لودوفيك لاغارد أن يجمع الثلاثية في عرض واحد قدمه عام 2013 على مسرح لاسيته وسط باريس فيحقق به نجاحاً كبيراً دفع بعضاً إلى التساؤل حول ما الذي أخر مزج الأعمال ببعضها البعض كل تلك الأعوام الطويلة وبخاصة أن المواضع تكاد تكون جامعة من ناحية تفاعل المؤلف مع التاريخ من خلال تلك المواقف السياسية الأخلاقية الجامعة بل حتى من خلال تلك الجرأة التي دفعت المؤلف في ذلك الزمن المبكر إلى الدفاع عن "ليونس ولينا" طالباً من جمهوره ألا يستخف بها، وهو استخفاف تنبه إليه وقد خمن بأن هذا الجمهور قد ينحو إلى اعتبار المسرحية مجرد عمل بورجوازي خفيف همه الإضحاك، وقد كتب بوخنر في ملاحظاته التي سجلها أن هدفه لم يكن إضحاك الجمهور والتسرية عنه بل الاشتغال على تنوير هذا الجمهور واجتذابه لهدف لا يبتعد بأية حال عن الهدف الدرامي–الاحتجاجي الذي دفعه إلى كتابة المسرحيتين الأخريين.
معدمون ومرضى
وذلك لأنه في "موت دانتون" كما في "فويتزيك" قد قدم حكايتين تتعلقان بشخصيتي مريضين عقلانيين أولهما كاتب مسرحي ينتمي إلى تيار العاصفة والاندفاعة الألماني الذي مهد لظهور الرومانطيقة الألمانية، فيما الثاني –فويتزيك– كان مجرد مجرم يرتكب جريمة قتل أرملة مولع بها.
ولعل ما يلفت النظر هنا هو أن الشخصيتين اللتين تتمحور هاتان المسرحيتان حولهما تنتميان إلى المعدمين الذين قد لا يكون فقرهما أساسياً هنا بينما الشخصيات الأساسية في "ليونيس ولينا" شخصيات موسرة مما يمكن أن يضعها في تعارض مع الشخصيتين الأوليتين وكأن الكاتب إنما أراد عن تعمد أن يقدم صوراً لفئات من المجتمع تبدو متناقضة ودون أن يكون المجتمع نفسه، في ظاهر الأمور في الأقل سبب المآسي بالنسبة إلى دانتون ومصدر التأزم بالنسبة إلى شخصيات المسرحية الكوميدية، وهكذا من دون أن يتعمد الكاتب أن يبدو وكأنه يرسم خلفية طبقية واضحة لما يحدث في كل من المسرحيات الثلاث، ها نحن نراه يقدم ولو بصورة مواربة الخلفية الطبقية لشخصياته في مناخ من النقد الاجتماعي الذي لا شك أنه سيوصل إلى السياسة في نهاية المطاف.
حوارات حول الثورة
وكما يمكننا أن نتصور بالطبع يقدم لنا "موت دانتون" في فقرات وفصول عدة، بطلي الثورة الفرنسية دانتون وروبسبيير وقد انتهى بهما الأمر إلى الانفصال عن بعضهما البعض بعدما يتبين لهما محدودية الفعل الثوري الذي قاما به معتقدين أول الأمر أنه حقق نجاحاً تاماً لكن الحقيقية وبحسب ما تبين لهما لم تكن كذلك، فأن تقود ثورة شيء أما أن تحول الثورة من عمل مغامر إلى منظومة فكرية سياسية فأمر آخر تماماً، أمر سياسي وليس تصوراً شاعرياً وفلسفياً. ومن هنا ينتهي الأمر بالرفيقين الثائرين إلى إدراك أن قوانين حركة التاريخ الفولاذية لا يمكنها في نهاية المطاف إلا أن تنتصر على الأحلام، ويكون دانتون أول من يدرك ذلك هو الذي يجد نفسه يغوص في أحلامه الثورية التي كانت هي ما دفعه إلى التحرك آتياً من بلده البعيد بولندا، كي يحقق في فرنسا تلك الثورة التي تنبع لديه أصلاً من شاعريته الحالمة.
أما روبسيير فأكثر واقعية من رفيقه وأكثر تلاؤماً مع الحقائق التي يدركها جيداً، وهكذا في وقت يعي دانتون فيه ما باتت الثورة تعانيه من ضروب الإرهاب والقتل الذي يروح الثوار أنفسهم ضحية له، يحاول دانتون تهدئة ثائرة رفيقه وينصحه بأن ليس هكذا تكون الثورة، يدرك روبسبيير أن دانتون سينتهي به الأمر أن يكون عقبة كأداء في وجه طموحاته السياسية "المشروعة" فيقرر مجابهته والتخلص منه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قوانين التاريخ
وينتهي الأمر بروبسبيير إلى سجن دانتون الذي يتمكن من الفرار من السجن لكنه لا يتمكن من الفرار من مصيره بل حتى من أسلوب عيشه الرغيد على عكس روبسبيير الذي سيبدو أقرب إلى الطاغية سان جوست وإلى دي مولين تبعاً للأحداث الإرهابية التي تؤول إليها الثورة كلها بما في ذلك ما يصاحب ذلك من تدخلات للعنصر النسائي، سواء من قبل جولي زوجة دانتون أو لوسيل زوجة دي مولين وحتى دون أن يكون لتلك التدخلات سند تاريخي غير أنها تضفي على الأحداث السياسية الكبرى سنداً عائلياً لعل أهميته تكمن في أن المسرحية تمزج في النهاية وحتى الوصول إلى موت دانتون ورفاقه المتآمرين أحداث التاريخ الكبرى بالأحداث الصغيرة عبر نظرة شديدة القسوة يلقيها الكاتب على واحد من أهم الأحداث الكبيرة والقاسية التي عرفتها أوروبا في ذلك الحين.
كوميديا بين أحداث كبرى
أما "ليونيس ولينا" فتقع زمنياً بين المسرحيتين الدراميتين لتقدم حكاية تبدو للوهلة الأولى أقل أهمية وأبعد عن التاريخ، حكاية الأمير ليونيس الموعود باكراً بعرش مملكة بوبو ولكن في الوقت نفسه بيد الأميرة لينا، الأميرة في مملكة بيبي، التي لم يرها في حياته، وهكذا بالتوازي يحاول كل من الأمير والأميرة التمرد على ذلك الجانب من مصيريهما فيقرر كل منها على انفراد الهرب في اتجاه يختلف عن اتجاه الآخر ويكون كل من الاثنين قد قرر أن يبحث عن شريك لحياته لا يتمتع بأي حسن ولا يفقه شيئاً حول شؤون الثقافة، لكن القدر يكون لهما بالمرصاد كما عادته، فيلتقيان في فندق في إيطاليا ويتعارفان دون أن يدرك أي منهما أن الآخر هو موعوده. في النهاية يدركان هذه الحقيقة ويقبلان بها ويكون اتفاقهما الوحيد على أن يستجيبا للأقدار شرط أن يجعلا من الشعبين مجرد دمى ترفه عنهما.
أما بالنسبة إلى مسرحية "فويتزيك" فإن بوخنر بناها انطلاقاً من حادثة قتل حقيقية لن ندرك في النهاية كيف حدثت، هل كانت انتحاراً، قتلاً، أم من تدبير الأقدار المتحكمة بنا؟ أما ضحية الجريمة فهي ماري الأرملة الحسناء التي يغرم الجندي العائد من الجبهة بها لكنها خلال مهرجان في الحقول تثير غيرته فيمضي وقته مدبراً خطة لقتلها والانتحار بعد ذلك. لكنه بعد التخلص منها يبقينا غير واثقين من شيء على أية حال.