ملخص
"إن عسكرة الاقتصاد والإيمان بالقوة السحرية للاستثمارات الحكومية الضخمة ساعدت أواخر القرن الـ 20 في التعجيل بانهيار الاتحاد السوفياتي، لكن الرئيس الروسي نجح حتى الآن في تجنب المصير نفسه".
في روسيا يُعد تقليد السخرية من التخطيط الاقتصادي السوفياتي قديماً قدم محاولات تحسين النظام الاقتصادي تقريباً، وتسأل نكتة قديمة "ماذا سيحدث لو طُبقت الاشتراكية في الصحراء؟" الإجابة أنه "في البداية لن يتبلور أي شيء باستثناء الخطط، ومن ثم سيقع نقص حاد في الرمال" [أي أن الإشتراكية الروسية قادرة على إيقاع خلل في العرض والطلب حتى في السلع الأكثر وفرةً].
وتقول نكتة أخرى، أعجبت كثيراً رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي السابق ألان غرينسبان، في عصر بريجنيف تسير مجموعة من الأشخاص في عرض عسكري وسط الساحة الحمراء الواقعة في موسكو، لكنهم يرتدون بدلات رسمية فضفاضة بدلاً من الزي العسكري، ويسارع مساعد إلى الزعيم السوفياتي: "يا ليونيد إيليتش لا نعرف من هم هؤلاء الأشخاص"، ليجيب بريجنيف "اهدأ يا رفيق، هؤلاء هم أسلحتنا الأكثر تدميراً، الخبراء الاقتصاديون السوفيات".
بعد أكثر من عامين وستة أشهر على إطلاق "العملية العسكرية الخاصة" الروسية في أوكرانيا، يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم تردعه سمعة المخططين الاقتصاديين في بلاده، ومن دون شك كانت النتيجة الأكثر لفتاً للنظر في التعديل الحكومي الذي أجري هذا الربيع في تبديل أندري بيلوسوف، وهو خبير اقتصادي حكومي ليست لديه خبرة عسكرية، بسيرغي شويغو وزير الدفاع منذ فترة طويلة.
لا، بيلوسوف رجل لا يرتدي بدلة فضفاضة بل بدلة باهظة الثمن ومناسبة لمقاسه، وقد شغل سابقاً منصب وزير التنمية الاقتصادية ومساعد الرئيس للشؤون الاقتصادية ونائب رئيس الوزراء، لكن ثمة سبباً وراء تعيينه.
يبلغ الإنفاق العسكري الروسي اليوم نسباً ضخمة، وفق بعض التقديرات، فقد خُصص ما يقرب من ثلث موازنة عام 2024 للدفاع، ليسجل نسبة من الناتج المحلي الإجمالي هي الأعلى بالمقارنة بأي عام آخر في تاريخ روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي، إلى درجة أن وحده خبير اقتصادي (في منصب وزير الدفاع) يمكنه أن يستخدم هذا الإنفاق بشكل فعال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا في الأقل هو أحد تفسيرات بوتين، ويبدو أنها الحال النادرة التي لا يكذب فيها، أما التفسير الآخر فهو أن الإدارة الفعالة للتكنولوجيا العسكرية الروسية ستمكن البلاد من تحقيق "السيادة التكنولوجية"، أي الاكتفاء الذاتي الكامل في الصناعات المدنية أيضاً، وكذلك يستطيع الإنفاق العسكري الضخم، حتى لو وجب أن يأتي على حساب رأس المال البشري، بما في ذلك الخدمات الاجتماعية والصحية أحياناً، دفع التنمية الاقتصادية من ناحية المبدأ.
ومن هذا المنظار يُعد بيلوسوف الخيار الصحيح، إذ إنه آت من المدرسة الاقتصادية الرياضية السوفياتية ويملك إيماناً كاملاً بقدرة السلطات العليا على احتساب كل شيء، وبأن أموال الدولة وتدخلات الدولة يمكن أن تحل أية أزمة.
وصف مراقبون بيلوسوف بالفعل بأنه "كينزي عسكري"، في إشارة مهينة إلى حد ما إلى جون ماينارد كينز، المنظّر البريطاني الذي ذاع صيته مطلع القرن الـ 20 ومناصر التحفيز الحكومي، وفي شكل أكثر دقة تذكرنا أفكار بيلوسوف بالنهج الذي ساعد في تقويض الاتحاد السوفياتي، مثل النمو غير المستدام للإنفاق الدفاعي وعسكرة الاقتصاد من دون هوادة. وبطبيعة الحال فكونه خبيراً اقتصادياً محترفاً، لا يدعو بيلوسوف إلى التخلي عن السوق، لكنه يؤيد الرأي القائل بأن الإنفاق الحكومي المكثف، بل الإنفاق العسكري تحديداً، يمكن أن يكون محركاً للتنمية، ومن الإنصاف وصف هذا النهج بأنه نموذج بوتين الاقتصادي الجديد، نموذج لم تحدده ضرورات حربه في أوكرانيا وحسب، بل أيضاً عقود من العلاجات السوفياتية غير المفيدة والتفكير السوفياتي الوهمي.
إلى حد ما يمثل ذلك تحولاً عن أعوام بوتين الأولى في منصبه، ففي نهاية المطاف تسلم زمام السلطة في أعقاب الإصلاحات الليبرالية التي طُبقت في التسعينيات، وخلال أعوامه الأولى في السلطة بدا أنه يدعم إعادة الهيكلة الواسعة النطاق وتحرير الاقتصاد الروسي، وكذلك يدرك تماماً أهمية الحفاظ على مؤشرات قوية للاقتصاد الكلي وتحقيق التوازن في موازنة الدولة، وهذا هو السبب في أنه لا يزال يحتفظ بتكنوقراطيين عقلانيين في إدارته، مثل محافظة المصرف المركزي إلفيرا نابيولينا ووزير المالية أنطون سيلوانوف.
لدى بيلوسوف ثقة كاملة في قدرة السلطات على احتساب كل شيء.
لكن بيلوسوف يأتي من خلفية مختلفة تماماً عن الإصلاحيين الليبراليين السابقين، ومن خلال تعيينه يعود بوتين اليوم لما هو في الأساس اقتصاد سوفياتي، لكن مع بعض من عناصر السوق المهمة، ويجمع النموذج الجديد بين تدخل الدولة والتركيز المهيمن على المجمع الصناعي العسكري، وإحلال منتجات محلية محل الواردات، مع اقتصاد سوق في مجالات مختلفة، بما في ذلك واردات موازية من مختلف المنتجات الغربية لتلبية طلب المستهلكين.
إنها تجربة مثيرة للاهتمام لكنها أيضاً تجربة ذات تاريخ طويل ومحفوف بالأخطار، ويصح ذلك أكثر بالنظر إلى أن التأميم يطاول عدداً متزايداً من الشركات الكبرى، مما يقوض الثقة في حماية الملكية الخاصة ويشير إلى أن السوق في حد ذاتها معرضة إلى خطر، وعلاوة على ذلك أشار الكرملين بطرق أخرى إلى أنه لا يملك ما يكفي من المال لتحقيق التوازن في الموازنة، فمثلاً لقد رفع للتو الضرائب المفروضة على الطبقة الوسطى.
وعلى غرار بعض أسلافه السوفيات يبدو أن بوتين يراهن على أن النفقات العسكرية الضخمة التي يديرها محتسبون اقتصاديون، يمكن أن تنقذ البلاد بدلاً من إفلاسها، لكن كما تعلّم النظام الشيوعي الراحل بعد فوات الأوان، لا يستطيع اقتصاد مبني على الحرب أن يستمر إلى الأبد، بغض النظر عن مدى جودة حسابات المخططين، ولكنه من خلال تبني نهج كهذا يخاطر بوتين وبيلوسوف بالقضاء على ما تبقى من الأسس الاقتصادية الليبرالية التي اكتسبتها روسيا بشق النفس، وهذه المبادئ التي كرّسها مصلحون اقتصاديون قبل أكثر من 30 عاماً، حافظت حتى الآن على استقرار النظام الروسي نسبياً على رغم عزلة البلاد المتزايدة، وحين تختفي هذه المبادئ فقد يكون من الصعب جداً تجنب انهيار أكبر.
بدلات بريجنيف الفضفاضة
وبالعودة للحقبة السوفياتية كان للقيادة في موسكو دائماً دور حاسم في نجاح محاولات تحويل اقتصاد البلاد وفشلها، على رغم أن إصلاحات اقتصادية نُوقشت في عهد نيكيتا خروتشوف (1953 - 1964) في عهد بريجنيف، حاول رئيس الوزراء أليكسي كوسيغين بموافقة بريجنيف إعادة تشغيل الاقتصاد الاشتراكي، وبدأ الجهد بنشر مقالة استفزازية عام 1962 في صحيفة "برافدا" بقلم اقتصادي يدعى إيفسي ليبرمان، الذي حاجج لمصلحة ضرورة زيادة استقلالية الشركات بدءاً بكيفية استخدامها أرباحها، ولم يكن نشر هذه المقالة مصادفة، ففي الحقبة السوفياتية لم تكن المقالة في "برافدا" مجرد مقالة بل كانت دائماً بمثابة تعليمات، وفي هذه الحال عنى ذلك أن السلطات اعتبرت أن الوقت قد حان لإصلاح الاقتصاد السوفياتي بالفعل، وأن التوقيت كان مؤاتياً للتغيير.
وهكذا بدأ نقاش في الصحافة السوفياتية وبين السلطات حول كيفية إصلاح ما يُسمى الآلية الاقتصادية، وبحلول مطلع عام 1965 ظهر ليبرمان على غلاف مجلة "تايم" تحت العنوان الرئيس "مغازلة الشيوعية للأرباح".
وأخيراً في ذلك الخريف أصدر كوسيغين تقريره الحكومي الشهير الذي اقترح رسمياً بعد نقاش استمر فترة بين الاقتصاديين، منح الشركات استقلالية محدودة وحرية أكبر في التصرف في إيراداتها، وحتى حرية توسيع نطاق منتجاتها استجابة للطلب، وكان ذلك بمثابة ثورة في الوعي السوفياتي، إذ لم يكن من الضروري إنتاج البضائع وفق التخطيط السوفياتي وحسب، بل كان أيضاً من الأفضل بيعها، ومع ذلك كانت مجرد تجربة بين المشككين، وأصبحت إصلاحات كوسيغين تُعرف مع بعض السخرية باسم "تحرير ليبرمان".
في الواقع تزامنت الإصلاحات مع تحول في مهنة علم الاقتصاد نفسها، وفي ذلك الوقت كان الاقتصاديون يعتنقون الأساليب الرياضية لتحويل الاقتصاد السوفياتي من مجرد ركيزة للماركسية اللينينية التقليدية إلى علم حديث، وأدت نظرية الأداء الأمثل التي تقول بأن النموذج العملي للاشتراكية يمكن أن يستند إلى مجموعة شاملة من الحسابات من أجل التوصل إلى اقتصاد متوازن تماماً، دوراً أساساً تُؤخذ فيه القطاعات وحاجات المواطنين كلها في الاعتبار، وأحد مراكز التفكير الجديد كان المعهد الاقتصادي والرياضي المركزي، إذ بحث جيل جديد من الاقتصاديين الرياضيين عن صيغة سحرية للتحسين الشامل، وكانوا يأملون في تصميمها بمساعدة تكنولوجيا الكمبيوتر.
وكان حجم العمل الهائل مرهقاً، فكيف يمكن للاقتصاديين السوفيات الربط وتحقيق التوازن بين آلاف مهمات التخطيط وأكثر من 10 آلاف من التوازنات المادية (معدلات تدفق المدخلات والمخرجات في التصنيع) التي كانت كتابتها واجبة لكل سلعة سوفياتية، من المعادن الحديد المدرفلة إلى منتجات الألبان، وفي نهاية المطاف لم يتوفر مسار بيروقراطي واحد حتى للتعامل مع هذا كله، إذ كانت المعادن الحديد المدرفلة تخضع للجنة تخطيط الدولة أو "غوسبلان"، والمعادن الحديد المدرفلة إلى لجنة الإمداد الحكومية، وفي أواخر الحقبة السوفياتية ضمت "غوسبلان" 70 قسماً فرعياً ونحو 3200 موظف. واستغرقت الخطة السنوية نفسها عشرات المجلدات واحتُسبت في مركز الحوسبة الرئيس في "غوسبلان"، حيث احتل كمبيوتر ضخم اُشتري من المملكة المتحدة طابقين، وتحت غرف الآلات خُزنت مياه ارتوازية لأن الآلات احتاجت إلى تبريد.
لكن هذا الجهد الهائل لم يفعل كثيراً لإنقاذ الاقتصاد السوفياتي، وصحيح أن الاقتصاد السوفياتي انتعش خلال النصف الثاني من ستينيات القرن الـ 20 وأن أرقام النمو الرسمية كانت عالية جداً، ويرجع ذلك للإصلاحات، على رغم أنه من المرجح على ما يبدو أن النمو حفزته ضغوط تضخمية، فلقد دفع الحد الأدنى من الحرية الشركات إلى زيادة تنوع منتجاتها، وبالتالي زيادة الأسعار في صورة طفيفة.
أما الحقيقة الأعمق فمفادها بأن إصلاحات كوسيغين كان محكوماً عليها بالفشل في غياب سوق والملكية الخاصة، ذلك أن أي قدر من حسابات المخططين لا يستطيع من دون اقتصاد مفتوح إبقاء العرض والطلب تحت السيطرة.
"بتروقراطية" المكتب السياسي
بحلول نهاية الستينيات واجه الاقتصاد السوفياتي مشكلة أخرى وهي نقص العمالة، ومن بين عوامل أخرى اُستنفدت القرى الريفية التي كانت توفر القوى العاملة لفترة طويلة، والمثير للدهشة أن بوتين يواجه مشكلة مماثلة اليوم في اقتصاده القائم على الدولة المركزية الذي تغذيه الحرب، لكن المشكلة في حاله هي نتيجة أكثر للتدهور الديموغرافي البعيد الأجل والنزوح الجزئي للأفراد المؤهلين إلى الخارج، فضلاً عن الحاجات الهائلة على صعيد تجديد القوات المسلحة.
في ديسمبر (كانون الأول) 1969 تحدث بريجنيف صراحة عن أزمة العمل والمشكلات الاقتصادية الأخرى أمام الجلسة العمومية للجنة المركزية، وكان الخطاب نارياً جداً إلى درجة أن السرية فُرضت عليه، وربما كان بريجنيف يحاول إظهار أن إصلاحات منافسه كوسيغين لم تحقق شيئاً، لكن انتقادات بريجنيف من الإنفاق غير الفعال إلى الفشل في تطبيق التكنولوجيات الجديدة كانت دقيقة، ودافع على ما يبدو عن دخول موسكو في مغامرات جيوسياسية مكلفة، في منطق يستبق في شكل خارق منطق بوتين اليوم.
قال بريجنيف إنه "لو لم نساعد في صد مكائد الإمبريالية في جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط لكان ذلك قد ألهم الأميركيين وحلفاءهم شن أعمال عدوانية جديدة في مكان ما أقرب إلى حدودنا، ولو لم نحبط خطط الثورة المضادة في تشيكوسلوفاكيا لكانت قوات حلف شمال الأطلسي قرب حدودنا الغربية تماماً".
تماماً كما هي الحال مع الإصلاحات الروسية والسوفياتية الفاشلة الأخرى، تزامن تراجع جهود كوسيغين مع جمود سياسي، وبدأ هذا الجمود في أغسطس (آب) 1968 مع الغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا، وعلّقت التغييرات الاقتصادية ليس فقط بسبب تراجع الاهتمام لدى رأس الهرم، وفي هذا الوقت تقريباً كان الـ "بترو دولار" يتدفق على الاقتصاد السوفياتي، إذ بدأت حقول النفط المكتشفة في الستينيات الإنتاج، وارتفعت أسعار النفط بعد أزمة النفط عام 1973.
وفي هذه المرحلة لم تعد الحاجة تدعو على الإطلاق إلى إصلاحات على ما يبدو، وكما هي الحال في روسيا في عهد بوتين، فقد أدمنت القوة العظمى النفط والغاز اللذين استخدمت عوائدهما لتمويل الواردات الغذائية والصناعية، وفقدت الرغبة في التغيير قيمتها، لكن كما اكتشف السوفيات لا يمكن لنهج كهذا أن يستمر إلا لفترة محددة.
سيُحسن الكرملين اليوم صنعاً إذا لاحظ أن النفط السوفياتي اُستنفد في غضون عقد من الزمن، وبحلول عام 1979 ومع الغزو السوفياتي لأفغانستان وسباق التسلح النووي بين موسكو وواشنطن، كان الاقتصاد السوفياتي يراكم العجز في كل قطاع تقريباً، وكانت هذه العوامل هي التي أدت في وقت لاحق إلى التضخم المفرط عندما أنهى جيل جديد من الإصلاحيين العمل بضوابط الأسعار بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وعند هذه المرحلة أمكن للإصلاحيين الاقتصاديين في روسيا تكرار الجملة الشهيرة من فيلم سوفياتي شعبي يعود للستينيات: "كان كل شيء قد سُرق قبل وصولنا".
من يخشى البطالة؟
اليوم تذكر تسعينيات القرن الـ 20 على أنها أعوام التحرير الاقتصادي على نطاق واسع في روسيا، وكثيراً ما تُعتبر الحقبة التي يمارس بوتين اليوم ردود فعل عليها، وفي الواقع جرت بالفعل محاولات للإصلاح الاقتصادي خلال ثمانينيات القرن الـ 20 خلال عهد ميخائيل غورباتشوف الذي بدأ في إعطاء الشعب السوفياتي ليس فقط بعض الحريات السياسية، بل أيضاً بعض الحريات الاقتصادية إلى جانبها، لكن إصلاحات غورباتشوف الاقتصادية كانت بطيئة ثم توقفت تماماً.
من ناحية سعى غورباتشوف إلى توسيع هامش المبادرة الاقتصادية تدريجياً، فللمرة الأولى سمحت الحكومة بإطلاق مشاريع مشتركة مع أجانب، فضلاً عن السماح ببعض أشكال المشاريع الخاصة الصغيرة وإنشاء شركات شبه خاصة في قطاعات الخدمات، ومع ذلك استمرت أموال الدولة تُضخ بالطريقة المعتادة في صناعة الآلات، وعندما تجرّأ الخبير الاقتصادي نيكولاي شميليف ليقترح علناً أن الحكومة يجب أن تسمح بالبطالة في ظل الاشتراكية، غضب غورباتشوف.
لدى بيلوسوف ثقة كاملة في قدرة السلطات على احتساب كل شيء.
مع ذلك كانت الحاجة إلى نهج أكثر دراماتيكية إزاء الإصلاح الاقتصادي قد اتضحت، فمنذ الأعوام الأولى من ذلك العقد من الزمن كانت مجموعات من الاقتصاديين الشباب تعقد حلقات دراسية سرية ثم رسمية في لينينغراد وموسكو، وفي لينينغراد كان زعيمهم أناتولي تشوبايس، وهو اقتصادي شاب نظم ورش عمل علمية غير رسمية ورسمية في المدينة وجمع مجموعة من الأشخاص ذوي التفكير المماثل في موسكو، كان يغور غيدار، الذي كان باعتباره الأكثر موهبة في صفوف تلك الفئة الشابة، يشارك بالفعل في إعداد وثائق تحليلية وبرامجية للحزب والحكومة، وشكلت هاتان المجموعتان فريقاً متماسكاً إلى حد ما، وسرعان ما فهمتا أن الحاجة ستدعو إلى إصلاحات اقتصادية جذرية وبعيدة الأجل، وكذلك نظرتا في طرق مختلفة لخصخصة الملكية التي عرفتا أن تحقيق تحول حقيقي في الاقتصاد الاشتراكي غير ممكن من دونها.
زخرت الأعوام الباقية من عمر الـ "بيريسترويكا" بالمناقشات الاقتصادية الساخنة والمنافسة بين مختلف الفصائل الإصلاحية، ففي يونيو (حزيران) 1987 عقدت اللجنة المركزية جلسة عامة حول الاقتصاد ضمت عدداً من الاقتصاديين السوفيات التقدميين المنتمين إلى المدرسة القديمة، وبخاصة اختير الاقتصادي الأكاديمي ألكسندر أنتشيشكين لرئاسة معهد الاقتصاد واستباق التقدم العلمي والتكنولوجي، وهي مؤسسة جديدة جذبت فئة من الاقتصاديين الشباب الواعدين الآخرين بمن فيهم غيدار، وكان من بين موظفيها الصغار جداً وزير دفاع بوتين لاحقاً أندريه بيلوسوف.
ومع ذلك فشل غورباتشوف في تبني خطوات أكثر جرأة على رغم أن دوره في التحول الواسع النطاق الذي شهده الاتحاد السوفياتي كان هائلاً، ولم يجرؤ على إعادة تصميم الاقتصاد السوفياتي، وبدأ يواجه أزمة أكثر خطورة، فلقد اقترن الركود بديون خارجية ضخمة وتضخم خفي كان يخترق الاقتصاد تدريجاً، مع عجز هائل في الموازنة ونقص حاد في الوقت نفسه في البضائع والمنتجات، ومثّل انهيار الاتحاد السوفياتي السياسي الذي اكتسب زخماً لم يمكن إيقافه بعد محاولة الانقلاب ضد غورباتشوف في أغسطس 1991، النتيجة الطبيعية لهذا الانهيار.
حسابات أقل... إنتاج أكثر
كونه خصماً لغورباتشوف، أدرك بوريس يلتسين أن الاتحاد السوفياتي كان ينهار وأنه لا يستطيع تكريس سيطرة له على السلطة، وليس فقط سياسياً، سوى في روسيا المستقلة، وأدرك أيضاً أن روسيا ستحتاج إلى إجراء إصلاحات اقتصادية جذرية لا يمكن تنسيقها مع الجمهوريات السوفياتية السابقة التي لم يكن كثير منها مستعداً لتبني اقتصاد السوق.
في خريف 1991 دعا يلتسين إصلاحيي غيدار الشباب إلى كتابة برنامج الإصلاح، وكذلك عرض على الاقتصاديين الشباب، الملقبين بشباب شيكاغو بسبب قناعاتهم الليبرالية، مناصب رئيسة في الكتلة المالية والاقتصادية لحكومته، وأصبح غيدار مستشار يلتسين الاقتصادي الرئيس ثم شغل منصب رئيس الوزراء بالنيابة، وأصبح تشوبايس وزيراً للخصخصة ثم نائباً أول لرئيس الوزراء ومسؤولاً عن الاستقرار المالي، وعلاوة على ذلك، وبينما كانت الإصلاحات قيد التنفيذ، كان موقف الرئيس الروسي ورئيس الوزراء الروسي مترابطين في شكل فعال، مما وفر للإصلاحيين الدعم السياسي الذي كانوا يحتاجون إليه. (قُوبلت الإصلاحات بمعارضة شرسة من قبل البرلمان وكان دعم يلتسين حاسماً في منحها غطاء سياسياً).
وهكذا بدأت إعادة الهيكلة الاقتصادية المثيرة للجدل التي شهدتها التسعينيات، فحرر غيدار الأسعار وكذلك التجارة المحلية والخارجية، وبدأت الحكومة في خصخصة مرافق الدولة، وعلى رغم اعتبار الأوساط الغربية الإصلاحات القسرية علاجاً بالصدمة، أشار إليها غيدار نفسه باسم "تدابير تنظيم ضربات القلب"، لأنه اعتقد ببساطة بأن غيابها سيجلب مجاعة وستختفي البضائع من المتاجر، وبفضل برنامج التحرير امتلأت رفوف المحال وبدأت قوى السوق في العمل، لكن سرعان ما أُلقي باللوم على الإصلاحيين في ارتفاع معدل التضخم وتوقف إنتاج البضائع التي كانت تفتقر إلى طلب كاف، والانخفاض السريع في الإنفاق العسكري والزراعي، وإغلاق كثير من المصانع العسكرية الصناعية ونقص الأموال المخصصة للدعم الاجتماعي، واندلع صراع سياسي عنيف، واستمرت حكومة غيدار، كما كانت تُسمى في ذلك الوقت، على رغم أن غيدار كان رسمياً نائباً لرئيس الوزراء وزيراً للاقتصاد والمالية، ثم رئيساً بالنيابة لمجلس الوزراء حتى نهاية عام 1992.
لكن بغض النظر عن مدى شدة الانتقادات التي وُجهت إليهم، أنجز الاقتصاديون الراديكاليون في روسيا شيئاً واحداً هائلاً وهو تكريس اقتصاد السوق، وفي ذلك حققوا نجاحاً كبيراً، فلننظر في التحدي البسيط المتمثل في ملء رفوف المتاجر. في مطلع سبعينيات القرن الـ 20 قدّر المعهد الاقتصادي والرياضي المركزي أن الكمبيوتر الذي يؤدي مليون عملية في الثانية كان يحتاج إلى 30 ألف عام لإدارة المطالب الضخمة للاقتصاد المخطط لكل نوع من المنتجات، ومع ذلك فبعدما حرر غيدار ضوابط الأسعار في يناير (كانون الثاني) 1992 أمكن تحقيق النتيجة نفسها في شبه غياب للتخطيط على الإطلاق، وكان طلب المستهلكين كافياً لإبقاء المتاجر مليئة، وكان مؤسس علم التحكم الآلي السوفياتي فيكتور غلوشكوف قد اقترح ذات مرة ربط أجهزة استشعار بضرع كل بقرة لحساب الحجم الأمثل لإنتاج الحليب، وبات الحجم الأمثل يُحدد من دون أية أجهزة استشعار، وذلك ببساطة بفضل اليد غير المرئية في السوق.
أشباح ليبرالية
على النقيض من الجيل الأول من الإصلاحيين الاقتصاديين السوفيات الذين وُلدوا في الغالب خلال ثلاثينيات القرن الـ 20، وُلد الجيل الجديد الذين أصبح أفراده بالغين في عهد يلتسين خلال الخمسينيات، وتلقوا تعليمهم خلال أسوأ أعوام الركود السوفياتي، واكتسبوا شهية على التعليم الذاتي السري ولدرس إصلاحات الاقتصادات الاشتراكية في هنغاريا وبولندا ويوغوسلافيا، وكان الاقتصادي الهنغاري يانوس كورناي الذي كتب علناً عن طبيعة اقتصاد العجز، شخصية مهمة في شكل خاص لكثير من أعضاء هذا الجيل، وسمح التغلب على الأوهام الاشتراكية لدى هذه الفئة بإجراء إصلاحات اقتصادية أولية ومن ثم الحصول على موطئ قدم كبير في الإدارة الحكومية، وعنى ذلك أنهم استطاعوا الاستمرار في الإشراف على الإصلاحات الهيكلية أو، بالنسبة إلى أولئك الذين انتقلوا من العمل السياسي إلى الحياة الأكاديمية، مثل غيدار نفسه، الإسهام في تحقيق الإصلاحات من خلال التشاور وصياغة مقترحات.
ومع ذلك ومن أجل إحداث أثر دائم في النظام السياسي، كان من الأهمية بمكان لليبراليين الاقتصاديين إضفاء الطابع المؤسسي على أفكارهم، ويُذكر أن يفغيني ياسين الذي كان واحداً من الأعضاء القلائل من الجيل الأكبر سناً الذين قبلوا بإصلاحات غيدار، كان مرشداً لكثير من الاقتصاديين الشباب في جامعة موسكو الحكومية، بما في ذلك نابيولينا، محافظة المصرف المركزي لاحقاً، كما كان من المهم إنشاء معهد اقتصادي جديد في موسكو عام 1992 أصبح في ما بعد المدرسة العليا للاقتصاد، وهي جامعة مكتملة، وسرعان ما جذب موئل الليبرالية هذا أفضل الأساتذة والباحثين وأصبح واحداً من المؤسسات البحثية الأبرز في روسيا.
وفي تطور ذي دلالة جعل المعهد ليبراليته هدفاً لعمليات القمع التي يشنها النظام خلال الأعوام الأخيرة، فبعد استبدال قيادة الجامعة قبل الحرب عام 2021، أشرفت الحكومة على تطهير هيئة التدريس من عدد كبير من الأساتذة الليبراليين.
لم يجرؤ غورباتشوف على إعادة تصميم الاقتصاد السوفياتي.
ومع ذلك لا يستطيع حتى البوتينيون المتعصبون القضاء تماماً على الليبرالية في التعليم الاقتصادي والسياسات الاقتصادية، وقد لا يكون المساعد الاقتصادي للرئيس ماكسيم أوريشكين ليبرالياً لكنه تكنوقراطي وخريج نموذجي إلى حد ما من المدرسة العليا للاقتصاد. يتذمر المحافظون والشيوعيون الروس الذين يدعمون البوتينية بمظاهرها كلها، من وجود "ليبراليين" في الإدارة المالية والاقتصادية الحكومية، لكن بوتين ليس انتحارياً، ففي بداية حكمه علّمه كثير من الاقتصاديين الليبراليين أساسات الاقتصاد الكلي وسياسة الموازنة والسياسة النقدية بقيادة تشوبايس وأليكسي كودرين الذي كان وزيراً للمالية خلال العقد الأول من حكم بوتين، وبطبيعة الحال ابتعد بوتين عن الليبرالية ووجد الإصلاحيون جميعاً تقريباً أنفسهم على الهامش، وفي أحسن الأحوال من الممكن وصف أولئك الذين لا يزالون في مواقع القرار بأنهم تكنوقراطيون عقلانيون، فالمستبد الذي ينفذ إصلاحات مضادة غير ليبرالية أو سياسات تنقض التحديث لا يحتاج إلى محدثين ليبراليين، وفي ما يخص بيلوسوف كخبير اقتصادي فإن نهجه يتناقض تماماً مع نهج الليبراليين.
كان والده شخصية بارزة في المدرسة الاقتصادية الرياضية السوفياتية، وهو، إذا بالغنا قليلاً في التبسيط، متمسك بها، وعند إنفاق المال العام بالطريقة الصحيحة تتولّد نتائج، وهذا ما تنطوي عليه فلسفته الاقتصادية، وتُعد التغييرات التكنولوجية مهمة أيضاً، إذ ليس من قبيل المصادفة أن بيلوسوف كان يعمل كثيراً على التكنولوجيات الجديدة خلال الأعوام الأخيرة، لكن الابتكار التكنولوجي لا يحدث فقط في القطاع العام، وبالتأكيد ليس في اقتصاد يصبح معزولاً في شكل متزايد عن العالم، وتتلخص الحقيقة الأعمق في أن نموذج بوتين العسكري الاقتصادي الجديد يميل على ما يبدو إلى جعل تجنيب البلاد مزيداً من الهشاشة أمراً صعب التحقيق.
"صنع البيض من العجة"
أدرك موظفو "غوسبلان" السوفيات تماماً أن النظام الاشتراكي يعتمد على مبدأ المبالغة في تقدير حجم الاستثمار الرأسمالي المطلوب ورفض الابتكارات التقنية، فقد أدركوا أن المال كلما ازداد ازداد إهداره في اقتصاد الدولة في غياب المصلحة والمبادرة الخاصتين، ويبدو أن حكمة "غوسبلان" المتناقضة هذه نسيها تماماً جيل اليوم من الاقتصاديين الروس الذين يبنون نموذجاً جديداً من الاقتصاد البوتيني الناضج، استناداً إلى اعتقاد شبه إيماني بفاعلية الإنفاق الحكومي والدور الخاص للاقتصاد العسكري، ولقد حدد بوتين الآن مهمة طموحة، فوفق كلماته يجب على الاقتصاديين إيجاد توازن بين السلاح والبضائع الأساس، فلا أموال باقية على الإطلاق في موازنة الدولة لشراء البضائع الأساس، لكن التعامل مع ذلك ممكن من قبل قطاع السوق الذي لا يزال قائماً في روسيا بوتين بفضل الزخم الذي وفرته إصلاحات غايدار قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمن.
أما الإنفاق الحكومي على الأسلحة في روسيا بوتين فوصل تقريباً إلى المستوى الذي عرفته أواخر الحقبة السوفياتية، فرسمياً، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، هو أقل قليلاً من وقتئذ، لكن عندما يعلن القادة الأرقام فإنهم يلتزمون الصمت حول حقيقة مفادها بأن ما يقارب ربع الموازنة الاتحادية تكتنفه السرية، ولا غموض في شأن هذه السرية، فالأموال تُنفق على ما يُسمى في شكل مخز "الدفاع والأمن"، وعلى الدعم المالي لجماعات الضغط التي نجحت في الحصول على إعانات مالية ضخمة من الدولة، ويُعهد إلى بيلوسوف الذي لديه وجهة نظر مؤيدة لتدخل الدولة وقائمة على الدولة المركزية حول كيفية تطور الاقتصاد، بواجب تحقيق هذا النوع من النموذج بالكامل.
وبالنسبة إلى أولئك الذين يدعمون هذا النهج يشابه الإيمان بتدخل الدولة الإيمان بدين ما، أو في الأقل أيديولوجيا ما. إن الاقتناع بقدرة الإنفاق الحكومي المحتسب في شكل صحيح على منتجات المجمع الصناعي العسكري على النجاح في الحفاظ على الاقتصاد الروسي المعزول في شكل متزايد، وحتى تنميته، عبارة عن شذوذ في الفكر الاقتصادي الحديث، ولا يمكن التمسك بهذا الاقتناع من دون إطار سياسي مناسب ومبررات أيديولوجية قوية، لكن الإطار الوحيد الذي يفترض حجماً سخيفاً كهذا من الإنفاق العسكري هو حتماً نظام استبدادي، إذ يحظى الدعم الأيديولوجي بمفهوم بوتين حول رسالة روسيا الخاصة ومسارها الخاص وقانونها الثقافي الخاص والدور الخاص لعقيدتها، ومن أجل هذا كله يجب على المرء حرفياً أن يقاتل، إذ أصبحت الحرب عاملاً دائماً في التنمية الروسية.
يُعد ربع الموازنة الفيدرالية الروسية سرياً.
خلال أربعينيات القرن الـ 20 بات المخطط الاقتصادي نيكولاي فوزنيسينسكي، الذي أدار الاقتصاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية، من المقربين من جوزيف ستالين، وفي نهاية الصراع كتب دراسة شعبية للغاية: "الاقتصاد العسكري للاتحاد السوفياتي خلال الحرب الوطنية"، قبل أن يطاوله عام 1949 التطهير الذي أطلقه ستالين، فهل سيكتب بيلوسوف المقرب حالياً من بوتين دراسة ناجحة مماثلة عن الاقتصاد العسكري للاتحاد الروسي خلال "العملية الخاصة"؟
إنه سؤال مفتوح والنجاح غير مضمون، وعاجلاً أم آجلاً سيتعين على الاقتصاديين الروس إبعاد الاقتصاد الروسي من نموذج التدخل العسكري وإعادته لشكل من أشكال الحياة الطبيعية، أو كما قال الإصلاحيون مازحين مطلع التسعينيات، إلى وضع يمكّن من "صنع بيضة من العجة".
في أواخر القرن الـ 20 ساعدت عسكرة موسكو للاقتصاد والإيمان بالقوة السحرية لاستثمارات الدولة الضخمة في التعجيل بانهيار الاتحاد السوفياتي، وحتى الآن يتجنب بوتين المصير نفسه لروسيا المعاصرة من خلال الحفاظ على بقايا السوق المفتوحة وإبقاء وكالاته المالية في أيدي تكنوقراطيين، لكن اليوم إذ يقود اقتصاديون من المدرسة القديمة مسيرات عسكرية، فمن غير الواضح إلى متى يمكن لهذه العقلانية الاقتصادية أن تبقى على قيد الحياة.
*أندريه كوليسنيكوف زميل أقدم في "مركز كارنيغيروسيا وأوراسيا".
*مترجم عن "فورين أفيرز" 10 يوليو (تموز) 2024