ملخص
إذا كانت لوحة جيوتو حول موت الأسيزي تعد لوحة أساسية ومؤسسة لإنسانية فنون عصر النهضة، فإنها تتخذ سمتها هذا من عناصر تقف خارج صورة الميت نفسه لتطاول المحيطين به
"كان تشيمابوي يعتقد نفسه أنه المرجع الأكبر في فن الرسم،/ لكن تلميذه جيوتو هو من يتحدث الناس عنه اليوم لاهجين باسمه. / جيوتو هو الذي باتت شهرته اليوم تلقي ظلاً كثيفاً على شهرة تشيمابوي". هذه الأبيات من الشعر يمكننا قراءتها في الفصل الـ11 من "المطهر" ثاني أجزاء "كوميديا دانتي". ودانتي هذا الكاتب النهضوي الكبير إنما أراد عبرها أن يعكس ما كان للرسام جيوتو من أهمية في زمنه، وكيف أن هذا الأخير تفوق على تشيمابوي الذي كان أستاذه المعترف به، كما كان من أكبر رسامي زمنه. والحال أن دانتي في كلامه هذا إنما كان يعكس رأياً لا يزال قائماً حتى أيامنا هذه: الرأي الذي يقول إن جيوتو لم يكن فقط أكبر رسام في زمنه بل كان نقطة انعطاف في تاريخ فن الرسم في كل الأزمان. كان مفتتح عصر النهضة، عصر الإنسان، بالتطوير "الواقعي" الذي أحدثه في الرسم البيزنطي الذي كان سائداً قبله.
أبعاد الفن الثلاثة
ومهما يكن من أمر على أية حال، من المعروف أن كبريات الكتب التي تؤرخ للجوانب المرتبطة بعصر النهضة الإيطالية في عالم الفنون والتي تحدد بدايات ذلك العصر في بدايات القرن الـ14، تضع تشيمابوي في المكانة الثالثة تاريخياً تالياً للأخوين نيكولا وجوفاني بيزانو يتلوهما تشيمابوي السابق زمنياً على جيوتو، مسبغة على هذا الأخيرة مكانة أساسية في تلك النقلة الأساسية التي حولت الفنون الكنسية إلى فنون اجتماعية حتى وإن كنا نعرف أن تشيمابوي وجيوتو كانا متقاربين في السن. ففي نهاية الأمر، صحيح أن جيوتو لم يخرج، في المواضيع، عن إطار المشاهد الدينية التي كادت تكون موضوع الرسم الوحيد في زمنه، غير أنه عرف كيف يضفي على الرسم الديني أبعاداً إنسانية، في الشكل وفي المضمون، ولم يكن غريباً أن يصور، هو، أعظم اللوحات التي مثلت فصولاً من حياة القديس فرانسوا الأسيزي، ذلك الراهب الذي كان همه أن يعطي للإنسان مكانته في تاريخ الدين، وأن يعيد الربط مباشراً بين الإنسان وخالقه، بغض النظر عن وساطة الوسطاء، ومن هنا لم يكن غريباً لرجل الدين الأرجنتيني المناضل الذي وصل إلى الكرسي البابوي قبل سنوات من الآن أن يختار لنفسه اسم القديس فرانسوا، مشيراً إلى إنسانية هذا الأخير، ما لفت يوماً الأنظار حقاً إذ كان أول بابا في تاريخ الكنيسة يختار هذا الاسم لبابويته عن قناعة مطلقة.
بعيداً من صورة الموت
من هنا، إذاً كانت لوحة جيوتو حول موت الأسيزي تعد لوحة أساسية ومؤسسة لإنسانية فنون عصر النهضة، فإنها تتخذ سمتها هذا من عناصر تقف خارج صورة الميت نفسه لتطاول المحيطين به: لتعبر عن ذلك الحزن الإنساني العميق الذي يسم حواريي الأسيزي وتلامذته والبسطاء الذين عمل من أجلهم وكان يرى دائماً أن الدين وجد لخلاصهم. وهي على أية حال سمات رصدها كثر من الكتاب والفنانين في التاريخ الكنسي من الذين خصوا الأسيزي بأعمال إبداعية ركزت على نزعته الإنسانية كما على تفاعله مع الطبيعة وعلى الحزن الحقيقي الذي انتاب المؤمنين يوم موته. ولا شك أن جيوتو قد عرف منذ ذلك الوقت المبكر كيف يعبر عن ذلك كله من خلال جعل لوحته هذه نوعاً من تحية صادقة لإنسانية رجل الكنيسة الكبير هذا.
عناصر أساسية
هنا، في هذه اللوحة، كما في لوحات كثيرة لجيوتو على أية حال، يطالعنا عدد كبير من العناصر الأساسية التي افتتحت عصر النهضة منذ ذلك الزمن الباكر (رسمت اللوحة، وهي جدارية، في نحو عام 1325): المشاعر الإنسانية وقد عبرت عنها النظرات وسمات الوجوه وحركات الأيدي وتموجات الأجساد، الديكور المحيط بالمشهد نفسه الذي يشكل جزءاً منه ولا يرسمه الفنان كمجرد عنصر تزييني، ثم ذلك الارتباط الغريب بين تفاصيل ثياب الشخصيات وتفاصيل المكان الجامدة. ولئن كان هذا العنصر الأخير لا يبدو واضحاً هنا، فإن علينا أن نتأمل لوحة أخرى لجيوتو هي "يواكيم يعود إلى عند الرعاة" لنلاحظ، بكل وضوح، كيف يصمم جيوتو مكان المشهد وكأنه مسرح تعبيري يشتغل فيه كل عنصر كجزء مكون لسيكولوجية المشهد ككل. أما هنا في "موت فرانسوا الأسيزي" فيتركز الاهتمام على تعابير الوجوه. ولئن كان جيوتو تمكن من وصف هذه التعابير، فما هذا إلا لأنه كان من أوائل الذين استخدموا البعد الثالث في الرسم. قبله كان الفن البيزنطي يقدم الشخصيات مسطحة من دون أي عمق. مع جيوتو تبدل الأمر، صارت الوجوه والأجساد وكل شيء آخر في اللوحة، ثلاثية البعد. شكلياً ربما يكون وراء هذا تتلمذ جيوتو في فترة من حياته على النحات بيزانو، إذ يرى دارسوه أن بعض شخصيات جيوتو تبدو وكأنها تصوير لتمثال في أبعاده الثلاثة (تشكيل شخصية يواكيم في لوحة "حلم يواكيم" مثلاً)، غير أن هذا التفسير الشكلي لا يكفي. التفسير الأقرب إلى الدقة هو اكتشاف جيوتو الإنسان في تكوينه الحيوي وديناميته، كموضوع للوحة، بدلاً من الإنسان في صورته السطحية المجردة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفنان يواكب صعود البورجوازية
وليس هذا الواقع ببعيد من واقع آخر، وأساسي في حياة جيوتو وفنه: فهو وضع نفسه، ومنذ شبابه، تحت رعاية الأسر البورجوازية من التجار، في مقابل ما كان يفعله الرسامون أسلافه من الذين كانوا يضعون أنفسهم في حماية الكنيسة وتحت رعايتها. ومن هنا، لئن كانت مواضيع جيوتو ظلت مواضيع دينية، فإنها رسمت لتلائم ذوق (وأيضاً أهداف) طبقة بورجوازية جديدة كانت ناشئة في ذلك الحين، وتعد رعاية الفن جزءاً من مكانتها. وهذا البعد يصدق على جيوتو حتى وإن كان ما رسمه في صورة أساسية، إنما رسم انطلاقاً من رغبة بعض العائلات البورجوازية (آل باردي وآل بيروتزي، وخصوصاً آل سكروفيني) في التعبير عن توبتها بعدما انكشف أنها حققت ثرواتها بفضل ربا كان محرماً ضمن الحدود التي وصل إليها رأسمال ذلك الزمن. مهما يكن من الأمر، فإن جيوتو افتتح بتلك اللوحات (الجدارية خصوصاً) زمن فن جديد وسجل اسمه كواحد من أعظم رسامي النهضة، حتى وإن ضاع معظم ما رسم، وحتى أيضاً وإن كان بعض ما يحمل اسمه يثير سجالاً كبيراً، إذ يعده البعض من تنفيذ طلاب أو معاونين كانوا يعملون في محترفه.
سيرة حياة
ولد جيوتو دي بوندوني عام 1266 (أو 1267) في فلورنسا، على الأرجح. ومنذ صباه تتلمذ على الرسام تشيمابوي، كما ذكرنا، وربما أيضاً على كوبو دي ماركو فالدو. ويرى باحثون أن جيوتو توجه في بداية شبابه إلى أسيزي وتأثر كثيراً بحياة وتعاليم قديسها ذي النزعة الإنسانية، فرانسوا. وهناك اشتغل على جداريات تمثل مشاهد من العهدين القديم والجديد. وفي نحو عام 1300 عاش جيوتو في روما وحقق لوحات للفاتيكان، ثم بدأ يتنقل بين المدن، واضعاً نفسه في خدمة سادتها وطبقات التجار الصاعدة التي كانت في حاجة إلى الفن لتثبت عبره مكانتها. وفي النهاية استقر الأمر به في فلورنسا مجدداً، إذ انصرف إلى الرسم والهندسة المعمارية مركزاً دائماً على ما ميزه منذ شبابه: الاهتمام بالإنسان وتعابيره، انطلاقاً من كونه، كما يقول الباحث البريطاني كنيث كلارك "ارتبط دائماً بالوقائع الثابتة، تلك التي رسخها المصرفيون والبورجوازيون الذين كان همهم الإنسان، وفي الأقل كجمهور وزبون لهم لم يغب عن بالهم أبداً ما يدينون به له من ثراء وعيش رغيد، أولاً وأخيراً". ولئن كنا قد افتتحنا هذا الكلام عن جيوتو (عاش بين 1267 و1337) بالإشارة إلى ما أورده عنه دانتي أليغييري في "الكوميديا الإلهية" فإن في إمكاننا كذلك أن نشير إلى أن نهضويين كباراً من الكتاب تحدثوا عنه وعن فنه، بل إن بوكاشيو استطاب ذلك الحديث عنه إلى درجة أنه جعله واحدة من شخصيات حكاية ابتكرها من حكايات ديكاميرون كان من اللافت أن يصر السينمائي الإيطالي بيار باولو بازوليني أن يمثل دور شخصية الرسام بنفسه، حين حول ذلك الأثر الأدبي الكبير إلى واحد من أفلام سلسلته الختامية "سينما الحياة" علماً أن الفيلمين الآخرين اقتبسهما من "ألف ليلة وليلة" و"حكايات كانتربري".