Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الملح قصة طويلة مع الحضارة الإنسانية

استخدم كعملة مالية في مراحل مبكرة من التاريخ وكان سبباً في الحروب وحكايته الأخرى مع الجسد البشري

نقصان الملح في الدم أو زيادته يؤديان إلى أمراض مختلفة (ان سبلاش)

ملخص

سمي البحر الميت بهذا الاسم بسبب ملوحته الاستثنائية التي تمنع أي نوع من الحياة من النشوء فيه، فالملح مانع للحياة ومانح لها أيضاً، فلا يمكن لأي كائن حي البقاء في حال انعدام الملح في خلاياه.

فما أسرار هذه المادة الثمينة؟

سمي البحر الميت بهذا الاسم بسبب ملوحته الاستثنائية التي تمنع أي نوع من الحياة من النشوء فيه، فالملح مانع للحياة ومانح لها أيضاً، فلا يمكن لأي كائن حي البقاء في حال انعدام الملح في خلاياه.

والجسم البشري يمكنه أن يكون معياراً لهذه الحالة، فنقصان الملح في الدم أو زيادته يؤديان إلى أمراض مختلفة أولها ارتفاع وانخفاض ضغط الدم مما يؤدي إلى أمراض مختلفة في سائر أعضاء الجسم في حال الإهمال.

وكأن توازن معدل الملح في سائل الجسم البشري يشبه توازن معدل الملح في سوائل الكرة الأرضية من المحيطات والبحار والأنهار، ونسبة سوائل كوكب الأرض من اليابسة هي نفسها تقريباً من نسبة السائل في الجسم، أي ما يقارب 65 في المئة في كل منهما.

 

الملح حاجة أساسية منذ فجر التاريخ

للملح قصة طويلة في مسيرة تطور الحضارة البشرية، وقد كانت له أدوار مهمة في كل الحقب الإنسانية، بدءاً من التحولات في الجسد البشري بعدما عرف الملح إلى أن بات بمثابة العملة المالية التي يشترى ويباع بواسطتها، وكالعادة تسببت أهميته هذه بنشوب التنافس للاستحواذ على طرق تجارة الملح بين الإمبراطوريات في حروب كثيرة سميت "حروب الملح"، وحتى وقتنا الراهن حيث إن هناك أنواعاً كثيرة من الأملاح من ملح المائدة إلى الأملاح الطبية التي تعالج مجموعة من الأمراض، ومنها الأملاح الصخرية وملح النيبال، وهناك الملح المعالج باليود، والملح الذي إذا أضيف إلى الخبز يصنع علاقة حميمية بين البشر على أساس أنهم تشاركوا "الخبز والملح". وفي اللغة العربية هو إشارة إلى الجمال فيقال وجه مليح، ويقال مالحه أو الممالحة أي السعي إلى الصداقة.

يصف الكاتب الأميركي مارك كيرلانسكي في كتابه "تاريخ الملح" بأنه "الصخرة الوحيدة التي نأكلها"، وهي الصخرة التي بدخولها في مجرى دمائنا أسهمت بقسط واسع، ولا يمكن تحديد مدى اتساعه، في صناعة تاريخ الجنس البشري.

وكلنا نعرف منذ صغرنا أهمية عدم التفريط بالملح، فكانت جداتنا تمنعنا عن ذلك لكي نحترمه كما نفعل مع الخبز، وهذا الاحترام للملح موجود في معظم ثقافات العالم. فقد أطلق هوميروس (شاعر ملحمي إغريقي أسطوري) على الملح اسم "المادة المقدسة". وقد قالت الأمثلة الشعبية في أنحاء العالم إن البيت الخالي من الملح هو بيت بخيل أو ميت أو غير مرحب بالزائرين، واستعمل الملح على أنواعه الكثيرة في أعمال السحر والشعوذة تاريخياً لدى الشعوب الوثنية، واستخدمه الفراعنة في التحنيط، وفي العصور الوسطى عمد المزارعون الأوروبيون إلى خلط محاصيل القمح بكثير من الملح، لكي يجنبوه الإصابة بالفطريات السامة.

 

 

ومن تقاليد الهنود الحمر في قبيلة "بيما" أنه إذا قتل أحدهم رجلاً من قبيلة "الأباتشي" عليه أن يمتنع هو وزوجته عن تناول الملح مدة ثلاثة أسابيع. وكان الإنجليز أثناء استعمارهم الهند يفرضون على المجند الهندي في جيشهم أن يقسم بالملح شرطاً لقبوله في الجيش الإمبراطوري، لما للملح من أهمية مقدسة للهنود ومن أهمية تجارية واقتصادية تسهم في السيطرة على طرق تجارة العالم بالنسبة إلى الإنجليز.

وفي الأمثال الشعبية والفلكلور الإنساني يقال إن ذلك الشخص بنى ما بنى أو حصل على ما حصل عليه بعرق جبينه، ويقصد أنه أفنى ملح جسده في فعل ما فعله، وكلنا نعلم أن الحاجة إلى التعرق تسهم، مما تسهم به، في تعديل نسبة الملح في الجسم عبر إخراج الفائض منه من مسام الجلد، ولهذا كان التعرق أحد أنواع التطبيب لدى الشعوب القديمة.

وساد اعتقاد في القرن الـ16 الأوروبي أن لرش الملح طريقة معينة تتمثل في استخدام الإصبعين الأوسطين في اليدين كلتيهما من قبل الرجل وليس المرأة، فإذا استعمل الرجل إبهامه، فإن أطفاله سيموتون، وفي حال استخدامه البنصر (الإصبع الرابعة من أصابع اليد)، فإنه يصير فقيراً، واستخدام السبابة (الإصبع الثانية) يؤدي به إلى ارتكاب الجرائم.

 

 

وفي بحث بسيط يمكن أن نكتشف أن استخدامات الملح في وقتنا الراهن تطاول عشرات آلاف الحاجات والصناعات، من التنظيف المنزلي للأواني والجلود، إلى الصناعات المختلفة، ومنها الأدوية والأسمدة الزراعية والطعام المعلب والدهانات وصبغات الألوان للملابس، وفي معظم الصناعات الكيماوية.

والملح ضروري في صناعة بيكربونات الصوديوم أو صودا الخبز وهيدروكسيد الصوديوم (الصودا الكاوية) وحمض الهيدروكلوريك والكلور، وفي صناعة الصابون والزجاج والمينا الخزفية، ويستخدم كمادة تساعد في اندماج المعادن، إلى إذابة الجليد عن الطرق.

وأورد الزميل أحمد مغربي في تحقيق كتبه بعنوان "الإنسان والملح؟ الجواب ليس سهلاً"، بأن الطبيب العربي الشهير ابن سينا دأب على إعطاء حجر ملح لضيوفه لتذوقه، وكأنه بذلك يمنحهم دواء لا يعرفون أهميته.

الملح في الحضارات

والملح أو الملوحة من حواس التذوق الأربع، وهي الحلو والمر والحامض والمالح، وهذا الطعم الأخير أضيف إليه نوع مالح مختلف من نوع من الملح الياباني له طعم خاص وهو "أومامي" Umami ويتميز بانخفاض كمية الصوديوم فيه. وقد بدأت شركات الأطعمة اعتماده في منتجاتها منذ سنوات بعدما أصبح شائعاً تخفيض استهلاك الملح لأسباب صحية، كما ورد في تحقيق الباحث أمين نجيب عن ملح المائدة.

ولم يكن الملح زهيد الثمن كما هي الحال في عصرنا الراهن، فمنذ بدء التاريخ ووصولاً إلى القرن الـ19 كان الملح مادة مرتفعة الثمن بسبب صعوبة الحصول عليها، وأكد الاقتصاد الحديث أن سعر أي سلعة يتحدد بمدى الجهد المبذول في الحصول عليها ومدى الحاجة إليها، فإن هذا الأمر هو ما جعل الملح على مدى الزمن المبتدئ من بدء البشر بالاستقرار، مرتفع الثمن.

في الجغرافيا، فإن جبال الألب كانت بيضاء بفعل الثلج وكذلك بفعل الملح، وانتشرت، عبر التاريخ، مناجم استخراج المادة البيضاء من تلك الجبال، وظهرت مدن تحمل اسم الملح مثل سالزبورغ النمسوية وهالشتات الألمانية. وامتدت طرق الملح عبر العالم لتكون أول طرق لمرور الثروات وتبادلها بين شعوب الأرض.

ويرتبط الاستخدام المتكرر للملح ارتباطاً وثيقاً بالتقدم من الحياة البدوية إلى الحياة الزراعية. فالمزارعون يحتاجون إلى إضافة الأملاح إلى طعامهم بينما لا يأكل البدو الملح مع الطعام لأنهم يحصلون عليه من الألبان ومن لحوم ماشيتهم (دماؤها)، مما يخفف من حاجتهم إلى شرب الماء، ويقلل من عملية التعرق لديهم.

 

 

وقبل 8 آلاف سنة حصل الصينيون على الملح من بحيرات داخلية في مقاطعة شانسي الشمالية، وكان الناس ينتظرون جفافها من المياه ليكشطوا الملح الذي يظهر في قيعانها. وتشير مدونات صينية إلى أن تجارة الملح، بعد استخراجه من البحيرات الداخلية كما من مدن الساحل الصيني، بدأت قبل نحو 4200 سنة. وتصف تلك المدونات أن ملح البحار استخرج بغلي مائه في أوعية فخارية كبيرة، وتجميع المادة البيضاء المترسبة. ولقد دون الصينيون هذه الطريقة في وثائق كتبت قبل 2800 سنة. وربما عاد الفضل إلى تلك المدونات في انتقال هذه الطريقة في الحصول على الملح إلى القارة الأوروبية، بعد 1000 سنة من كتابتها.

وتنبذ التقاليد الصينية رش الملح على الطعام باليد، واقتصر استخدامه على إضافته إلى الأطعمة أثناء طهيها أو حفظها أو لصنع المخللات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الملح والطرق القديمة

يسهم الملح بصورة كبيرة في معرفتنا بالطرق القديمة للتجارة. وأحد أقدم الطرق في إيطاليا هو Via Salaria  أو "طريق الملح" الذي نقل الملح الروماني من أوستيا عبره إلى أجزاء أخرى من إيطاليا. ويحكي هيرودوت (مؤرخ يوناني - آسيوي) من طريق القوافل الذي وحد واحات الملح في الصحراء الليبية. وكانت التجارة القديمة بين بحر إيجة وساحل البحر الأسود في جنوب روسيا تعتمد إلى حد كبير على أحواض الملح أو الملاحات وهي برك لتبخير مياه البحر للحصول على الملح، عند مصب نهر دنيبر (أوروبا الشرقية)، وعلى الأسماك المالحة التي يتم جلبها من هذه المنطقة.

وتم تحديد إنتاج الملح المبكر من العصر الحجري الحديث الذي يعود تاريخه إلى نحو 6 آلاف سنة قبل الميلاد، في حفريات في رومانيا.

وتم بناء سولنيستاتا في بلغاريا وهي أقدم مدينة معروفة في أوروبا حول منشأة لإنتاج الملح، ويعتقد علماء الآثار أن المدينة جمعت الثروة من خلال توفير الملح في جميع أنحاء البلقان.

وكان الملح ذا قيمة عالية لليونانيين والتاميل والصينيين والحثيين وغيرهم من الشعوب القديمة، ومع نمو مدينة روما بنيت الطرق لتسهيل نقل الملح إلى عاصمة الإمبراطورية. وتأتي كلمة "راتب" من الكلمة اللاتينية التي تعني الملح. وخلال الإمبراطورية الرومانية حتى العصور الوسطى كان الملح سلعة ثمينة تنقل على طول طرق الملح إلى قلب القبائل الجرمانية، وكثيراً ما اجتازت القوافل التي تتكون إلى ما يصل من 40 ألف جمل مسافة 400 ميل (نحو 643.736 كيلومتر) من الصحراء تحمل الملح إلى الأسواق الداخلية في منطقة الساحل، وأحياناً تتاجر بالملح مقابل العبيد، وما زالت بعض قبائل الطوارق في شمال أفريقيا تنقل الملح الصحراوي على ظهور الجمال حتى اليوم.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات