Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تسحب "شاشات الموت الزرقاء" الثقة من العصر الرقمي؟

ما جرى كان رسالة واضحة قوامها وقوع الكوكب في قبضة التكنولوجيا الحديثة

ملخص

وطأة الخلل التقني كانت قاتلة، و"شاشات الموت الزرقاء" أطلت على الملايين مما أدى إلى مكاتب مظلمة وأجهزة معطلة وبث متقطع أو متذبذب وإطلالات صادمة لأشهر مذيعي ومذيعات القنوات التلفزيونية حيث الخلفيات سوداء وأداءات على الهواء مباشرة تكشف صدمة العطل وفاجعة عدم اليقين.

فما سيكون عليه مستقبلنا بعد ما جرى أمس؟

رقبة العالم ونبضه ومصالحه ومعلوماته ومساراته في قبضة التكنولوجيا ومن يدعي أنه، أو أن حساباته وتفاصيل حياته، أو سياسات شركته وأسرارها، أو مؤسسات بلده ومصالحها بعيدة عن سيطرة "آلهة التك"، عليه مراجعة قناعاته وحساباته المصرفية وقنواته الإعلامية ومسارات رحلاته والبقية تأتي.

وأتى تعطل الحياة في عشرات الدول حول العالم بما لا يشتهي المهووسون بالتقنيات الحديثة، والواقعون تحت السطوة الرقمية، والمعتقدون بأن العالم لا يدار إلا بكبسة زر ولمسة شاشة وخوارزم تطبيق.

 

العالم في قبضة التكنولوجيا

ما جرى كان تطبيقاً عملياً وترجمة فعلية ورسالة واضحة وصريحة قوامها وقوع الكوكب في قبضة التكنولوجيا الحديثة بصورة شبه كاملة وأثّر انقطاع عالمي لشبكة الإنترنت على مئات المصارف ووسائل الإعلام والشركات والمؤسسات وشركات الطيران، مما أدى إلى فوضى غير مسبوقة، والأهم من ذلك موجة هلع جماعية لم يفلح عباقرة الثورة الرقمية والشركات التقنية وأودية "السليكون" في حلحلتها أو التخفيف من وطأتها.

ووطأة الخلل كانت قاتلة، "شاشات الموت الزرقاء" (التي تدل إلى خطأ فادح في نظام تشغيل مايكروسوفت مما يعني أنه لم يعد يعمل بأمان) أطلت على الملايين مما أدى إلى مكاتب مظلمة وأجهزة معطلة وبث متقطع أو متذبذب وإطلالات صادمة لأشهر مذيعي ومذيعات القنوات التلفزيونية حيث الخلفيات سوداء وأداءات على الهواء مباشرة تكشف صدمة العطل وفاجعة عدم اليقين.

هزات عنيفة

يقيناً العطل "الفني" الذي كشّر عن أنيابه قبل ساعات سيؤدي إلى هزات عنيفة في ثقة الكوكب في العصر التقني والزمن الرقمي ولن تعود العلاقة كما كانت في الأقل في المستقبل القريب.

أحد أشهر مختصي أمن الشبكات تروي هانت كتب منشوراً على منصة "إكس" مستغيثاً "شيء غريب جداً يحدث الآن: تم الاتصال بي من قبل عدد من وسائل الإعلام للسؤال عن شاشات الموت الزرقاء التي باغتت الجميع. هل هناك من يواجه هذه المشكلة الآن؟ رجاء الرد سريعاً"!

المسألة عالمية

سرعة الرد لم تنقذ الموقف، بعدها بدقائق نشر هانت كلمات مقتضبة تلخص الموقف "المسألة عالمية!"، مداهمة "شاشات الموت الزرقاء" لم تؤدِّ إلى عطل هنا وتعثر هناك، لكنها أدت إلى شلل تقني أربك مليارات البشر وبيوتهم وشركاتهم ومؤسساتهم وطائراتهم والقوس مفتوح. 

محال تجارية كبرى وصغرى وجدت نفسها فجأة غير قادرة على إدارة حركة البيع، فقد تعطلت ماكينات ونظم الدفع، بنوك في مشارق الأرض ومغاربها توقفت خدماتها، أنظمة عشرات شركات الطيران الكبرى وأجهزتها لم تعد تعمل، ملايين المسافرين وجدوا أنفسهم واقفين في مطارات حول العالم أمام شاشات جامدة لا تتحرك، وموظفون غير قادرين على شرح ما يجري أو تزويدهم بمعلومة حول تأجيل أو إلغاء سفرهم، وحين لجأت الملايين المذهولة من "شاشات الموت الزرقاء" التي أحاطت بهم لشاشات التلفزيون لعلها تخبرهم بما يجري، فوجئ كثير منهم بتوقف البث تماماً، أو بعبارة قوامها "نأسف لتوقف البث ونعمل على إصلاح العطل".

أي عطل هذا؟!

لكن أي عطل هذا الذي أصاب جانباً معتبراً من الكوكب بالشلل والهلع؟ أحياناً يتضاعف الهلع ويتفاقم الرعب حين يستشعر السائل عدم اليقين ممن يفترض فيهم المعرفة من ألفها إلى يائها.

إشعار عنوانه "تدهور الخدمة" صدر عن شركة "مايكروسوفت" جاء فيه "قد لا يتمكن المستخدمون من الوصول إلى كل تطبيقات وخدمات مايكروسوفت 365"!

جاء الإشعار مخيفاً للمتلقين، "قد" سبقت الفعل المضارع "يتمكن"، مما يفيد بالتشكيك والتخمين، ويشبه هذا التخمين ما فعله الكاتب الصحافي فارهاد مانجو قبل أعوام في عمود رأي تفاعلي في صحيفة "نيويورك تايمز"، إذ طلب مانجو من القراء تصنيف ما سماه بـ "الخمسة المخيفة" بحسب درجة اعتمادهم أو تخيلهم عنها، "الخمسة المخيفة" كانت: "أمازون، فيسبوك، أبل، ألفابت (الشركة الأم المالكة لغوغل)، ومايكروسوفت".

فكرة مانجو اعتمدت على يقين لديه بأن هذه الشركات وبدرجات متفاوتة، يستحيل العيش من دونها، ربما يتخلى أحدهم عن واحدة أو اثنتين وخدماتهما، لكن التخلي عنها والاستمرار في حياة عادية احتمال لم يعد وارداً أو ممكناً.

والتداول على النفط والغاز في لندن وسنغافورة لم يعد ممكناً، وأكبر الشركات المشغلة لخطوط السكك الحديد في بريطانيا واجهت مشكلات فنية كبرى، ورحلات الطيران في دول عدة في العالم تم إلغاؤها، وعشرات هبطت اضطرارياً، والبث المباشر لعدد من القنوات التلفزيونية توقف، وتجهيزات أولمبياد باريس تأثرت سلباً، وآلاف البنوك وخدماتها توقفت، وسير العمل في المستشفيات وإجراء العمليات الجراحية والكشف على المرضى وتلقي العلاج عبر الأجهزة تعرّض لهزات عنيفة في بعض الدول، ووزارات ومصالح ومؤسسات وشركات في دول عدة حول العالم أعلنت أن العمل فيها ارتبك والخدمات التي تقدمها إما متعثرة أو تعطلت تماماً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

محفور في ذاكرة البشر والآلات

ما جرى أمس في الـ19 من يوليو (تموز) الجاري سيبقى محفوراً في التاريخ البشري الحديث، والذاكرة حتى أمس كانت متخمة بنقاط نقاش وحوار وبحث ودراسة حول مسائل مثل "هل يقع اقتصاد العالم في قبضة الحرب الرقمية؟" و"هل تتحول حروب العالم إلى حروب تقنية تتحكم فيها الرقمنة أكثر من البشر؟" و"هل وقع أطفالنا في قبضة التربية الرقمية؟" و"هل يمكن أن تتحول الرقمنة إلى ديانة جديدة؟" و"هل العالم الرقمي أوهام؟" و"هل يفقد البشر السيطرة على مقاليد حياتهم بسبب الرقمنة؟" و"هل تختفي العملات الحقيقية أمام غزو العملات الرقمية؟" و"هل تأخر الوقت على الفطام الرقمي؟" و"هل التحول بعيداً من الرقمنة أو ترشيدها بات مستحيلاً؟" وغيرها ستحول دفتها صوب إقرار الإذعان والاعتراف بالخنوع وعدم مناقشة الرضوخ البشري للهيمنة التقنية بديلاً من مناقشتها.

وناقش الكاتب الأميركي فرانكلين فور في كتابه "عالم بلا عقل" (2017) التهديد الذي وصفه بـ "الوجودي" الذي تشكله شركات التكنولوجيا والرقمنة الكبرى للعالم، وجادل فور بأن العقود القليلة الماضية، شهدت ثورة من حيث من يسيطر على المعرفة والمعلومات، وأن هذا التطور السريع أدى إلى تغيرات سريعة وعميقة، وهو ما يعّرض الطريقة التي يفكر بها البشر للخطر.

كلفة الهرولة

وطالب فور بالتمهل قليلاً للتفكير في كلفة هرولة العالم لاحتضان منتجات شركات التكنولوجيا العملاقة وخدماتها، وضرب أمثلة بالتسوق على "أمازون"، والتواصل عبر "فيسبوك"، والترفيه على "أبل"، والحصول على المعلومات والأخبار من "غوغل"، والعمل عبر "مايكروسوفت"، وأشار إلى أن "هذه الشركات وغيرها تبيع خدماتها، وتزعم أنها تجعل العالم مكاناً أفضل، ولكن ما فعلته بدلاً من ذلك هو تقديم مستوى مذهل من الراحة والسهولة اليومية"، وأضاف "ومع توسع هذه الشركات وتسويق نفسها على أنها أبطال ترفع راية تمكين الأفراد ودعم التعددية، ضغطت خوارزمياتها علينا ودفعتنا إلى الامتثال وأهدرت الخصوصية وبتنا نعتمد عليها اعتماداً شبه كلي".

أضاف فور أن هذه الشركات العملاقة "أنتجت ثقافة معلومات مضللة غير مستقرة وضيقة ووضعتنا على الطريق إلى عالم خال من التأمل أو الفكر المستقل أو الاستبطان الانفرادي أو قدرة الابتكار لعلاج المعضلات والمشكلات من دون اللجوء والاعتماد على الشاشات، قادتنا إلى عالم بلا عقل".

عقل العالم

وتعرّض عقل العالم لزلزال عنيف بالفعل على مدار الساعات القليلة الماضية، وعلى الأرجح ستستمر هزاته الارتدادية بعض الوقت، ربما ساعات أو أسابيع، ومختصو الرقمنة والتكنولوجيا على يقين بأن الخلل أو الشلل أو الاختراق الذي جرى سيعالج بسرعة، هذا في حكم المؤكد لكن من غير المؤكد توقيت أو سرعة عودة الجميع إلى الثقة العمياء في التكنولوجيا الرقمية والتعامل معها من منطلق الواقع المفروغ منه.

ويشير الواقع إلى أن الخلل الذي ضرب جزءاً كبيراً من العالم، هو عرض من أعراض "الاعتماد المفرط على التكنولوجيا" كما يصفه بعض.

الأطباء النفسيون يقولون إن اعتماد الأشخاص المفرط على التكنولوجيا أصبح مرضاً يصيب بعضاً، وتتمثل أعراضه في ضعف القدرة على التفكير أو التركيز أو أداء المهمات، وقد يظهر كذلك في صورة أعراض جسدية مثل التعرق والرعشة في حال باعدت الظروف بين "المريض" وشاشاته.

مرض الأفراد والمجتمعات

العرض المرضي قد يصيب الأفراد، لكن المجتمعات أيضاً تصاب به، وحتى لو لم تتعرق أو ترتعش، فهي حتماً تتأثر جراء الاعتماد المفرط على الشاشات والرقمنة والتكنولوجيا، واللافت في "جمعة شاشات الموت الزرقاء" هو أن الدول الأكثر تقدماً وتقنية واعتماداً على التكنولوجيا الرقمية كانت الأكثر تضرراً، أما الدول الأقل تقدماً والأكثر اعتماداً على الأوراق والأقلام والدفاتر كانت الأقل تضرراً، أما الخسائر المليارية والهلع العالمي وأعراض ما بعد الصدمة فستكون موزعة على الجميع بالحق والمستحق.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير