Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ستاند أب كوميدي... فكاهة تشبه الحياة

يتميز بالعفوية والارتجال والتفاعل المباشر مع الجمهور ويركز على تقديم عروض تلامس قضايا حساسة وتثير الضحك والتفكير في آن

أسهم هذا الفن في نشر الوعي والتغيير الاجتماعي من خلال السخرية الذكية والنقد البناء (اندبندنت عربية)

ملخص

من جذوره الهندية القديمة إلى انتشاره العالمي وتأثيره الكبير في الثقافة الشعبية يبقى هذا الفن وسيلة فعالة للتعبير عن الآراء ونقل الرسائل الاجتماعية والسياسية بأسلوب فكاهي وممتع.

قبل بضعة أيام كنت أشاهد إحدى محطات التلفزيون العربية التي تعيد عرض مواد أرشيفية من أيام الأبيض والأسود في غالب الأحيان، ظهر اسكتش للفنان المصري الراحل عصام وحيد يتخيل فيه مجموعة من الفنانين المشهورين وهم يؤدون وظائف حياتية عادية (عبدالحليم حافظ في مهنة السباك مثلاً). سألني صغيري الذي كان إلى جانبي "هل هذا فنان (ستاند أب كوميدي) عربي قديم؟"، فأجبته "لا، هذا يسمى مونولوغست، وهو يقدم فن المونولوغ الشبيه جداً بفن الـ(ستاند أب كوميدي) لكنه يشتمل على عناصر أخرى مثل الموسيقى والغناء وأحياناً الأزياء والمكياج". أثار هذا الحوار بيننا رغبتي في معرفة مزيد عن الاختلاف والتشابه بين هذين الشكلين الفنيين، وما هي أصول فن الـ"ستاند أب كوميدي".

جذور هندية

فن الـ"ستاند أب كوميدي" هو نوع من الأداء الكوميدي الذي يعتمد على تفاعل الكوميديان المباشر مع الجمهور من خلال إلقاء نكات ومواقف مضحكة. ويعد هذا الفن من أقدم أشكال الكوميديا، وله جذور تاريخية عميقة في الثقافة الهندية. فمنذ آلاف السنين نشأت في الهند فنون "السخرية" و"القص" الهزلية (Hasya Kavita)، إذ كان الفنانون يستخدمون الفكاهة لنقل رسائل اجتماعية وسياسية من خلال قصص مضحكة ومواقف هزلية. كانت هذه الفنون تقدم غالباً في المهرجانات الدينية والاجتماعية، وكان لها دور كبير في الترفيه والتعليم. مع مرور الوقت تطورت لتشمل عروضاً كوميدية تقدم على المسارح، إذ يروي الفنان قصصاً ونكات مضحكة لجمهور حي، مما أسس لظهور فن الـ"ستاند أب كوميدي" بشكل حديث.

وفي حين يعتمد الـ"ستاند أب كوميدي" على التفاعل المباشر بين الكوميديان والجمهور، يعتمد فن المونولوغ على تقديم نص مكتوب يلقى بواسطة فرد واحد أمام جمهور، وغالباً ما يتناول موضوعاً معيناً بصورة عميقة ومنظمة، ويعد المونولوغ أكثر تحكماً في إيقاع العرض ومحتواه مقارنة بالـ"ستاند أب كوميدي"، إذ لا يتطلب تفاعلاً مع الحاضرين.

أما الاسكتشات الفكاهية فهي عروض قصيرة تتضمن مجموعة من الممثلين الذين يقدمون مواقف كوميدية متتابعة تعتمد على الحوار والتفاعل بين الشخصيات المختلفة لخلق لحظات فكاهية، وغالباً ما تكون هذه العروض مكتوبة مسبقاً ومعدة بدقة. وتعد عروض "مونتي بايثون" مثالاً شهيراً على الاسكتشات الفكاهية التي تجمع بين السخرية والمواقف العبثية بطريقة مبتكرة.

في الغرب والعالم العربي

انتقل فن الـ"ستاند أب كوميدي" إلى الغرب في القرن الـ19 مع انتشار الكوميديا البريطانية والأوروبية. في هذه الفترة، بدأت الكوميديا تأخذ طابعاً أكثر تنظيماً واحترافية، إذ ظهرت المسارح المخصصة للعروض الكوميدية. وشهد القرن الـ20 ازدهاراً كبيراً لهذا الفن في الولايات المتحدة الأميركية، إذ أصبحت النوادي الكوميدية جزءاً أساسياً من الثقافة. برزت أسماء كوميدية كبيرة مثل تشارلي شابلن الذي قدم كوميديا صامتة ذات طابع اجتماعي، وغروتشو ماركس المعروف بأسلوبه الساخر والذكي، وودي آلن الذي استخدم الفكاهة لتقديم رؤى فلسفية ونقدية للمجتمع. ومع مرور الوقت، تطور فن الـ"ستاند أب كوميدي" ليشمل مجموعة متنوعة من الأساليب والأشكال الكوميدية، وبرزت أسماء معاصرة مثل نوا تريفور وأوميد جاليلي وراسل بيترز، الذين يعدون من أشهر نجوم هذا الفن ويقدمون عروضاً تتناول قضايا اجتماعية وسياسية بذكاء وفكاهة.

 

 

ظهر فن الـ"ستاند أب كوميدي" في العالم العربي في أواخر القرن الـ20 متأثراً بالكوميديا الغربية، لكنه طور أسلوبه الخاص الذي يناسب الثقافة والمجتمع العربيين. في البداية كانت العروض الكوميدية تقدم بصورة رئيسة في مصر ولبنان، إذ برزت أسماء مثل إسماعيل ياسين ونجيب الريحاني وعادل إمام، وقدم هؤلاء الفنانون عروضاً كوميدية ناجحة تميزت بالسخرية الاجتماعية والفكاهة الهادفة، إذ كانت كوميدياهم تتناول القضايا الاجتماعية والسياسية بصورة مباشرة أو غير مباشر.

مع مرور الوقت، توسع هذا الفن ليشمل دولاً عربية أخرى، إذ ظهر جيل جديد من الكوميديين الذين يقدمون عروضهم بأساليب متنوعة ويستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى جمهور أوسع. ففي المملكة العربية السعودية برز الكوميديان إبراهيم الخير الله الذي يستخدم منصات مثل "يوتيوب" و"إنستغرام" لتقديم محتواه الكوميدي بطريقة مبتكرة، مما أسهم في تحقيق شهرة واسعة، وفي مصر يعد باسم يوسف مثالاً بارزاً على هذا التحول، إذ انتقل من تقديم برنامج ساخر على التلفزيون إلى إنشاء قناة على "يوتيوب" تعرض عليها مقاطع كوميدية ومحتوى متنوع يصل إلى ملايين المشاهدين.

ويبرز شادي سرور أيضاً بوصفه واحداً من الكوميديين الذين استغلوا وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق انتشار واسع، إذ يقدم مقاطع فيديو ساخرة تعالج قضايا اجتماعية وسياسية بطريقة فكاهية. كذلك في الأردن استطاع الكوميديان رجائي قواس جذب جمهور كبير من خلال عروضه على الإنترنت، إذ يعالج مواضيع يومية تلامس حياة الناس بأسلوب بسيط ومضحك.

فكاهة نسائية

واجهت النساء صعوبات كبيرة في دخول مجال الـ"ستاند أب كوميدي" في البداية، إذ كانت الكوميديا مجالاً يهيمن عليه الرجال. لكن مع مرور الوقت تمكنت النساء من إثبات قدراتهن الكوميدية وكسب جماهير عريضة. اليوم هناك عديد من الكوميديات الغربيات والعربيات اللاتي برزن في هذا المجال وحققن نجاحاً كبيراً مثل إلين ديجينيرس وسارة سيلفرمان وشيماء جمال وناديا القيسي اللاتي يقدمن عروضاً كوميدية تناقش قضايا اجتماعية وسياسية من منظور نسائي، واستطاعت كسر الحواجز التقليدية وطرح محتوى فكاهي جريء وهادف، مما أسهم في تغيير الصورة النمطية عن دور النساء في الكوميديا.

لا بد من الإشارة إلى أن منصات التواصل الاجتماعي أسهمت في انتشار فن الـ"ستاند أب كوميدي" بصورة كبيرة ودخول النساء إليه، إذ ظهر جيل جديد من الكوميديين الذين يقدمون عروضهم عبر الإنترنت. وقد وفرت هذه المنصات فرصة للكوميديين للوصول إلى جمهور واسع ومتعدد الثقافات من دون الحاجة إلى المرور عبر وسائل الإعلام التقليدية. استطاع هؤلاء جذب جمهور واسع بفضل محتواهم الفكاهي المميز وقدرتهم على التفاعل مع المتابعين. وساعدت هذه المنصات أيضاً في تقديم كوميديا متجددة ومبتكرة تتناول قضايا يومية ومواقف حياتية بطرق ساخرة ومضحكة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يلجأ بعض الممثلين إلى فن الـ"ستاند أب كوميدي" لتقديم عروض كوميدية مباشرة، وهو ما أسهم في تعزيز شهرتهم وزيادة قاعدتهم الجماهيرية. من أشهر الممثلين الذين برزوا في هذا المجال ريكي جيرفيه وإيدي ميرفي والراحل روبن ويليامز، الذين قدموا وما زالوا عروضاً كوميدية ناجحة لاقت استحساناً كبيراً من الجمهور. واستخدم هؤلاء الممثلون موهبتهم في التمثيل لخلق شخصيات كوميدية مميزة ولإيصال رسائل اجتماعية وسياسية بطرق مبتكرة. وأتاح فن الـ"ستاند أب كوميدي" لهؤلاء الممثلين فرصة للتعبير عن آرائهم وأفكارهم بصورة مباشرة وتفاعلية مع الجمهور، مما أضفى بعداً جديداً على مسيرتهم الفنية.

 

من ناحية أخرى يبدأ بعض الفنانين مسيرتهم المهنية في عروض الـ"ستاند أب كوميدي"، ثم ينتقلون إلى مجال التمثيل بعد تحقيق النجاح. ومن أشهر الكوميديين الذين تحولوا إلى التمثيل توم هانكس وجيم كيري وكيفن هارت الذين أصبحوا نجوماً عالميين في السينما والتلفزيون بفضل موهبتهم الكوميدية الفريدة. واستعان هؤلاء النجوم بمهاراتهم الكوميدية لتقديم أدوار تمثيلية متنوعة تجمع بين الفكاهة والدراما، مما أسهم في إثراء تجربتهم الفنية وجذب جمهور أوسع. ويعكس انتقالهم من الـ"ستاند أب كوميدي" إلى التمثيل قدرتهم على التكيف مع مختلف الأدوار والأساليب الفنية، ويؤكد موهبتهم الفنية المتنوعة.

ثقافة شعبية ومستقبل

أصبح فن الـ"ستاند أب كوميدي" جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الشعبية في عديد من الدول، إذ يناقش الكوميديون في عروضهم قضايا اجتماعية وسياسية مهمة. أسهم هذا الفن في نشر الوعي والتغيير الاجتماعي من خلال السخرية الذكية والنقد البناء، ولعب أيضاً دوراً كبيراً في تعزيز حرية التعبير وتقديم رؤى مختلفة حول القضايا الراهنة.

ويستخدم الكوميديون فنهم لتسليط الضوء على المشكلات اليومية والمواقف الإنسانية بطرق تجعل الجمهور يضحك ويفكر في آن واحد. ويمتد تأثير فن الـ"ستاند أب كوميدي" إلى مجالات أخرى مثل السينما والتلفزيون والأدب، إذ أصبح مصدر إلهام لكثير من الأعمال الفنية والإبداعية.

لكن على رغم شعبية الـ"ستاند أب كوميدي"، فإنه يواجه انتقادات متعددة تتعلق بمحتواه وأسلوب تقديمه. أحد أبرز الانتقادات هو اتهام بعض الفنانين بالابتذال، إذ يعتمد بعضهم على النكات الجريئة أو المواضيع الحساسة بصورة مفرطة من أجل إضحاك الجمهور، مما يؤدي أحياناً إلى تجاوز الحدود الأخلاقية المقبولة. كما يتهم بعض الكوميديين بالعنصرية أو التمييز ضد فئات مجتمعية معينة، سواء بناء على العرق أو الجنس أو الدين، مما يثير استياء شرائح واسعة من المجتمع. ويمكن أن يؤدي هذا النوع من الكوميديا إلى جرح مشاعر الآخرين وتكريس الصور النمطية السلبية، وهو ما يثير جدلاً واسعاً حول حدود حرية التعبير في الفن. على سبيل المثال، تعرض الكوميديان كيفن هارت لانتقادات حادة بسبب نكات عدت مسيئة للمثليين، مما أدى إلى انسحابه من تقديم حفل جوائز الـ"أوسكار" عام 2019.

 

 

مع التوجه المتزايد نحو الإنترنت وتراجع العروض الحية يواجه فن الـ"ستاند أب كوميدي" تحديات وفرصاً جديدة في آن معاً، إذ أصبحت منصات البث التدفقي ومواقع التواصل الاجتماعي ساحة رئيسة للكوميديين لعرض أعمالهم والوصول إلى جمهور واسع من دون الحاجة إلى الارتباط بعروض حية أو مسارح.

يتيح هذا التحول الرقمي للكوميديين مرونة أكبر في تقديم محتواهم وتجربة أشكال جديدة من الكوميديا. على سبيل المثال يمكن للكوميديين الآن نشر مقاطع قصيرة على "يوتيوب" أو إنستغرام أو تقديم عروض مباشرة عبر تطبيقات مثل "زوم"، مما يسمح لهم بالتفاعل مع جمهور عالمي من دون قيود جغرافية. لكن مع هذا، يظل هناك قلق من فقدان الحميمية والتفاعل المباشر مع الجمهور الذي يعد جزءاً أساسياً من تجربة الـ"ستاند أب كوميدي" التقليدية.

من المرجح أن يستمر هذا الفن في التطور والتكيف مع التكنولوجيا، مع الحفاظ على جوهره القائم على التفاعل الفوري والسخرية الذكية. فهو يعد من بين أحد أهم أشكال التعبير الفني والثقافي، إذ نجح في التكيف مع مختلف الثقافات والمجتمعات عبر التاريخ. من جذوره الهندية القديمة إلى انتشاره العالمي وتأثيره الكبير في الثقافة الشعبية، يبقى هذا الفن وسيلة فعالة للتعبير عن الآراء ونقل الرسائل الاجتماعية والسياسية بأسلوب فكاهي وممتع.

اقرأ المزيد

المزيد من فنون