Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هاني القط يرصد صراع العدل والظلم في "تاج شمس"

اتكأ على شيوع الخرافة في قرية مصرية متخيلة لتكون مسرحاً لأحداث روايته

لوحة "بيوت وقباب في أسوان" (موقع الفنان والناقد المصري عز الدين نجيب)

ملخص

هي رواية أجيال، فالأبناء يكبرون ويقومون بأدوار تختلف غالباً عن أدوار آبائهم، وفي عمقها تجسيد لهذا الصراع بين العدل والظلم الذي ينتقل من جيل إلى آخر.

"تاج شمس" (بيت الحكمة)، هو اسم لقرية مصرية متخيلة اختارها هاني القط لتكون مسرحاً لأحداث روايته، والتي تعد على رغم تداخل أحداثها وتوالدها وكثرة الشخصيات فيها رواية مكان، أجاد الكاتب وصفه للدلالة على المعاني التي يريدها، بخاصة وصفه للربوة العالية التي تجلس "الجليلة" عليها بمهابة في مواجهة النهر.

و"الجليلة" شخصية محبوبة يبش لمرآها أهل البلد "وينحنون يقبلون ظهر يدها ملتمسين البركة راجين الدعاء"، فهي قادرة بمجرد النظر على سبر أرواح سكان القرية ومعرفة أسرارهم، لكنها لا تبوح بها. ومن هنا يوحي المكان العالي بوضع هذه الشخصية المحورية التي لم تنجب سوى "نجاة" قبل أن تأتيها جثة زوجها مطعونة الصدر.

هي رواية أجيال، فالأبناء يكبرون ويقومون بأدوار تختلف غالباً عن أدوار آبائهم، فـ "مختار" يسافر أعواماً ثم يعود شاباً قوياً ليصبح عمدة القرية، أما "خليل"، وهو من جيل الآباء، فهو شخصية قلقة يبحث منذ أن تفتحت مداركه عن اليقين، إذ عمل محفّظاً للقرآن وكان يخلط بينه وبين غيره متعللاً بأنه كله "كلام الله"، وهذه الحيرة تتوازى مع رحلاته الدائمة خارج "تاج شمس" في حركة دائبة بين الذهاب والإياب.

العدل والظلم

والرواية في عمقها تجسيد لهذا الصراع بين العدل والظلم الذي ينتقل من جيل إلى آخر، أو من عمدة إلى آخر، واللافت أن كل عمدة كان ينكل بمن سبقه، ولم يأت أحد برغبة الناس سوى مختار (العمدة الأخير) الذي خيب آمال الجميع فيه، واحتمى كسابقيه بأحد القتلة المأجورين.

كما أنهم، باستثناء "مختار" أيضاً، جاءوا من خارج القرية، فهل يكون تاريخ هذه القرية رمزاً لتاريخ مصر وتعاقب الحكام عليها من كل صوب؟ وهل تكون "الجليلة" رمزاً لقوة شخصية مصر ومهابتها في نظر الجميع بمن فيهم الأغراب؟

 

 

وكما توجد "الجليلة" برمزيتها الروحية توجد "كوكب" التي يرتمي العشاق تحت قدميها وتنتظر خروج زوجها رضوان للخفارة ليلاً لتترك الباب موارباً لعشاقها، و"رضوان يعلم ذلك، وكل ما يهمه هو ألا يعرف الناس أنه يعرف، ويقف "الميت"، هكذا اسمه حيث يعمل حفار قبور، بوصفه مناظراً ذكورياً لشهوانية "كوكب"، فبعد أن تصبح فحولة "الميت" حديث نساء القرية، تسعى كوكب إلى الإيقاع به وتنجح في ذلك وتقضي معه 20 ليلة.

وتتسع دائرة فرائسه من الأرامل والمطلقات، لكنه في النهاية يصبح نذير شؤم في نظر الجميع، إذ تصاب "كوكب" بالجنون وينصرف عنها من لم يمت بعد من عشاقها.

انتقالات ضدية

هذه الانتقالات بين الحال ونقيضها هي إحدى سمات الرواية، فنجدها في سيرة قنديل الذي جعل زوجته خادمة له ولمرتادي بيتهما الذي حوله إلى خمارة حتى سقط ذات يوم وظن الجميع أنه مات فدفنوه، لكن "الميت" يكتشف أنه لا يزال حياً فيخرجه من قبره وهو أقرب إلى الموت، وينفض عنه أصدقاؤه وتنكره زوجته، وبعد شهور تشتعل النار في بيته لكنه يخرج منها متغلباً على عجزه وكأن النار أداة تطهيره.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هناك إذاً عالمان في الرواية، عالم قوة الروح الساعية إلى التطهر من رذائل الجسد وإقامة العدل والرغبة في العطاء وتمثله "الجليلة"، وعالم القتل والفساد الذي مثله "بحر" القاتل الأجير، وبقراءة الأحداث نلاحظ هيمنة ثيمة القتل في أبشع صوره.

وتستمر هذه الثيمة بدرجات متفاوتة وكأننا أمام دائرة لا تنتهي من القتل، وهو مايتوازى مع ثيمة اعتزال تلك الحياة التي يهيمن عليها الموت غير الرحيم والتي تمثلها "الجليلة".

الأساطير الريفية

تزخر الرواية بالخرافات الريفية التي لم يعد لها ذلك الحضور القوي في الواقع بتقدمه العلمي، ومن هذه الخرافات المرفوضة الاعتقاد بأن "الجان يخنقون القمر" حين يرون احتباسه خلف الغمام ولا يبدو منه سوى ظل باهت، وكذلك الإيمان، وهذا مناف للعلم والعقيدة الدينية، بقدرة العراف على معرفة الغيب، حين يخبر العمدة بأن "الموت الأسود على البلد مكتوب"، وكذلك استخدام السحر الأسود لجلب الشياطين، وهو أمر يجافي العلم ومحرم دينياً. والعجيب هو رصد الكاتب للحكايات الخرافية مثل حكاية الرجل كان ينتقل بين البلاد فوق جناح طائر مسحور، والاعتقاد في حكايات من قبيل جاموسة تلد إنسياً برأسين أو نعجة تلد كلباً.

 

 

والوحيدة التي لم تؤمن بهذه الحكايات هي "الجليلة" التي نهرت ابنتها لاستقبالها النبوءة كحقيقة فامتثلت لأمرها، وكان الأجدى أن تخلق الرواية حكاياتها فوق الواقعية التي يمكن إرجاعها للخيال الأدبي، وهناك ما نسميه "مفارقة المشاهد"، حين يرى راضي، العمدة المصلوب بعد التمرد عليه، البيت الذي قضى فيه أعواماً آمراً مطاعاً، وقد قُيد أمامه عبداً مثلما انساق إليه عبداً، ولعل موت العراف وترك جثته مصلوبة إيذاناً بانتهاء هذه الخرافات والنبوءات التي ظل أهل البلد يعتقدون صحتها.

وبغياب هذه الخرافات تتجلى قوة الروح وبخاصة عند "الجليلة" التي تتحدى "العمدة" الطامع في أراضيها وقوة "قنديل الذي ذهب إليه منتزعاً العقد ومتحدياً "بحر" الذي يحميه، وهذا الجبروت يمثل قانوناً عاماً على مدار الرواية، إذ نجد دائماً ظلم العمدة، أياً كان اسمه، وقهر الخفر الذين يمثلون أدواته القمعية، إلى أن تكسر "الجليلة" ومعها قنديل هذا الجبروت.

بين ضميرين

يهيمن على السرد ضمير الغائب من خلال وضع الراوي الخارجي العليم حين نقرأ مثلاً "ترنو أعين القادمين إلى الجليلة، تهزهم قسمات وجهها المهيب، وكلما اقتربوا أخذتهم الحيرة: هل ترفع عصاها لهم؟ أم ترفعها إلى السماء؟"، فالراوي هنا لا يدرك مظهر الشخصيات وحركتها الظاهرة فقط، بل يسبر أعماقها فيدرك ما ينتابهم من مشاعر الرهبة والحيرة، لكن ذلك لا يمنع وجود ضمير المتكلم الذي يوظف تقنية المونولوغ حين يحدث مختار نفسه قائلاً "ثلاث ليال يا مختار، تمشي وحدك شريداً فرداً والليل وحشة والعتمة تنذر بالخطر والبرد يلسع كالنار".

وقد ساعد وضع الراوي العليم في رسم صور مشهدية لوصف النار التي شبت في دار "قنديل" وتصاعد ألسنتها وانفلات شررها، ووقوف أهل القرية مكتوفي الأيدي في انتظار تدخل السماء.

وفي موضع آخر يربط الكاتب بين حركة الشخصية وحركة الطبيعة حين يصور نظرة "بَح" شارداً إلى المطر عبر النافذة، وشعوره بحرقة في عينيه تضطره إلى أن "يفركهما من حين لآخر حتى يسقط في النوم، وعلى مهل تخفت السيول وترتحل كتل الغمام ثم يكف المطر"، كما أن امتداد زمن الرواية دفع الكاتب في عدد من فصولها إلى استخدام ما يعرف بالثغرة الزمنية التي تختصر الأعوام أو تقفز عليها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة