ملخص
ولد جان لوك ميلونشون الزعيم اليساري الفرنسي، الذي حقق التحالف الذي يرأسه في الانتخابات الأخيرة نجاحا لافتا، في مدينة طنجة في المغرب سنة 1951، حيث كان يعمل والده. عاد إلى فرنسا عام 1962 بعد طلاق والديه. ودخل عالم السياسة من بوابة الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا
زعيم "يساري سياسي متمرد" تصدر اسمه عناوين الأوساط الصحافية والإعلامية مصحوباً بألقاب عدة منها "تشافيز الفرنسي".
وما بين تقارير وتحليلات ولقاءات وتصريحات، يبدو أن هذا "الخطيب المفوه"، وهو لقب ثان منحته إياه الصحافة، الشخصية الأكثر إثارة للجدل حالياً في بلاده، وبخاصة في ظل الانتخابات التشريعية الفرنسية التي انقضت جولتها الثانية في السابع من يوليو (حزيران) الجاري، معلنة نجاح اليسار في منعه تقدم حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف.
سيرة شخصية
ولد جان لوك ميلونشون في مدينة طنجة في المغرب سنة 1951، حيث كان يعمل والده. عاد إلى فرنسا عام 1962 بعد طلاق والديه. درس الفلسفة والآداب الحديثة وعمل مدرساً بالسلك الثانوي والتقني.
دخل عالم السياسة من بوابة الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا، وتدرج في عديد من المواقع، ابتداء من عضوية الحزب الاشتراكي سنة 1976. وفي عام 1986 أصبح أصغر عضو في مجلس الشيوخ الفرنسي.
بين عامي 2000 و2002 عُين وزيراً للتعليم في حكومة ليونيل جوسبان، ثم أصبح مشرعاً في الاتحاد الأوروبي في عام 2009.
ترشح للانتخابات الرئاسية ثلاث مرات، المرة الأولى كانت في عام 2012، إذ حصد 11 في المئة من الأصوات، ثم في 2017 التي حصل فيها على نتيجة أفضل بنسبة 19.7 في المئة من الأصوات. وأخيراً في عام 2022، حين حصل على 21.95 في المئة من الأصوات، مما جعله يحتل المركز الثالث خلف إيمانويل ماكرون ومارين لوبن.
ولعل الانتخابات التشريعية الأخيرة، هي أكثر ما سلط الضوء على هذا "السياسي الإشكالي"، على وجه الخصوص بعد فوز "الجبهة الشعبية الجديدة"، الائتلاف اليساري الذي يتزعمه، بأكبر عدد من مقاعد الجمعية الوطنية، هذا الائتلاف المكون من حزب "فرنسا الأبية"، ومن الاشتراكيين والخضر والشيوعيين.
مواقف مثيرة للجدل
منذ أن أسس ميلونشون "فرنسا الأبية" سنة 2016 تحت شعار "المستقبل المشترك"، قدم الحزب عديداً من المبادئ التي تهتم بالبيئة وكانت له مطالب عدة بما يتعلق بالنظام البيئي، مثل تبني قاعدة خضراء تعني عدم الأخذ من الطبيعة أكثر مما يمكن تجديده وحماية الموارد الحيوية.
كذلك عارض الحزب سياسات الهجرة وأكد تبنيه سياسة دعم و"إدماج المهاجرين"، ودعا ميلونشون إلى عدم اختزال ظاهرة الإرهاب في المهاجرين، وإلى ضرورة عيش المسلمين في فرنسا وبكل أوروبا بحرية، مشدداً على أهمية التفريق بين الإسلام والإرهاب.
وقد كتب في "مقابلات مع مارك إندويلد"، "إذا كنا لا نريد أن يأتي الناس، فمن الأفضل ألا يغادروا، يقصد بلدانهم، وعلينا أن نتوقف عن الاعتقاد أن الناس يغادرون من أجل المتعة. لذلك دعونا نطفئ أسباب رحيلهم واحداً تلو الآخر".
ومن تصريحاته الأخيرة حول الهجرة، تلك التي صرحها في لقاء مع قناة "BFMTV"، حين قال، "إذا جئت إلى الحكم فسأبدأ بموجة واسعة النطاق من تنظيم أعداد المهاجرين في فرنسا".
وباعتباره "مناهضاً للرأسمالية" ومطالباً بـ"تعزيز التحرر العالمي للإنسان" متبنياً مبادئ حزبه، وصف ميلونشون كل من إدوارد سنودن وجوليان أسانج على أنهما "شخصان قدما خدمة كبيرة للديمقراطية وللحرية على مستوى العالم"، ففي عام 2016 قال ميلونشون الذي كان مرشحاً للانتخابات الرئاسية آنذاك، إنه في حال انتخابه سيمنح الجنسية الفرنسية لأسانج وسنودن، بأنهما كشفا للجميع عمليات المراقبة الجماعية التي قامت بها الولايات المتحدة.
رأي آخر لميلونشون، أثار الجدل السياسي والإعلامي، يرتبط هذه المرة برئيس فنزويلا الراحل هوغو تشافيز، إذ إن لقب "تشافيز الفرنسي" الذي منحته إياه "لو فيغارو" وبعض وسائل الإعلام الأنغلوسكسونية ومنها "بلومبيرغ"، إنما جاء من العلاقة الوطيدة والشبه الأيديولوجي الكبير بين القائد الفنزويلي والسياسي الفرنسي "المتمرد".
وميلونشون مقتنع بأن الإعلام غير عادل مع تشافيز ويرفض عموماً انتقاده، لا وبل يدافع عنه، كونه يعرفه شخصياً، وكثيراً ما أبدى إعجابه به وبالثورة "البوليفارية" التي عدها "مصدر إلهام".
ليس تشافيز فقط من يعجب به ميلونشون، فللقائد الكوبي فيدل كاسترو نصيب أيضاً، الأمر الذي أشارت له المؤرخة وعالمة الأنثروبولوجيا إليزابيث بورغوس في حوار معها نشرته "lexpress" في يونيو 2022، مؤكدة أن "ميلونشون رجل عاطفي للغاية، وممثل حقيقي يقوم بالأداء. إيماءاته مستوحاة من فيدل كاسترو، بما في ذلك رفع إصبع السبابة أثناء خطاباته. إن له أصولاً إسبانية، ويعرف نفسه بأنه من سكان البحر الأبيض المتوسط، ويوجهه خياله نحو هذا الجانب العاطفي والعفوي لأميركا اللاتينية".
موقفه من "الحرب" في سوريا
أما بالنسبة للحرب في سوريا، فنقلت صحيفة "ليبراسيون" في أبريل (نيسان) 2017، أن ميلونشون لم يوجه كلمة واحدة للسوريين قط، وقد فعل ذلك لأعوام. وقد أعلن في فبراير (شباط) 2016 في لقاء له مع قناة "franceinfo" أنه يؤيد التدخل الروسي في سوريا، لأن فلاديمير بوتين، على حد تعبيره، كان سيعمل على "تسوية المشكلة" من طريق القضاء على "داعش".
وأشار إلى أنه "ليس صحيحاً" أن الجيش الروسي كان يضرب المعارضة السورية لنظام بشار الأسد أكثر من مواقع "داعش". وأكد أن "الروس هم الذين قطعوا الاتصالات التي كانت تنقل نفط داعش لتهريبه عبر تركيا".
وقد واجه لقاءه انتقادات عدة ومن قبل منظمات حقوقية، بخاصة عندما ذكره المذيع بقتل مدنيين في القصف الروسي، فكان جواب ميلونشون "هل تعلم بحرب نقصف فيها ولا تصيب القنابل المدنيين؟ لا ليست موجودة".
من جهة أخرى، وصف ميلونشون خلال مقابلة مع إذاعة "فرانس.إنتر" الفرنسية في مارس (آذار) 2020، النظام التركي بـ"البغيض، الذي يدعم الإرهاب في سوريا"، وقال، إن "علينا أولاً إدانة النظام التركي البغيض الذي لا يحارب الرئيس السوري بشار الأسد، بل يختلق القصص والدوافع لإغراق سوريا في الفوضى بإعادة توطين تنظيم داعش الإرهابي".
ميلونشون الداعم لـ"غزة"
موقف ميلونشون إزاء الأزمة في سوريا، مختلفة قليلاً عن موقفه تجاه ما يحدث اليوم في غزة، فتنديداً بالهجوم الإسرائيلي على القطاع "المنكوب"، خرج ميلونشون في تظاهرات عدة رفعت فيها أعلام فلسطين، وطالبت بوقف إطلاق النار ونددت بسياسة نتنياهو، دافعاً بكثيرين إلى اتهامه بأنه "معاد للسامية".
وسجل ميلونشون مواقف أخرى في هذا الخصوص، مثل انتقاده قول وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه في يناير (كانون الثاني) 2023 "اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية هو تجاوز للعتبة الأخلاقية، ولا يمكن استغلال فكرة الإبادة الجماعية لأغراض سياسية"، معتبراً ما صدر عن الوزير "خطأً سياسياً".
وكان يوناتان عرفي رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية، قد رأى في تصريحات نقلتها "لوموند" في الـ10 من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أن ميلونشون اختار عدم التضامن مع إسرائيل وأعطى "شرعية للإرهاب" بوضع الطرفين على قدم المساواة.
وقال عرفي، "لم تعد المسألة سياسة، إنها مسألة "أخلاقية". "ينحاز جان لوك ميلونشون دائماً في أعماقه، إلى جانب الشمولية: فهو يدعم روسيا ضد أوكرانيا والصين ضد تايوان، واليوم بطريقة ما ’حماس’ ضد إسرائيل".
في حين رأت "فرانس تي في إنفو" أن حزب "فرنسا الأبية" اختار وضع الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني في قلب حملته الانتخابية الأوروبية لاستهداف الشباب وأحياء الطبقة العاملة. وهو ما كان أعضاء الحزب يأملون جني ثماره في صناديق الاقتراع، تحديداً عندما وُضعت الناشطة الفرنسية الفلسطينية ريما حسن في المركز السابع على قائمته للانتخابات.
أما صحيفة "لوموند" فكتب فيها فيليب برنارد مقالا بتاريخ الخامس من مايو (أيار) بين أنه "لا شيء جيد يمكن أن يأتي من استغلال مارين لوبن وجان لوك ميلونشون لمخاوف اليهود والعرب في فرنسا".
وقال برنارد، "اليمين المتطرف لمارين لوبن يستغل الأحداث على حد سواء، لجعل الناس ينسون معاداته للسامية، وتأجيج وصمه المسلمين. ومن جانبه يعتقد اليسار المتطرف بزعامة ميلونشون أنه يكسب أصوات المسلمين من خلال جعل مأساة غزة محور حملته للانتخابات الأوروبية".
وهو أمر صرح به سابقاً النائب عن "فرنسا الأبية" لويس بويارد إذ قال، "إن موضوع فلسطين يربط كثيراً من الناس بالسياسة، وبخاصة الشباب وأحياء الطبقة العاملة، ونحن في حاجة إلى أصوات الشباب، ولا نخفي ذلك".
في المقابل، يتهم الخصوم السياسيون هؤلاء بـ"التلاعب" وخصوصاً عندما كانوا يذهبون إلى الجامعات لدعم حق الطلاب في التظاهر من أجل القضية الفلسطينية.
هل تتولى "جبهة ميلونشون" اليسارية حكومة فرنسا؟
عدَّت "الجبهة الشعبية الجديدة" نفسها القوة الأولى للجمعية الوطنية الجديدة، منذ اليوم التالي لنتائج الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية. وطالبت رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون، تمكينها من تشكيل الحكومة. وأكدت أن تجاهل نتيجة الانتخابات التي تصدرتها الجبهة، هو بمثابة خيانة لروح الدستور وانقلاب على الديمقراطية ستعارضه بكل قوة.
جاء على موقع "فرنسا الأبية"، "نحن من الغد جاهزون لحكم بلادنا لتنفيذ برنامج الجبهة الشعبية الجديدة الذي قدمناه خلال الحملة الانتخابية. وسننفذه، وفاء للالتزام الذي قطعناه على أنفسنا تجاه الفرنسيين، مع استبعاد أي ائتلاف غير طبيعي، في إطار ديمقراطية متجددة يستعيد فيها البرلمان مكانته الكاملة ويشارك فيها المجتمع المدني والقوى الاجتماعية بصورة كاملة".
لكن وبعد مرور أكثر من أسبوعين على النتائج، لم يحسم رئيس الجمهورية بعد، قراره حول تعيين رئيس للوزراء، مما دفع ميلونشون أكثر من مرة إلى حثه على ذلك، موجهاً أنظار ماكرون نحو الاختيار من "الجبهة الشعبية الجديدة"، وآخر هذه المحاولات، جاءت في مقابلة للزعيم اليساري مع صحيفة "لاريبوبليكا" الإيطالية، نشرت الأحد الـ21 من يوليو الجاري، مقدراً فيها أن اختيار الحكومة اليوم سيكون له عواقب على نتيجة حزب الجبهة الوطنية اليمني المتطرف في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
يذكر أن ائتلاف اليسار لم يفلح بالإجماع على مرشح واحد لمنصب رئاسة الحكومة، فبينما يدعم حزب "فرنسا الأبية" هوغيت بيلو رئيسة المجلس الإقليمي لريونيون التي لا تواجه رفض "الخضر"، يرفض الاشتراكيون طرح اسمها وتستمر "المشاجرات" بين أعضاء الجبهة.