ملخص
ارتفع عدد مصانع الأدوية المرخصة في مصر من 130 مصنعاً بإجمال 500 خط إنتاج عام 2014 إلى 191 مصنعاً تمتلك 799 خط إنتاج حالياً، أي بنمو 37 في المئة في عدد المصانع و60 في المئة بخطوط الإنتاج.
وسط زحام وتكدس وطوابير من السيدات والرجال من مختلف الفئات العمرية الوافدين من محافظات مختلفة وأمام شبابيك ضيقة ملاصقة لبعضها بعضاً، يقف الشاب الثلاثيني أحمد عبدالسميع أمام صيدلية الإسعاف في وسط القاهرة، إحدى الصيدليات الحكومية التابعة للشركة المصرية لتجارة الأدوية، أملاً في العثور على أصناف الأدوية الناقصة لوالده وعدد من أفراد أقاربه، والذين يتعذر عليهم العثور عليها في محيط إقامتهم.
أكثر من 55 كيلومتراً اعتاد الشاب الثلاثيني أن يقطعها من مدينة بنها في محافظة القليوبية شمال القاهرة وصولاً إلى صيدلية الإسعاف في العاصمة بحثاً عن تلك الأدوية الناقصة، وعلى رغم مشقة الطريق ولهيب الشمس الحارقة لم يجد عبدالسميع ملاذاً آخر سوى اللجوء إلى تلك الصيدلية الكبرى بعد أن فقد الأمل في العثور عليها في عدد من الصيدليات المجاورة لمحيط منزله والمناطق القريبة منه.
ويقضي الشاب المصري الذي يعمل موظفاً في إحدى الشركات العقارية نصف يومه في هذا المشهد المتكرر الذي اعتاده أسبوعياً من أجل الحصول على الكميات المتوافرة من أصناف دواء "بيتاكور" المستخدم لعلاج ارتفاع ضغط الدم وتقليل سرعة ضربات القلب، و"قلم أنسولين هيومالوغ 100 مليغرام" لعلاج مرضى السكري، ودواء "نوفونرم" المعالج لخفض مستويات السكر في الدم.
وعود دون تحقيق
يقول الشاب الثلاثيني أحمد عبدالسميع في حديثه إلى "اندبندنت عربية" إن "أسرتي تعتمد على تلك الأدوية بشكل دائم ويجب تناول الجرعات في مواعيدها المحددة وفقاً لتعليمات الأطباء خشية من التعرض لأية أخطار صحية، وأحاول الحصول على أية كميات متوافرة منها لكي تكفيهم لفترات أطول للتغلب على مشكلة نقصها وحتى لا أتحمل مشقة الطريق للحصول عليها"، مضيفاً أنه يسمع دائماً وعوداً متكررة من الحكومة المصرية عن إنهاء أزمة نقص الدواء، ولكن لا يجد شيئاً يتحقق على أرض الواقع ولا يجد أبسط حقوقه في الحصول على الأدوية المنقذة للحياة.
وعلى رغم معاناة عبدالسميع وأقرانه فقد أولت الحكومة المصرية خلال الآونة الأخيرة اهتماماً كبيراً بأزمة نقص واختفاء الدواء في الأسواق المصرية في محاولة منها لإيجاد حلول جذرية لها، مما دفع رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي للتأكيد خلال مؤتمر صحافي قبل أيام قليلة أنه عقد اجتماعات مع مسؤولي غرف صناعة الأدوية ومجالس التصدير للوصول إلى نقطة توازن في ما يتعلق بملف أسعار الدواء، وجرى إقرار خطة تتعلق بمجموعة من الأدوية يصل عددها إلى نحو 3 آلاف صنف تمثل 90 في المئة من حجم التداول في السوق، أي الأكثر مبيعاً، على أن يتم تطبيق تلك الخطة في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة وبدء عودة الأدوية الرئيسة لمعدلات الإنتاج نفسها بالكامل خلال هذه المدة.
رئيس الوزراء المصري نوه خلال حديثه بأن تسعير الدواء كان يجري على أساس سعر العملة الأجنبية بـ 30 جنيهاً (0.62 دولار) أو 31 جنيهاً (0.64 دولار)، واليوم سعر الدولار الرسمي في حدود 48 جنيهاً (0.99 دولار)، وهو ما يحقق خسائر مباشرة لمختلف المصانع والشركات وعدم قدرتها على الإنتاج بهذه الأسعار.
رحلة شاقة
بينما يضطر أحمد عبدالمجيد الذي يعاني اضطراب الاكتئاب الشديد والقلق والوسواس القهري لخوض رحلة شاقة أسبوعياً بالتردد على كثير من الصيدليات القريبة من محيط منزله في حي المهندسين بمحافظة الجيزة، من أجل العثور على دواء "أسيتالوبرام 10 مليغرام" الذي يصل سعره الرسمي في السوق لنحو 70 جنيهاً (1.45 دولار)، ويتطلب تناول جرعاته يومياً بشكل منتظم وفقاً لتعليمات الطبيب المتابع لحاله الصحية.
"الدواء ناقص ويوجد شح في هذا الصنف الدوائي وهناك بدائل أخرى من المادة الفعالة نفسها"، كلمات اعتاد الشاب الثلاثيني عبدالمجيد سماعها من أصحاب سلاسل الصيدليات الكبرى خلال رحلة البحث عن الدواء، ولكنه كان دائماً ما يرفض إغراءات الصيادلة بتناول مثيل الدواء، وكان يضطر إلى اللجوء لدائرة أصدقائه ومعارفه المقيمين في مناطق مختلفة لمساعدته في العثور على الدواء في الصيدليات الصغيرة والتي توجد في أماكن نائية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكثيراً ما حاول الشاب الثلاثيني الاستعانة بالخدمات الحكومية، مثل الخط الساخن الذي أتاحته هيئة الدواء المصرية رقم (15301) من أجل معرفة أماكن توافر هذا الصنف الدوائي وعناوين الصيدليات الموجود فيها، من أجل شراء كميات كبيرة منه تكفيه لعدة أشهر للتغلب على مشكلة النقص التي يواجهها دائماً، إلا أن محاولاته كانت تفشل في ظل تعذر وجود هذا الصنف الدوائي وعدم ضخ الشركة المصنعة لهذا الصنف الدوائي كميات كبيرة منه والاعتماد على المخزون المتوافر فقط.
يقول عبدالمجيد "كنت اضطر في كثير من الفترات في ظل عدم وجود الدواء لعدم تناول الجرعات التي وضعها الطبيب في مواعيدها المحددة وهو ما كان يؤثر سلباً في حالي الصحية، وأصبحت مجبراً على الاتصال بالطبيب لكتابة بديل للدواء من المادة الفعالة نفسها".
وشهدت سوق الدواء المصرية أزمة نقص حاد طاولت عشرات الأصناف، مما استدعى موافقة الحكومة على رفع أسعار عدد كبير من الأدوية بشكل تدرجي منذ يونيو (حزيران) الماضي، وستمتد للأشهر الثلاثة المقبلة.
تطبيقات متخصصة
أصاب الإحباط واليأس محمد سامي، الذي تقاعد على المعاش، في العثور على دواء علاج ارتفاع ضغط الدم وتنظيم ضربات القلب "كونكور-5"، ودواء علاج مرض السكري "نوفونرم-2" بعد أن تجول رفقة نجله بحثاً عنه في كثير من الصيدليات الكبيرة والصغيرة في نطاق أحياء المهندسين والهرم وفيصل بمحافظة الجيزة.
ولجأ الرجل السبعيني إلى مواقع التطبيقات المتخصصة عبر الإنترنت مثل "أنستا شوب" و"فيزيتا" في محاولة لمساعدته في العثور على الأدوية الناقصة وتوصيلها لمنزله، وكانت تفلح بعض المحاولات في العثور على كميات كثيرة من أصناف الأدوية والحصول عليها بأسعارها الرسمية في السوق، وأحياناً أخرى يتعذر عليهم العثور عليها.
وعلى رغم تنبيهات الطبيب المتابع لحاله الصحية بضرورة أخذ الدواء في مواعيده المحددة إلا أن سامي كان كثيراً ما يضطر أمام اختفاء تلك الأدوية لأمرين، إما عدم تناول جرعات الدواء في مواعيدها المحددة إلى أن يتمكن من العثور عليها، أو الاتصال بالطبيب لمعرفة البديل الذي يمكن تناوله.
خدمة "توافر"
مأساة أخرى تعيشها السيدة الأربعينية غدير جعفر العاملة في إحدى شركات الاتصالات الخاصة، وتعاني اضطرابات في الغدد الصماء والتهاب المفاصل الروماتويدي، وهو ما كان يجعلها تجوب كثيراً من الصيدليات المحيطة بمنزلها للعثور على دواء "سوليبريد-5 مليغرام"، والذي يتخطى سعره الرسمي في السوق 40 جنيهاً (0.8290 دولار)، إلا أن محاولاتها كثيراً ما كانت تفشل.
ولجأت السيدة الأربعينية للبحث عن الدواء بموقع هيئة الدواء المصرية والاستعانة بخدمة "توافر" التي أتاحتها الهيئة عبر موقعها الرسمي لجميع المواطنين للاستفسار عن مدى توافر المستحضرات الدوائية في السوق الدوائية المصرية ومدى توافر بدائل خاصة به محلياً.
ووفق السيدة غدير فإنها اتبعت الخطوات اللازمة على خدمة "توافر" وبمجرد الضغط على اللينك تم فتح صفحة جديدة لملء البيانات عن أصناف الأدوية الناقصة، وتتضمن هذه البيانات مقدم الطلب سواء الاسم ورقم الهاتف أو الرقم القومي، وكذلك بيانات المستحضر محل الاستفسار وتشمل اسم المستحضر باللغتين العربية والإنجليزية والاسم العلمي والتركيز والشكل الصيدلي والغرض العلاجي للمستحضر وكذلك صورة المستحضر أو الروشتة، مضيفة أنها "فوجئت بعد أربع ساعات تقريباً بتلقي اتصال من هيئة الدواء، وقالوا لي إن الدواء متوافر في بعض الصيدليات وجرى إبلاغي بعناوينها وشعرت بأهمية تلك التجربة بخاصة في ظل تلك الأزمة".
تسعير مختلف
أما الكاتب الصحافي المصري عبدالرحمن سليم فواجه تجربة صعبة بسبب نقص حقن إذابة جلطات المخ، وعبر عنها في منشور عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، إذ يقول "بحثت على مدى ثلاثة أيام على حقن لإذابة جلطات المخ تسمى 'فورتاميند تركيز 500 مليغرام' في الصيدليات كافة داخل محيط مناطق أكتوبر ومدينة نصر والعبور بمحافظتي القاهرة والجيزة، وفكرت في استخدام خدمة توافر التابعة لهيئة الدواء المصرية ولكن لم يتصل أحد طوال أكثر من 30 ساعة كاملة، ولجأت إلى الأصدقاء والأقارب للبحث عن الدواء في الصيدليات المحيطة بهم، وبعد رحلة شاقة من البحث عثرت على ثلاث عبوات في ثلاث صيدليات في مناطق مدينة نصر والعبور وأكتوبر".
وتابع في منشوره أن "صيدلية مدينة نصر أجبرتنا على شراء الدواء بـ 300 جنيه (6.22 دولار) على رغم أن سعر علبة الدواء 52 جنيهاً (1.07744 دولار) وصيدلية السادس من أكتوبر قالت لنا إن الدواء سيكون موجود بـ 130 جنيهاً (2.6949 دولار) لأنهم سيحصلون عليه من مكان آخر، وصيدلية العبور تبيع العبوة بـ 65 جنيهاً (1.35 دولار)".
وطاولت أزمة اختفاء ونقص بعض الأدوية عدداً من الشخصيات العامة الذين عبروا عن غضبهم واستنكارهم، أمثال الإعلامي توفيق عكاشة الذي استغاث في منشور عبر حسابه على منصة "إكس" قائلاً "أنا لا أجد حقن السكر ولا دواء الضغط ولا دواء الجهاز الهضمي الخاص بي، ولا باقي الأدوية التي أتناولها يومياً، هل مصر تشهد أكبر أزمة في تاريخها منذ الفراعنة في الأدوية، فحتى أدوية البهائم (المواشي) التي أربيها لا أجدها، فهل أصبحنا نحن والبهائم سواء".
المضادات الحيوية والأمراض المزمنة
ويعزو رئيس شعبة الدواء في الاتحاد العام للغرف التجارية في مصر الدكتور علي عوف أسباب تفاقم أزمة نقص الدواء في البلاد حالياً إلى زيادة كلفة سعر الدولار وتأخر هيئة الدواء المصرية في اتخاذ قرار تحريك أسعار الدواء رسمياً، علاوة على تهريبه إلى البلدان المجاورة التي تشهد نزاعات وحروباً مثل ليبيا والسودان.
ويشير عوف في تصريح خاص إلى أن هناك نقصاً في أدوية المضادات الحيوية والحساسية والإسهال والأمراض المزمنة، موضحاً أن نسبة النقص منذ شهرين كانت تصل لـ1000 صنف دوائي، ومن المرجح أن تنخفض تلك النسبة لـ500 صنف دوائي خلال 10 أيام على أقصى تقدير، ثم ستكون نسبة النقص في معدلاتها الطبيعية بما يراوح ما بين 100 إلى 150 صنفاً دوائياً.
ويؤكد رئيس الشعبة أن أزمة نقص الدواء في طريقها إلى الحل وستختفي في غضون شهرين، وبدأت شركات الدواء تضخ الأسبوع الماضي كميات كبيرة من الأدوية في الأسواق، لافتاً إلى أن هناك شعور بالأزمة حالياً لأن هناك 80 ألف صيدلية في مصر، وإذا ما ضخت كميات من علب الدواء فستأخذ كل صيدلية بعض من الوقت حتى تصل حصة الدواء إليها.
ويتطرق رئيس شعبة الدواء إلى الأزمة التي يعانيها بعض أصحاب الصيدليات، موضحاً أن كل صيدلية تحصل على حصتها من الدواء ولكنها تواجه معضلة حالياً تتمثل في وجود سعرين للدواء، وهما السعر القديم وأيضاً الجديد الذي بدأت بعض الشركات تطبيقه تدريجاً منذ أسبوعين، مما جعل كثيراً من الصيدليات تضطر إلى الإغلاق، مؤكداً أن هيئة الدواء تتابع بشكل دوري حجم مخزون الدواء والإنتاج ومعدلاته في المخازن ولدى الموزعين حتى تتأكد من عدم احتكار الدواء وضمان وصوله إلى الصيدليات.
ويرى رئيس شعبة الدواء أنه يمكن حل أزمة النقص الدوائي نهائياً من خلال الاعتماد على الاسم العلمي للدواء وليس التجاري في كتابة الدواء، وإلزام وزارة الصحة للأطباء بهذا الأمر، مثلما يحدث في مستشفيات التأمين الصحي والمستشفيات العسكرية والجامعية ووزارة الصحة، علاوة على إصدار تشريع برلماني يقر ذلك.
ويعقب عوف على مشاهد التكدس والزحام أمام صيدلية الإسعاف التابعة للحكومة مؤكداً أنها "صيدلية محورية وتقع في موقع إستراتيجي وتعتبر أنسب الأماكن التي يوجد فيها كثير من الأدوية الناقصة التي يتعذر العثور عليها في باقي صيدليات الجمهورية، مشيراً إلى أن أي مواطن حينما يتصل بالخط الساخن رقم (16682) ويسأل عن دواء ناقص يجري توجيهه إلى أقرب فرع لصيدلية الإسعاف، ومنوهاً بأنه سيكون هناك صيدليات للإسعاف في أكثر من محافظة".
وأشار عوف إلى أن "صيدلية الإسعاف تصرف كثيراً من الأدوية الناقصة مثل أدوية الأورام وبعض أدوية الأمراض النادرة، إضافة إلى وجود بعض الأدوية المخدرة، ويتناولها مرضى الأورام في حالات الآلام غير المحتملة ويتم صرفها بروشتة مختومة من هيئة الدواء المصرية، ويخشى كثير من الصيادلة التعامل بها خوفاً من المساءلة القانونية لأنها تندرج تحت بند المواد المخدرة".
وكان وزير الصحة والسكان المصري الدكتور خالد عبدالغفار قال في تصريحات صحافية إن "حجم الإنفاق الحكومي على قطاع الصحة بلغ 32 مليار جنيه (677 مليون دولار) عام 2014، ووصل حالياً إلى 222 مليار جنيه (4.7 مليار دولار)، وبلغ عدد المرضى الذين جرى علاجهم على نفقة الدولة في الخارج والداخل 3.3 مليون مريض بكلفة 14.4 مليار جنيه (290 مليون دولار) عام 2022 في مقابل 2.9 مليون مريض بكلفة 11.1 مليار جنيه (230 مليار دولار) عام 2021، وفقاً لتقرير رسمي صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
تحت رحمة الدولار
"الدواء المصري تحت رحمة الدولار حالياً"، هكذا عقب المحامي الحقوقي والمدير التنفيذي للحق في الدواء محمود فؤاد على الوضع الذي تعانيه سوق الدواء حالياً، مشيراً إلى أن "هذا القطاع شهد تقلبات كثيرة خلال عام 2023 بسبب تذبذب سعر الصرف واستيراد 90 في المئة من المواد الخام من الخارج، وإحجام كثير من التجار وصناع الدواء عن الشراء، مما تسبب في اختفاء كثير من أدوية البرد والكحة ومحاليل الجفاف والأنسولين"، مشيراً إلى أن هناك نقصاً في 1500 صنف دوائي.
وأوضح فؤاد أن رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي اجتمع مع شركات الدواء ثلاث مرات خلال 35 يوماً من أجل حل تلك الأزمة والاتفاق على تحريك أسعار الدواء، متوقعاً انتهاء الأزمة مع نهاية أغسطس (آب) المقبل، ومردفاً أنه "سيكون هناك انفراجة قريبة نسبياً للأزمة، ولكن لن تنتهي نهائياً في ظل استمرار أزمة تذبذب سعر الدولار".
وحررت مصر سعر عملتها المحلية ثلاث مرات خلال الفترة من مارس (آذار) 2022 وحتى يناير (كانون الثاني) 2023، مما دفع الجنيه المصري نحو الانخفاض في مقابل الدولار في السوق الرسمية، مما انعكس على معدلات التضخم في البلاد حيث بلغت مستويات قياسية.
إغلاق 1500 صيدلية
وألقت الأزمة بظلالها على أصحاب الصيدليات الذين عبروا عن شكواهم من تعرضهم لضغوط شديدة من المواطنين الراغبين في الدواء، ويتعين عليهم إقناع المرضى بصرف بعض البدائل المحلية التي قد تكون أقل فعالية أو ذات أضرار جانبية.
ودفع تفاقم الأزمة أخيراً بعض الصيادلة نحو الخروج عن صمتهم، إذ تفاعل عدد كبير من رواد التواصل الاجتماعي مع شكوى إحدى الصيدلانيات التي عبرت في فيديو لها عبر منصة "إكس" عن ضيقها من شكاوى المواطنين المتكررة من نقص الدواء، ووصل الأمر لحد اتهامها بتخزين الدواء من أجل رفع أسعاره لجني الأرباح.
وعرضت الصيدلانية خلال مقطع الفيديو قائمة بالأسعار الجديدة من شركات الدواء، مستشهدة بأمثلة دواء" كونترولوك" لأمراض المعدة والذي كان بـ 75 جنيهاً (1,55 دولار) وأصبح بـ 188 جنيهاً (3.90 دولار)، و"ميلغا" من 68 جنيهاً (1.41 دولار) إلى 180 جنيهاً (3.73 دولار)، و"أوبلكس" للكحة من 19 جنيهاً (0,39 دولار) إلى 31 جنيهاً (0.64 دولار)، مضيفة أن "الصيادلة ليس لهم ذنب في ما يحدث، ونعلم أن المريض يعجز عن استكمال روشتته وأصبحنا نعاني مثله بالضبط أمراض الضغط، ولا نعلم ماذا نفعل؟".
تحريك الأسعار خمس مرات
وفي هذا الصدد قال الأمين العام للشعبة العامة للصيدليات بالاتحاد العام للغرف التجارية الدكتور حاتم البدوي إن أسعار الأدوية جرى تحريكها خمس مرات بين عامي 2017 و 2023، مشيراً إلى أن الزيادات في الأسعار أصبحت متلاحقة كل سبعة أو ثمانية أشهر وليس سبعة أو ثمانية أعوام مثلما كان يحدث في الماضي، تزامناً مع ارتفاع أسعار كُلف التشغيل 20 في المئة، علاوة على كُلف العمالة والكهرباء مما تسبب في خسارة الصيادلة، ونتج من هذا إغلاق 1500 صيدلية بناء على رغبة أصحابها من إجمال 82 ألف صيدلية تقدم الخدمة داخل 27 محافظة على مستوى الجمهورية.
وتوقع البدوي أن يتضاعف هذا العدد خلال العام الحالي، إضافة إلى احتمال تعرض بعض الصيادلة للحبس بسبب كتابة شيكات ومديونيات على أنفسهم.
ويشير البدوي إلى أن دراسة أجراها في الشعبة العامة للصيدليات توصلت إلى أنه في آخر ثلاث زيادات في أسعار الدواء خسر الصيدلي نحو 69 في المئة من قيمة رأسماله، موضحاً أن أزمة الصيادلة بدأت عام 2017 حينما حدث تعويم للعملة وطلبت شركات الدواء تحريك الأسعار بشكل رسمي، وجرى رفع الأسعار 20 في المئة.
وتابع، "أصدر وزير الصحة السابق الدكتور أحمد عماد الدين القرار رقم (23) لسنة 2017، والذي ألزم شركات الأدوية والصيدليات بالسعر المطبوع عليها، ولكن فوجئنا بعدها بأسبوع باستثناء الشركات من ذلك القرار، واعترضنا على هذا الأمر وأكدنا أن هذا القرار سيضر بالصيادلة وسيؤدي لتآكل رأس المال، ودفع الصيادلة ثمن وفاتورة هذا القرار المخالف لقانون ممارسة مهنة الصيدلة رقم (127) لعام 1955، موضحاً أن وزارة الصحة ألزمت وقتها الصيدليات بالبيع بالسعر الجديد لأن الدواء في مصر مسعر جبرياً".
ووفقاً للبيانات الصادرة عن مؤسسة "آي كيوفيا" المعنية برصد مبيعات سوق الدواء المصرية، فقد بلغت مشتريات المصريين من الأدوية المبيعة عبر الصيدليات 142.7 مليار جنيه (2.95 مليار دولار) خلال الفترة من سبتمبر (أيلول) 2022 إلى سبتمبر 2023، بزيادة تتجاوز 18 في المئة، مقارنة بالفترة ذاتها من العام السابق له، وبلغ حجم تجارة الأدوية 140 مليار جنيه مصري (2.89 مليار دولار) خلال العام 2023، وفقاً لأرقام غرفة الدواء باتحاد الغرف التجارية المصرية.
الصيادلة يدفعون الثمن
ويعضد الطرح السابق حديث رئيس لجنة التصنيع الدوائي واللجنة الإعلامية بنقابة صيادلة القاهرة الدكتور محفوظ رمزي، موضحاً أن أزمة الصيادلة حالياً تكمن في وجود سعرين للدواء، وهي أزمة يدفع ثمنها الصيدلي وحده، مشيراً إلى أن هذا الأمر أجبر الصيادلة على توفير الدواء نفسه بأكثر من سعر، مما خلق حالاً من التخبط واللغط ومعاناة اقتصادية ضاغطة للحفاظ على رأسمال الصيدلية الذي أكلته التسعيرتان والتضخم.
ويشدد رمزي على ضرورة أن تكون هناك عدالة في توزيع الأدوية، مشيراً إلى أن دورة توزيع الدواء منذ دخوله للإنتاج وحتى وصوله للصيدليات تستغرق ما بين 15 إلى 20 يوماً، وموضحاً أن هناك مواد ومستلزمات إنتاج متوافرة في المصانع، ولكن بعض العمليات الفنية اللازمة لتغطية حاجات السوق تستغرق وقتاً مما يؤدي إلى نقص بعض الأدوية.
اللاجئون يستهلكون الدواء المصري
رئيس لجنة التصنيع الدوائي بنقابة صيادلة القاهرة أكد أن هناك نقصاً كبيراً في بعض أصناف أدوية الأنسولين والضغط والسكر والبرد والمضادات الحيوية بالأسواق، مرجعاً تفاقم أزمة النقص الدوائي إلى قيام كثير من اللاجئين والأجانب المقيمين بمصر بإرسال الدواء المصري إلى ذويهم وأقاربهم في الخارج، مما ضاعف حجم الاستهلاك المحلي للدواء 25 في المئة، علاوة على ارتفاع كلفة سعر الدولار.
واعتبر رمزي أنه في ظل وصول الدولار إلى 70 جنيهاً في السوق السوداء كانت الدولة توفره لشركات الأدوية بـ 30 جنيهاً (0.62 دولار حالياً)، وعندما تغير سعر الدولار إلى 48 جنيهاً زادت الكلفة على الشركات، موضحاً أن الدواء السلعة الوحيدة المسعرة جبرياً طبقاً لقانون التسعيرة الجبرية، ومتوقعاً حدوث انفراجة قريبة في الأزمة خلال الفترة المقبلة.
ورأى أن "بعض مصانع الدواء بدأت تطور من نفسها وتغير خطوط الإنتاج، والدولة المصرية تحاول جاهدة توفير كل الإمكانات للمصانع وشركات الأدوية، منوها أنه تم إنتاج نحو 4 مليار علبة دواء خلال عام 2022".
وارتفع عدد مصانع الأدوية المرخصة في مصر من 130 مصنعاً بإجمال 500 خط إنتاج عام 2014 إلى 191 مصنعاً تمتلك 799 خط إنتاج خلال الفترة الحالية بنسبة نمو 37 في المئة في عدد المصانع، و60 في المئة بخطوط الإنتاج، بحسب هيئة الدواء المصرية.
وكان نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الصحة والسكان الدكتور خالد عبدالغفار أعلن خلال مؤتمر صحافي قبل أيام أن قطاع الصحة يحتاج إلى 350 مليون دولار شهرياً لشراء الأدوية والمستلزمات الطبية، مما يعني أن الفاتورة تبلغ سنوياً 16.8 مليار دولار، موضحاً أن الحكومة اعتمدت على "فقه الأولويات"، إذ كانت الأولوية لشراء "أدوية الأورام والمناعة والأمراض المزمنة وبعض المستلزمات الطبية الأساس".
وتوقع عبدالغفار عودة الاستقرار إلى سوق الدواء في غضون شهرين إلى ثلاثة على أقصى تقدير، مضيفاً أن "كل 100 عبوة دواء يتم إنتاجها يذهب منها 70 في المئة للقطاع الخاص و30 في المئة إلى الحكومة"، موضحاً أن "مصر تنتج 91 في المئة من الأدوية التي تحتاج إليها السوق، بينما تسعة في المئة فقط تستورد"، مشيراً إلى أن مصانع الدواء لديها مخزون إستراتيجي يكفي لسبعة أشهر.
نداءات برلمانية
ووصلت أزمات قطاع الدواء لأروقة البرلمان المصري وتعالت النداءات والصيحات المتكررة من أعضاء مجلس النواب للمطالبة بضرورة التصدي لها ووضع حلول جذرية، كما تقدم كثير من نواب البرلمان بطلبات إحاطة ضد بعض المسؤولين عنها.
وفي هذا الصدد تقول عضو لجنة الصحة بمجلس النواب الدكتورة إيرين سعيد إن شركات الدواء كانت أمام مسارين لا ثالث لهما، إما أن تصنع وتخسر أو توقف خطوط الإنتاج لحين زيادة الأسعار، وهيئة الدواء وافقت بالفعل على تحريك الأسعار ولكن القدرة الشرائية للمواطن لن تتحمل تلك الزيادات المتتالية.
وتمضي قائلة إنه "لا يعقل أن يكون هناك نقص في أدوية الأورام والأنسولين في الأسواق"، مضيفة أن "هناك نقصاً في الدواء بنسبة 50 في المئة، والمواطن يشعر بذلك في الشارع المصري، وبخاصة في أصناف الأدوية المزمنة"، وموضحة أن "قطاع الدواء في مصر مقسم إلى ثلاثة أجزاء، القطاع الأول يضم 10 في المئة من شركات قطاع الأعمال العام، و50 في المئة للمستثمرين المحليين، والباقي استثمار خارجي".
وطالبت عضو لجنة الصحة بضرورة وضع ملف توطين صناعة الدواء والمستلزمات الطبية على رأس أولويات الحكومة، وتعزيز صناعة الأدوية المحلية من طريق توفير المزيد من الدعم المالي والتسهيلات للشركات المصنعة مما يساعدها في تصنيع مزيد من الأدوية المحلية وتوفيرها للسوق، وذلك من خلال تسهيل إجراءات الاستيراد لتجاوز تحدي ارتفاع أسعار المواد الخام، علاوة على إنفاق الدولة على شركات قطاع الأعمال العام لإنهاء الأزمة ودعم خطوط الأدوية، فضلاً عن عمل مخازن إستراتيجية لتخزين الدواء لمدة ستة أشهر حتى يكون هناك توافر مخزون في حال الطوارئ، ولا يشعر المواطن بالأزمة إذا ما تكررت، متسائلة "هل يعقل أن نستورد كرتونة تغليف علبة الدواء من الخارج؟".